(سرير بروكرست) .. تعامل العقول مع الصراعات
بقلم : عبدالله جناحي
المقصود بالصراعات، جميع أنواعها، سواء أكان هذا الصراع محلياً: سياسياً أو اجتماعياً أو فكرياً. أو كان عالمياً، وحوله خلاف واستقطاب حاد. ولنأخذ نموذجاً من هذه الصراعات، وليكن الصراع الروسي/الأوراسي من جهة، مع أوكورانيا/أمريكا وأوروبا الغربية من جهة مقابلة.
بالطبع من حق أي شخص أن يتبنى موقفاً مؤيداً لروسيا وغزوها لأكورانيا، وتبيان أسباب هذا الدفاع، أو من حق الشخص الآخر أن يتبنى الموقف المعاكس، ورفض هذا الغزو باعتباره احتلالاً لدولة مستقلة، وتبيان أسباب هذا الرفض. وبالطبع هناك من يرى نفسه في (منزلة بين المنزلتين) حسب مبدأ المعتزلة في الصراع التاريخي الذي حدث بين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. فلا هو من الغزو الروسي لاوكرانيا، ولا مع أوكورانيا التي رحبت بدول الغرب وحلف الناتو، وشجعت الحركات النازية والعنصرية ووو. ولا هو مع وجود قطب واحد إمبريالي رأسمالي نيوليبرالي متوحش إنسانياً، ومع تعددية الأقطاب بين شعوب كوكبنا، ولكنه يتحفظ على الطريقة الروسية العسكرية في تشكيل عالم متعدد الأقطاب، ويتحفظ على المضمون الأيديولوجي والسياسي للقطب الجديد الذي تحاول روسيا قيادته، باعتبارها دولة رأسمالية أوليغارية، تحلم بعودة الإمبراطورية الأوراسية، بقيمها العرقية والإثنية والأرثوذكسية المطلقة.
أقول من حق أي شخص أن ينحاز في هذا الصراع للمعسكر الذي سيحقق مصالحه الطبقية والوطنية والقومية. لكن! وفي محاولة الإقناع والترويج والتسويق لموقفه ينفذ بالمطلق المَثَلْ البحريني/الخليجي: (كلن يدني الضو-أي النار- صوب قرصه)!. هذا المثل الشعبي المكثف عميق المعنى، هو ذاته ما يسمى فلسفياً بظاهرة (سرير بروكرست)، وهي أسطورة يونانية تحكي بأن بروكست الحداد وقاطع الطرق، كان يهاجم الناس في الغابة ويربط الشخص فوق سريره الحديدي، فإذا كان الشخص أطول من السرير قام بقطع وبتر وقص الجزء الزائد من جسده، أما إذا كان ذلك الشخص قصير، قام بشد ومط جسده حتى يصبح على مقاس سريره. أما إذا تساوى طول الضحية مع طول السرير، فإن بروكرست يتركه ليمر بسلام. الأهم أن يتساوى طول ذلك الشخص مع طول سريره.
يطلق لفظ (البروكرستية) على أي نزعة إلى "فرض قوالب" على الأشياء والأشخاص والأفكار والأحداث والمواقف. أو ليّ الحقائق أو تشويه المعطيات، لكي تتناسب قسراً مع مخطط ذهني مسبق. ومن الأمثلة ما ينتشر في الإعلام السياسي من "قولبة" الأحداث لتؤدي إلى تصورات مقصودة، فتخلق في أذهانهم رأياً عاماً مقولباً.
وحسب نموذجنا-الصراع الروسي الاوكراني- الجميع على وعي تام بأن البروبغندا الإعلامية، وتضخيم قوة الذات، وتصغير قوة الآخر، وفبركة الأحداث وتشويه مواقف الآخر. كلها تعتبر جزءاً أساسياً في هذه المعركة. ولكن البعض من هذا الجميع، وبشعور واعٍ أو لاشعور يبحث عمّا يرضي قناعاته من مصادر يرتاح منها ويعتبرها ذات مصداقية، ويبدأ في نشرها بحماس و"تعصب" ليؤكد صحة موقفه، وليضعف الموقف الآخر. وهو في هكذا حالة (بروكرستية)، يهمل تماماً أي تحليل أو موقف أو حدث أو خبر أو فيلم أو صورة-قد تكون صحيحة- ولكنها تتعارض مع "سريره" العقلي، فيبدأ بقصها وبترها وإخفائها وعدم نشرها، بل والإحساس بانزعاج وغضب منها لأنها فد تهز وتمس قوالب ذهنه وسريره البروكرستي الحديدي.
الحالة البروكرستية موجودة منذ القدم، سواء في بيوتنا، عندما يحاول رب الأسرة قولبة الأبناء حسب مقاس قناعاته "وسرير" عقله. وفي مجتمعاتنا عندما يحاول كل طرف أن يثبت صحة أفكاره ومعتقداته، فيسرع دون تفكير، بل وبفرح ونشوة، في نشر ما تصله من وسائل التواصل على الآخرين. فيمحو وبسرعة كل ما تصله من تحليل أو أفلام إلخ، ويمتنع وصولها للآخرين، بمجرد أنها متعارضة مع "سريره" العقلي. ولدى حكوماتنا أيضاً ذات السلوكيات، في تصريحاتها وإعلامها وسياساتها، فلا تروّج إلا لما يرضي رأس الدولة ويزيد من نرجسيته وتضخم ذاته، وتقمع وتشوه وتحاكم وتعزل الآخر المختلف، أكان فرداً أو جماعة، حتى ولو كان في قرار عقلاء الحكومة بأن وجودهم وتشجيعهم مفيد للحكومات. وهذا السلوك (البروكرستي) موجود في جميع الأحزاب من كل التيارات، و بالأخص المؤدلجة بعقائد وإيديولوجيات، تحولت نصوصها البشرية لمقدسات. تلك النصوص التي أصبحت بالضبط كسرير بروكرست اليوناني، فإذا الوقائع والأحداث تعارضت مع تلك النصوص فيجب تأويل تلك الوقائع ومكيجتها وشدها وقصها لتنسجم مع تلك النصوص الصنمية الحديدية المقدسة.
ما هي نتائج انتشار حالة البروكرستية في عقولنا وواقعنا وإعلامنا وسياسات حكوماتنا؟
التلاعب بالعقول البسيطة الشعبية - الخداع وعدم نشر كل الحقائق- وبالتالي الغياب التام لقيم الشفافية وإخفاء المعلومات- تعزيز قيم التعصب للرأي الواحد- التوتر والغضب، بل وتراكم الحقد على الآخر المختلف- تراجع واضح في التفكير الموضوعي العقلاني المؤمن بنسبية الأشياء والمواقف والأفكار، وتضخم في التفكير العاطفي اللاعقلاني المؤمن بمطلقية الأشياء والمواقف والأفكار.
هل من مزيد من النتائج السلبية في وجود سرير حديدي في العقول؟ سأترك للقارئ البحث.
هل من نتائج إيجابية لهيمنة عقل مقولب صنمي، كسرير بروكرست؟اسألوا قاطع الطريق والحداد اليوناني (بروكرست): كم من ضحاياه من البشر تركهم يرحلون بسلام، ولم يقطع أوصالهم، لأن أجسادهم تساوت مع طول سريره؟ أشك بوجود أحد، حتى بروكرست نفسه لو نام على سريره الجامد الصنمي، سيكتشف بأن عليه أن يقطع جزءًا من جسده، أو يبتر كل دماغه !!!.
