DELMON POST LOGO

نهار آخر .. بيروت التي نحب

بقلم: رضي الموسوي
بيروت تستحق أكثر مما نعتقد جميعاً..بيروت أم العواصم وأم القصص..كانت عاصمة الأحرار..عاصمة حركات التحرر العربية والعالمية، والمدينة التي لم يشعر فيها المرء بخوفٍ أن يستيقظ يوما على ركلات جزم رجال الأمن والجند المبعثرين في العواصم العربية، يقومون باقتياده إلى غرفة التحقيق والتعذيب.
من حق بيروت علينا أن نتحسس وجعها وأن نشاركها الألم، وأن نساهم بمقدارنا المتواضع في تضميد جراحاتها الغائرة، وأن ندعو أشقاءنا في الخليج للمشاركة في واجب استنهاض مدينة ليست كالمدن. هي التي احتضنت أحرار العالم الهاربين من بطش أنظمتهم. حنّت عليهم وحمتهم وضمّتهم بين ضلوعها  ووضعتهم في أحداق عينيها، فانتقم أعداؤها منها وبضّعوا جسدها وامعنوا في البطش بها وفجروا في خصومتهم معها.
هي بيروت العلم والمعرفة. هي الجامعة الأمريكية وهي تُخرّج طاقات علمية وكوادر سياسية من طراز جورج حبش ووديع حداد وأحمد الخطيب وسلطان أحمد عمر وعبدالرحمن النعيمي وعبدالنبي العكري وليلى فخرو..وقافلة من المناضلين والأكاديميين الذين تخرجوا من جامعات لبنانية أخرى ومنها جامعة بيروت العربية تم بناؤها بجانب سجن الرمل، وكان سجناؤه يتبادلون الاخبار مع طلبتها عبر مكبرات الصوت، ثم تم ضم السجن الى الجامعة، وكان الزعيم الراحل جمال عبدالناصر هو الذي اطلق عليها هذا الأسم.
هي بيروت الفاكهاني وصبرا وشاتيلا، حيث صعق العالم من هول المجازر التي أرتكبت في مخيميها، ولأن هذا العالم بلا ضمير فقد التزم الصمت.. والتأييد في بعض الاحيان.
 
بيروت ليست "سوليدير" الحيتان، بل هي رأس النبع والخط الأخضر الذي ارتقي ثلة من المناضلين سطوح عماراته الخربة. ثلة آمنوا بوطنهم وأمتهم فرصدوا تحركات الغزاة الذين جاءوا في لحظات التيه والضعف وضياع البوصلة. ثلة تمكنت من إيقاف تقدم الغزاة وإعادة الاعتبار للناس..إلى الطفلة "ندى" ذات الثمانية أعوام وهي تُقبل حاملة قهوة الصباح مرددة: "عمو هيدي من ماما وبتقول الله يحميكن" (ندى اليوم امرأة في نهاية عقدها الرابع).
هي بيروت التي رقصت صباح السادس من أكتوبر 1981 فرحًا بتصفية رأس الخيانة وهي التي لم تنفض بعد شظايا انفجار منطقة جامعة بيروت العربية ودماء الشهيدات عاملات معمل الخياطة والشهداء الذين مرّوا صدفة عند "مقهى أبو شاكر" بالقرب من صالة جمال عبدالناصر، حيث تساقطت الأشلاء فوق الرؤوس من قوة العبوة التي زرعها أعداء بيروت والناس.
هي بيروت كورنيش المنارة وقد ازدحم بأجساد فقراء المدينة ولاجئيها عصرية الأحد، وقد أعطوا ظهورهم لحيّ "عين المريسة" الذي يحتضن نصب عبدالناصر..ويبعدوا عن "الزيتونة" التي يعرفون، وليس زيتونة مُحدثي النعمة. فقراء أرادوا استنشاق هواءٍ عليلٍ فأطلقوا سيقانهم صوب الروشة وحمامها العسكري، ووقفوا يراقبون من بعيد شاطئ الرملة البيضاء والسفارة التونسية حيث احتدمت المعارك مع الغزاة ذات صيف ملتهب تجسّدت فيه إرادة الأمة في قبضات شباب جُبِلوا على النضال ولم تردعهم القنابل المضيئة التي أنارت سماء المنطقة الحالك.
هي بيروت شارع الحمراء الذي شهد على قدرة الشعب اللبناني على المقاومة وطرد الغزاة بدءًا من مقهى المودكا والومبي، حيث كان الشباب في انتظار أصحاب النياشين بالمرصاد.. وهي بيروت التي سجّلت لأحمد قصير أسطورة مواجهة المحتل بالحديد والنار المتطاير من تلك الحافلة لتصحو بيروت على أكثر من 200 جثة للجنود الغزاة.
هذه الـ..بيروت تستحق رد الجميل..تستحق رد الدَّين المعلق في أعناقنا حتى يوم الدِين..تستحق قبلة على جبينها الساطع دوما بعنفوان لم يتمكن اخفاءه الحزن والتعب الذي تسبب فيه أولئك الذين أرادوا لها الصمت والارتداد على نشأتها الأولى. ارادوا الانتقام منها لأنها وقفت بكبرياء يفتقده الاخرون.
قبلة لبيروت يطبعها على خدها الطاهر كل من يحنُّ لزمنٍ جميلٍ يحلم بيوم أكثر بهاءً لبيروت...ولنا.
ألم تمنح السيدة فيروز بيروت مجدًا من رماد؟!