DELMON POST LOGO

نهار آخر .. زغردي يا أم كريم من سماءِ جنّتكِ

بقلم: رضي الموسوي
ببرود دم أي نازيٍ جديد يتلذذ بعذابات ضحيته، وعلى طريقة العصابات الأولى مثل شتيرن والهاغانا وأرجون وبلماح التي شكلت كيان الأبارتهايد الفاشي قبل 75 عاما، أقدمت قوات الاحتلال في ساعات مبكرة من اليوم الخميس الخامس من يناير/ كانون الثاني 2023، على سرقة فرحة عميد الأسرى المحرر كريم يونس الذي انتهت محكوميته اليوم، تمثلت في تفاصيل عملية الإفراج عنه؛ فمثلما اختطفته هذه العصابات قبل أربعين عاما، قامت اليوم بتركه وحيداً في منطقة (رعنانا) في أراضي الـ48 دون أن تبلغ أحداً من أفراد عائلته، وفق قول الناطق باسم مكتب إعلام الأسرى حازم حسنين. ولأنه طبع الفاشية والنازية الجديدة، فقد اقتحمت قوات الاحتلال منزل كريم قبيل الإفراج عنه بساعات وصادرت الأعلام الفلسطينية ومظاهر الفرح من المنزل، ورفضت أن يكون الاستقبال بمهرجان شعبي. هكذا ترتعد فرائص الفاشية من نسمات الحرية وتخاف من فرحة وطن جابت أرجاء فلسطين احتفاءً بخروج كريم من سجون النازية الجديدة.
كالطود الشامخ وقف كريم صباح اليوم محتارا في محطة الحافلات، فالتقت عيناه بعمال فلسطينيين. طلب منهم هاتفا ليتصل بأهله الذين لم يعرفوا أين هو، ولا هو كان يعرف. اتصل بأهله فأسرعوا إليه ونقلوه إلى حيث يجب أن يكون..في منزله الذي خلا من أمه وأبيه. رحل والده في عام 2013، ورحلت والدته في الخامس من مايو/أيار 2022،وهي تمني نفسها احتضانه حرا طليقا.
بعد أربعين عاما قضاها في سجون الاحتلال ذاق فيها مرارة التعذيب والحبس والتنكيل، خرج أقدم سجين في العالم من بطن حوت الاحتلال الصهيوني: الأسير كريم يونس، الذي تم أسره وهو على مقاعد الدراسة بجامعة بن غوريون داخل الخط الأخضر، وذلك في السادس من يناير/كانون الثاني 1983، وكان اعتقاله أشبه باختطاف العصابات، إذ أن عائلته لم تعرف عنه شيئا، وظلت تبحث عنه حتى علمت أنه في سجن عسقلان. بعد تحقيق صوري وجهت له تهما جاهزة اعتاد عليها الفلسطينيون وكل أحرار العالم، منها حيازة أسلحة محظورة وتهريبها للمقاومة الفلسطينية والانتماء إلى منظمة محظورة (حركة فتح)، وقتل جندي صهيوني. أولى الأحكام التي صدرت بحقه كان الإعدام شنقا، ثم السجن المؤبد لفترة مفتوحة، واستقر الحكم النهائي على 40 عاما قضاها بالكمال والتمام.
كريم يونس من مواليد عام 1958، من بلدة (عاره) في المثلث الشمالي بأراضي الـ48 والتي عاد إليها اليوم. قبيل خروجه من السجن بأيام، كتب رسالة كأنه أراد فيها بدء البوح بشيء ما، حيث جاء في مطلعها: "سأترك زنزانتي، بعد أيام قليلة (اليوم)، والرهبة تجتاحني باقتراب عالم لا يشبه عالمي، وها أنا أقترب من لحظة لا بد لي فيها إلا وأن أمرَّ على قديم جروحي، وقديم ذكرياتي، لحظة أستطيع فيها أن أبتسم في وجه صورتي القديمة، دون أن أشعر بالندم، أو بالخذلان، ودون أن اضطر إلى أن أبرهن البديهي الذي عشته، وعايشته على مدار أربعين عاما، علّني استطيع أن أتأقلم مع مرآتي الجديدة، وأنا عائدٌ لأنشد مع أبناء شعبي في كل مكان نشيد بلادي، نشيد الفدائي..نشيد العودة والتحرير".
**
كأني بكريم، وهو يتلقّى التهاني والتبريكات من أهل فلسطين والعالم، يردد أغنية التحدي والحرية الخالدة التي انطلقت من سجون الانتداب وردّدها سجناء الرأي والضمير في فلسطين وكل سجون العالم التي ضاقت بالأحرار المطالبين بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في دولة المواطنة المتساوية..الدولة المدنية الديمقراطية. كأنِّي به ينشد القصيدة الشهيرة "يا ظلام السجن" التي ألّفها الكاتب الصحافي السوري نجيب الرّيس سنة 1922 في سجن جزيرة أرواد السورية إبان الانتداب الفرنسي:
"يا ظلام السّجن خيّم      إننا نهوى الظلامَا
ليس بعد الليل إلا          مجد فجر يتسامى".
قصيدة صارت أشبه بالنشيد الوطني لكل معتقلي الرأي والضمير والسجناء السياسيين الفلسطينيين والعرب، وأحسب أن كريم يونس ردّدها آلاف المرات طيلة 14600 يوما في زنزانة أراد منها الاحتلال فتّ عضده ورفاقه، لكن هذا الطود كسر عنجهية السجّان، فواصل دراسته ودرّس الأسرى وألّف كتابين مهمّين هما "الواقع السياسي في إسرائيل"، و"الصراع الآيدلوجي والتسوية". يقول أحد أقرباء كريم: "إن كريم يسأل كثيرا عن الأشخاص والأمكنة بتفاصيلها، ما يؤكد على ذهنية متّقدة ومتوثّبة لمعرفة المزيد..لقد انتصر على السجّان".
**
أربعون عامًا لم يمشِ كريم يونس أكثر من عشرين مترا بشكل مستقيم..أربعون عاما لم يرَ كريم فيها السماء دون أسلاك شائكة..أربعون عاما تنقَّل فيها بين عدد من سجون الاحتلال البالغة ثمانية عشر سجنا رهيبا تنشر الموت، موزّعة على فلسطين المحتلة عام 1948، أراد النازيون خلالها كسر إرادته، لكن كريم كسر شوكتهم.
سيتذكر كريم رفاقَه، وهم وراء القضبان يرددون:
"يارنينَ القيدِ زِدني     نغمةً تُشجي فُؤادي
إنّ في صَوتكَ معنى    للأسى والاضطهادِ".
خرج كريم يونس من أسره وتنفّس هواء الحرية، لكن هناك آلاف الأسرى ما زالوا يواجهون نازية الاحتلال وفاشيته، وفي مقدمهم الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أحمد سعدات وأمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح في الضفة الغربية مروان البرغوثي وأكثر من 4500 أسير فلسطيني بينهم نساء وأطفال وأصحاب أمراض مزمنة وخطيرة، يتطلب إخراجهم تصعيد النضال ضد الإحتلال ونظام الأبارتهايد العنصري.
بعد خروجه بساعات قليلة، قالت إحدى قريبات كريم في منزله وهي تلوِّح بالعلم الفلسطيني:
أرادوا منعنا من فرح الإفراج عن كريم، لكننا نعرف جيدا فاشيتهم..نحن نعرف كيف نخلق الفرح من رحم الألم.
كريم يونس..
كم أنت كريم في عطائك وتضحياتك من أجل فلسطين.. لك أن تبتسم لصورتك القديمة دون أن تشعر بالندم أو الخذلان.
وأنت يا أم كريم لك أن تزغردي من سماء جنتك الفسيحة.