DELMON POST LOGO

حان الوقت لإصلاح البوصلة ..

بقلم محمد حسن العرادي

يبدو أن المشهد في منطقة الخليج العربي بات محتدماً إلى حد الخوف والتوتر من وقوع حربٍ شرسةٍ لا تبقي ولا تذر ولا تدعُ حجراً فوق حجر، وتتداعى بشكل ممجوج دعوات قيام وتأسيس الأحلاف العسكرية التي تجعل من إيران العدو الرئيسي، ليس لدول الخليج العربية فحسب، بل للأمة العربية جمعاء،  
إنها الأكذوبة الأمريكية الصهيونية التي يتم الترويج لها لتسهيل القبول بالدولة اللقيطة "إسرائيل" كإبن شرعي يتمتع بكامل أوصاف الشخص الطبيعي الذي حظي بولادة شرعية معترفٍ بها، وبشهود عدول يتمتعون بحق النقض - الفيتو- في مجلس الأمن الدولي أيضاً.
أمريكا تضع اللمسات والمساحيق الأخيرة لتجميل وجه "إسرائيل" القبيح وقبولها شريكاً كاملاً في خديعة السلام الإبراهيمي التي يروج لها منذ سنوات في المنطقة بهدف نسف القضية العادلة لشعب فلسطين وتمرير صفقة القرن الساقطة، والمعدة بالأساس لسرقة ما تبقى من القدس وفلسطين العربية، من خلال التمهيد لدخول الصهاينة عبر النوافذ الخلفية المشبوهة بعد أن فشلوا  في الدخول عبر الأبواب الشرعية التي أُوصدت في وجوههم طويلاً بسبب الوعي بطبيعتهم العنصرية وأساليبهم الإحتلالية البغيضة، وهكذا يجري الحديث عن إقامة - حلف ناتو عربي- يضم بعض الدول العربية ليكون حائط صدٍ يقفُ في وجه إيران ويوفر الحماية للدولة اللقيطة.
وفي أبسط الأحوال يطيل عُمر هذا الكيان المسخ القائم على إنتهاك حقوق أهلنا وإخوتنا في فلسطين وإبتلاع أراضيهم قطعة قطعة، الأمر الذي سينتهي إلى زوال حتمي وليس في ذلك شك باعتباره كياناً طارئاً وغريباً تم زرعه في عتمة الليل على يد المتأمرين الذين وجدوا في وعد بلفور المشئوم الوسيلة المثلى للتخلص من صلف وغطرسة وهيمنة الصهاينة على مُعظم مقدرات اوروبا وشعوبها، وهكذا يتم تسويق قذارتهم وافضع سلوكياتهم الى منطقتنا العربية ليقوموا بالدنيئ من الأدوار ويحققوا السيئ من الأغراض المشبوهة التي ستصبح أكثر وضوحاً أمام الأجيال العربية، مهما طال زمن التشوهات السياسية والفكرية المغلفة بالحداثة والإنفتاح والتطور المزعوم الذي تقوده الصهيونية مدعوماً بالهيمنات المالية والعسكرية والتكنولوجية العالية.
البعض يُريد منا أن نقتنع بأن إنحراف البوصلة وإستبدال العداء المتأصل فينا ضد "إسرائيل" بالعداء للجارة المسلمة إيران، بل والعمل على تمرير وجود "إسرائيل" كأمر طبيعي ومنطقي مُكرساً بذلك الخلافات المذهبية والطائفية التي تستبدل عدواً حقيقياً "إسرائيل" بعدوٍ وهميٍ هو إيران، التي مهما كانت درجة إختلافاتنا معها ستظل تربطنا بها الكثير من الأواصر التاريخية والحضارية والدينية المشتركة التي جمعت بين الأمتين الإيرانية والعربية على مدى قرون من الزمن الساكن في العقل والوجدان والضمير المشترك.
أن المنطق والوعي والصيرورة التاريخية تنبئنا بأن هذا لن يحدث ابداً مهما صُرفت المليارات من الأموال ومهما وضُعت الخطط التآمرية، ونُفذت برامج غسيل الدماغ الثقافي والنفير الإعلامي الموجهة عبر المحطات الفضائية والصحف الصفراء ووسائل التواصل الإجتماعية الصهيونية الهوى والهوية ومهما تلبست بالحرية والموضوعية الكاذبة.
أمريكا العاجزة عن تحقيق النصر ضد روسيا أو وقف زحف جيوشها الجرارة وتقدمها الساحق والماحق على الجبهة الأوكرانية، أمريكا غير القادرة على توفير الحماية لحلفاءها، الفاشلة حتى الآن في خلق الشعور بالأمان للدول الناتجة عن ولادات قيصرية مشوهة تم إبتسارها من حدود الإتحاد السوفيتي من أجل أن تكون قذى في عيون الدب الروسي المتوقد والمتحفز لاستعادة النظام العالمي متعدد الأقطاب، أمريكا الفاشلة في توفير الأمن والأمان وضمان المستقبل لربيبتها الصهيونية "إسرائيل" وحمايتها من صواريخ المقاومة الدقيقة وغير الدقيقة والتي باتت تهددها في عمق كيانها الهش الذي يتم اختراقه كل يوم من قبل أبطال فلسطين الأشاوس لتنفيذ عمليات بطولية تحت أعين أجهزتها الأمنية الفاشلة، وعبر اختراق قبتها الحديدية التي تحولت إلى شباك مرمى ضعيف يتلقى الاهداف وقت تشاء المقاومة الفلسطينية من عدة جهات وفصائل صارت قادرة على ارسال سيلٍ من الصواريخ المنهمرة على الكيان من لبنان وغزة وغيرها.
لقد وصل هذا المولود غير الشرعي إلى العجز والتهديد الجدي حتى عن مواجهة مخيم جنين الفلسطيني البطل الذي لاتزيد مساحته كيلومتر مربع واحد، فكيف تريد أمريكا  اقناعنا بأنها أو وكيلتها "اسرائيل"  قادرين على حمايتنا من أي تهديد يطالنا، خاصة وأن الجميع يعرف سياسات أمريكا المكياڤيلية والتي لا تنتهج التحالف إلا لتحقيق المصلحة -مصلحة أمريكا بالأساس- ولنا في التاريخ عبر وليس عبرة واحدة، وكيف تخلت عن دولٍ كانت تدعي حمايتها وتركتها لمصيرها المجهول من الفوضى والتشرذم كما حدث في أفغانستان،
أمريكا تتعامل مع دول العالم مثل لعبة تديرها على رقعة الشطرنج، وهي تصنف نفسها اللاعب الأول والأساس، الذي يعطيها الحق في تحريك هذه القطع وفق مصلحتها في اللعبة وإن خالفت القواعد، والشواهد أكثر من أن تحصى.
إن هذه المحاولات المستمرة والبائسة لشيطنة إيران التي تعايشنا معها عدة قرون في ودٍ وسلامٍ قبل أن يهبط علينا الأمريكان بالبرشوتات كغربان سوداء تحمل الموت والدمار والامراض الفتاكة وانتهاك حرية وأمن الأوطان،  وقبل أن يسيطروا على مياهنا وسمائنا ويشعلوا الحروب فوق أراضينا العربية للتحكم في ثرواتنا ومقدراتنا الاقتصادية وقراراتنا السياسية والسيادية، لكن جميع هذه المحاولات ستبوء بالفشل، وسترحل الأساطيل الحربية التي تلوث مياه الخليج العربي بالمخلفات النووية والكيمائية، وستنسحب وهي تجر أذيال خيباتها وفشلها الذريع، إذا ملكت الدول العربية قرارها ومقدراتها وفرضت رؤيتها ومصلحة شعوبها وأوطانها، كما فعلت دولاً يشار لها بالبِنان تمكنت من تلقين أمريكا درساً في احترام سيادة الدول واستقلالها.
لماذا نقول ذلك، لأننا نرى التناقض الواضح الذي تمارسه أمريكا في المجالات السياسية والجيوستراتيجية، فهي من جهة تقدم لنا إيران باعتبارها الذئب المفترس الذي سينقض علينا بمجرد أن نغفل أو نٌغمض عًيوننا، لكنها من جهة اخرى تمارس  التقّية السياسية والعسكرية مع إيران، وتتفاوض معها في السر والعلن منذ أكثر من أربعين عاماً وتسعى لتثبيت التساكن الدائم والتوازن الضامن لأمن وسلامة "إسرائيل" اولاً وأخيراً، غير مكترثةٍ بأي تهديد حقيقي قد تشكله إيران أو غيرها ضد دولنا وشعوبنا، وها هي تسعى من باب تغليب المصالح الأمريكية لتوقيع الاتفاق النووي مع ايران.
إننا نشاهد بأم أعيننا مقدار التعامل بالإحترام والندية بينها وبين إيران من خلال مفاوضات فيينا المستمرة منذ سنوات، وسعيها لتحاشى الصدامات العسكرية مع إيران حتى ولو بلعت أمريكا على ذلك الإهانات والغصص وتقبلت المذلة كما حدث مع سفنها التي حوصرت أكثر من مرة وطائراتها التجسسية التي أنزلت أو أنذرت بالإبتعاد عن الأجواء الإيرانية في أكثر من مناسبة وليست كارثة صحراء طبس عنا ببعيد.
وفي الأمس القريب أعادت امريكا إرسال مندوب الناتو السيد جوزيب بوريل ليفاوض الإيرانين ويترجاهم القبول بالعودة للاتفاق النووي (5+1)، بعد أن كان قد هدد وتوعد بأقصى الضغوطات ضد إيران قبل أيام مضت إن هي لم ترضخ وتأتي صاغرة ذليلة لبيت الطاعة الأمريكي حيث شهود العقد جاهزون للبصم والتصفيق  والطرب والغناء والرقص على حساب مصالحنا، وهكذا وجدنا ان تلك التهديدات سرعان ما تغيرت إلى حديث ودي يتم تسويقه مكللاً بألطف العبارات والابتسامات واللقطات التصويرية فوق البساط الإيراني الأحمر، نتيجة تمسك ايران بموقفها واحترامها لذاتها، وها هي الجولات الحوارية تنتقل إلى مدينة الدوحة القطرية لتكون على مرمى حجر من الأراضي الإيرانية بهدف إظهار حسن النوايا والتماهي مع التطلعات الإقليمية لايران.  
من جهة أخرى، نجد أن حكومة الدولة اللقيطة التي تريد بيعنا وهم الأمان والإستقرار الأمني الكاذب تحتضر وتعيد فك وتركيب مواقفها المتذبذبة تجاه إيران بعد أن إنقسمت مستوياتها الأمنية والعسكرية والسياسية بين موافق ومعارض للقبول بالعودة إلى الاتفاق النووي، فقد غدت تتراجع عن تصوير تلك العودة بالشر المستطير الذي يهدد المنطقة، وأصبحت تناقش القبول بإيران كدولة نووية، معتبرة ذلك شر لابد منه بعد أن أنجزت إيران الكثير من الخطوات تجاه الوصول إلى تخصيب اليورانيوم بالدرجة اللازمة لإنتاج القنبلة النووية وبعد أن اجتاز علمائها وخبرائها مرحلة التخصيب بنسبة 60% ليقترب من نسبة 90% المطلوبة للإنضمام إلى النادي النووي العالمي.  
لقد أدرك قادتنا في المملكة العربية السعودية وبقية دول مجلس التعاون والدول العربية أهداف هذه اللعبة القذرة التي تريد منا القبول بالتطبيع مع قتلة الأطفال وهادموا البيوت وسافكي الدماء، وهاهم يعيدون النظر في ترميم العلاقة مع الجارة المسلمة إيران، سعياً منهم لضمان إبعاد المنطقة عن كوارث جديدة تنتجُ عن حروب مدمرة لاناقة لنا فيها ولا جمل، من خلال تسريع خطوات المصالحة والتسويات وإعادة العلاقات الطبيعية بين طهران والرياض وبقية العواصم الخليجية العربية.
إننا نتابع بفرحٍ غامر  النتائج الإيجابية للمفاوضات الإيرانية السعودية التي توشك على التوصل الى إتفاقات مطمئنة تقود إلى إعادة فتح وتبادل السفارات بين البلدين، وما قد يتبع ذلك من إنهاء الخصام والقطيعة الدبلوماسية بين ضفتي الخليج العربي، ويُفشل مخططات الصهاينة للإستفراد بكل دولة من دولنا على حدة، كما نتابع تصريحات العديد من القادة الخليجيين الذين يتمتعون بحس عالٍ من المسئولية ، ويبادرون الى النأي ببلادهم والمنطقة عن ما سُمي بحلف الناتو العربي الذي يُراد "لإسرائيل" أن تقوده وتكون الوكيل الأول لأمريكا فيه، ويُراد لنا نحن العرب أن نكون بيادق وجنوداً تقودهم "إسرائيل" للمحرقة بعد أن مل الناس وتأففوا من استغلال معزوفة محرقة الهولوكوست البائسة.
لقد حانت لحظة البحث عن المصالح الفعلية لبلداننا، فلقد ذقنا مآسي وويلات الحروب والكوارث التي نجمت عنها، لاسيما الاستنزاف المادي والبشري والأضرار البيئية والاقتصادية التي تكبدت بلداننا وشعوبنا من ورائها خسارة الملايين من الضحايا الذي سقطوا، ومليارات الدولارات التي نُهبت وإستنزفت لشراء الأسلحة التي تحولت إلى حديد خردة، ونتج عن تلك الحروب الكثير من الأمراض الفتاكة كالسرطانات والمعدية والمزمنة بل والآلاف من المعوقين واليتامى والأيامى الذين لايزالون يعانون من أجل أن تنام "إسرائيل" قريرة العين هانئة مطمئنة على أرضنا المغتصبة فلسطين، بينما ننشغل نحن بذبح بعضنا البعض وتهديم مُدننا وقُرانا وتدمير مصانعنا ومزارعنا كما حدث في سوريا والعراق ولبنان والأردن وليبيا وصولاً إلى حد التهديد بالموت جوعاً وعطشا بعد أن نجحت "إسرائيل" في سرقة المياه مع الغاز والنفط.
لقد آن لنا أن نصحح اتجاه البوصلة ونعيد نسج علاقاتنا مع إيران وكافة دول العالم بهدوء وثقة وفق مصالحنا الإستراتيجية والجيوسياسية وليس وفق مصالح اعدائنا، وأن لا نكون دروعاً طبيعية أو مصطنعة لحماية هذا الكيان الصهيوني الغاصب للمقدسات، فإذا كانت لدى "اسرائيل" مشاكل وجودية مع إيران فلتذهب لتصفيتها بنفسها بدل استخدامنا للقيام بذلك، واستمرارها في التهديد والوعيد الفارغ الذي يشعل فتيل الحروب المدمرة في المنطقة.
إن علينا عدم القبول بأن نكون القربان الذي يقدم على مذابح الفتن الدولية بقيادة أمريكا و"اسرائيل" ليوفر الأمن والسلامة وطول العمر للكيان الصهيوني في بلادنا وفوق أرضنا المغتصبة فلسطين العربية، بل أننا نتوق لرؤية ذلك اليوم الذي يغادر فيه الصهاينة إلى غير رجعة، وقد آن لنا أن نعيد توجيه بوصلة الصراع وتحديد قوائم الأصدقاء والأعداء وفق ما يحقق مصالحنا وليس مصالح أمريكا و"إسرائيل" العدو الحقيقي للامتين العربية والاسلامية الى الأبد.