بقلم : أحمد العجمي
نحن غارقون في الموسيقى ومشحونون بها؛ فالكون له إيقاع منتظم في ظواهره الفيزيائية، في حركة الأفلاك والمجرات والنجوم والكواكب، وفي تعاقب الفصول وفي حركة الليل والنهار وفي الزمن. وهذا الإيقاع الكوني هو الذي يظهر لنا صور اصطفاف وانتظام وحركة النجوم والكواكب، ويظهر لنا صور حركة الفصول وتغير ألوانها، وتعاقب الليل والنهار وتغير الألوان أثناء حركة التعاقب من الفجر حتى الليل.
كما أن أجسامنا تنتظم على إيقاع الحياة، في دوراتنا الدموية والتنفسية وضربات القلب وفي تناسق حركة أطرافنا وبصرنا وسمعنا، وكأننا ننمو ونحيا على إيقاعات منتظمة ومتناسقة، وهذا الإيقاع هو ما يكوّن صورنا، وأي اختلاف في هذا الإيقاع ستختلف صورتنا الثابتة والمتحرّكة، ونفقد التوازن كالمرض أو الإعاقة. ومنذ الولادة نحن نعيش ضمن موجة طويلة محدّبة لها إيقاعها( الطفولة الشباب الشيخوخة). وضمن دورة يتشابه فيه الكون كله في المسار الأبدي على إيقاع زمني مشترك ( تعاقب البدء والانتهاء). فالزمان هو لب الإيقاع.
والموسيقى التي تظهر صورها من حولنا وفي داخلنا مرتبطة بالحركة، ويمكننا رؤيتها في الطبيعة من خلال تحليق الطيور وركض الحيوانات، وأمواج البحر وحركة الريح وسقوط الأمطار، وتفتح الأزهار، وكل تجدّد في الحياة والمجتمع مثل تعاقب الأجيال.
وتعتبر العمارة التي نحيا داخلها ومعها ونراها وننتجها موسيقى متجمّدة؛ فكثيراً ما تبهرنا صورة المعمار الهندسيي حين نشعر بقوة وسحر وتناغم خطوطها وفراغاتها الخارجية والداخلية وفضائيتها وتنوّعها الذي يقضي على السكون وعلى التكرار، كما أن هندسة الديكور المضافة والألوان تمنح الشعور بالحركة داخل السكون عبر إيقاعات التنوع والاندغام. وقد لاحظ (هيجل) أن العمارة تستمد أشكالها من الخيال وفقاً لقواعد التماثل والتوافق الإيقاعي التي تشبه ما نجده في الموسيقى. وهذا يظهر إبداعياً في أعمال المعمارية العالمية زها حديد.
ولعل من هم متخصصون في الموسيقى يشعرون بأن بعض الأعمال السمفونية من الناحية المجازية لها معمار هندسي وإنشائي في انتقالاتها، كأعمال سباستيان باخ.
والفن الموسيقي كنشاط إنساني في الوقت الذي هو تعبير عن خيالات وعن انفعالات وأحاسيس ومشاعر تظهرها الروح بقوة الحركة في الغناء والرقص،فإنّها مشحونة بصورة جزئية مركبة وصور كليّة لا مرئية ومتخيّلة وغير ثابتة، وفي هذه الصورة المخفية يتجسّد الإبداع وهذا ما يفسر وصف نيتشه للموسيقار الألماني فاجنر (من حيث هو موسيقي، ينبغي أن يدرج ضمن المصورين ). وكان الكثير من الموسيقيين يؤلفون قطعاً موسيقية عن صور لنساء ويسمونها بأسمائهن، وهناك سمفونيات ترسم صوراً موسيقية لأجزاء من الوطن كالأنهار ( كنهر الدانوب الأزرق) ليوهان شتراوس الابن، أو (بحيرة البجع) لتشايكوفسكي، وهذا ينطبق على الكثير من الموسيقيين، والكثير من الفنانين الموسيقيين حين تستمع إلى أعمالهم تتتخيل أو ترى الصور التي انطلقت منها أعمالهم أو عبّرت عنها، وتشعر بصور جزئية وصور مركبة وبأصوات لبعض الكائنات كالطيور أو لحركة الطبيعة.
وللموسيقى علاقة باللوحة التشكيلية وبالصورة الفوتغرافية رغم زمانية الموسيقى (حركة) ومكانية الصورة (سكون)، وهو الأمر الذي يخفي أو يصعب ظهور هذه العلاقة. ويمكن للعين المتمكنة فنياً وللأذن الموسيقية أن تلتقط حركة الزمن داخل سكون اللوحة عبر الألوان وتوزيعها وتناغمها على السطح وتدرجاتها فتصبح حركة العين حركة إيقاعية وليست مسحيّة، وتشعر أيضا بنوع الحركة داخل اللوحة من حيث البطء كما تستمع للصخب اللوني والحركي الناتج منها. وهذا ما يمكن الإحساس به في الصورة الفوتغرافية أيضاً.
وكثيراً ما حاولت الموسيقى دعم الصورة بالتأثير وكذلك حاولت الصورة دعم الموسيقى كخلفية لها، وخاصة ضمن الصور المتحركة كالسينما والتليفزيون، والمسرح حيث يتم الاستعانة بالموسيقى التصويرية المصاحبة للعمل لخلق تأثيرات سمعية للصورة ولمرافقة الأحداث. وكان شارلي شابلن يرى أن هناك ارتباطاً ضرورياً بين الموسيقى والصورة فاستعان بها في أفلامه الصامتة. ويعتمد بعض مؤلفي الموسيقى التصويرية على أحاسيسهم الروحية بالمشاهد والأحداث.
ومع تطور التقنية في الصور المتحركة أخذت الصور لها مكانة خلفية أو كستارة صورية تعاضد الموسيقى في التأثير والتي ظهرت بقوة أعمال الفيديو كلب من أجل الربط بين الصورة الكامنة في الموسيقى والصور الخلفية بأنواع متعددة وفي أماكن ومناخات مختلفة.
إن علاقة الموسيقى بالصورة هو تعبير عن تحقق الزمكاني في الوجود وفي الفن، وهذا التحقق غير مكشوف بسهولة لكونه غير سطحي وغير ثابت، ويمكن إدراكه بالعقل وبالخيال وبتكاثف الحواس معاً.