بقلم : الشيخ حميد المبارك
"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ، إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ" (البقرة ٢٥٨).
المطلب الأول: نسبية اللغة.
وقد يقال، أليس قوله تعالى: ".. فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ.."، مخالفاً لما هو المعروف من حركة الأرض حول الأرض وليس العكس؟ ويمكن تناول هذا السؤال من زاوية نسبية اللغة من حيث طرفيها المتكِّلم والمخاطَب. وبيان ذلك بأمرين:
(١) تناسب اللغة مع مستوى المخاطَبين.
إن لغة التفاهم لا تنحصر في معاني المفردات، بل تشمل أيضاً التصورات الذهنية المصاحبة للنص، والتي تنعكس على تعبير المُلقِي واستقبال المُتَلقّي. وحيث إن أطراف التفهيم ثلاثة: المُخاطِب والخطاب والمُخاطَب، فلابد في جدوائية الخطاب أن يكون بمستوى فهم المخاطَب كشرطٍ لاستقباله وتفاعله معه. كما إنه لا يوجد مانع عقلي عن تنزّل لغة النص الوحياني إلى مستوى ثقافة المخاطَب في وقته، بل إنه لا مناص عن ذلك في سياق التفهيم والتفاهم العرفيين: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ .." (إبراهيم ٤). ويشهد لهذا المعنى الحديثُ المشهور: قَالَ رسول الله (صلى الله عليه و آله) : " إِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ. (الأصول من الكافي، الكليني الرازي ٣٢٩ هجرية، كتاب العقل والجهل، الحديث ١٥). نعم، إن من البديهي أن يكون تنزّل لغة النص الوحياني إلى مستوى المخاطَب مُقيَّداً بما لا يضر بغايته في الارشاد والهداية إلى المعنى الديني الذي هو المقصود الأول في الخطاب: "إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا" (الاسراء ٩)، أي إن هذا القرآن يشتمل على ما هو الأفضل فيما يتصل بالاستقامة وعمل الصالحات.
(٢) اللغة التصويرية.
تستخدم النصوص الأدبية والوعظية ما يُعرف باللّغة التصويرية، وذلك لغاية إيصال المعنى إلى المخاطَب بطريقة أكثر تأثيراً. ومن الواضح أن اللغة التصويرية تستند إلى التشبيه والاستعارة والصور البديعية، والتي تختلف عن الوصف الواقعي لما هو في الخارج. فإن اللغة العرفية كأداة تفاعل تتضمن الأساليب التصويرية وفقاً لما هو في الإدراك الحسي لدى الانسان، كما نقول أشرقت الشمس وغربت مع علمنا بأن ذلك ناتج عن حركة الأرض وليس الشمس. وقد جرى القرآن الكريم على وفق اللغة العرفية: "بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ" (الشعراء ١٩٥)، ومن ذلك:
ا) ".. قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ .."، فإنه حسب ظاهر الحس من حركة الشمس حول الأرض وليس العكس.
ب) ".. تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ .." (الكهف ٨٦)، فإن الشمس في الحقيقة لا تغرب في عين حمئة، وانما جرت العادة بالتعبير بذلك حسب الصورة الحسية لاصفرار الشمس وقت الغروب.
ج) "وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ .." (الذاريات ٢٢)، فإنه ناظر الى جهة العلو، الذي يناسب الصورة الذهنية عن مقام التدبير الالهي. وقد تعارف في اللغات التعبير عما يناسب العلو بالسماء. إلى غير ذلك من الأمثلة.
المطلب الثاني: اختلاف السرد القرآني في قصص إبراهيم عن نصوص العهد القديم.
ولم أجد نظير قصة محاجة إبراهيم في التوراة التي بأيدينا، حيث اشتمل سفر التكوين، وهو أول أسفار التوراة، على قصة إبراهيم منذ هجرته من أور الكلدانيين إلى حين موته في أرض كنعان، وذلك في الفصول من ١٢ إلى ٢٥. ومن موارد اختلاف السّرد في قصص إبراهيم، أي مما جاء في القرآن الكريم ولم يأتِ في التوراة التي بأيدينا:
ا) محاجة إبراهيم مع أبيه، وتكسيره لأصنام قومه وإلقاءه في النار: (الأنبياء ٥٢- ٦٩).
ب) بناء إبراهيم وإسماعيل للبيت بمكة: (البقرة ١٢٥-١٢٩).