إعداد: عبدالله جناحي
هذا الفيلم الإيراني المعروض في النتفلكس بعنوان (خير مطلق)، وهو من إنتاج ٢٠٢٠، ومن إخراج وسيناريو محمد رسولوف. فاز بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي.
الفيلم عبارة عن أربع قصص مختلفة، لكنها تشترك في فكرة العاملين في مهنة الإعدامات. يدور الفيلم حول الأشخاص الذين يتحملون مسؤولية الأفعال الشنيعة في المجتمعات، وأن كل قصة تستند إلى تجربته الخاصة. أثار الفيلم جدلاً واسعًا وحكمت السلطات الإيرانية بعد عرضه على رسولوف بالسجن لمدة عام ومنعه من السفر.
تُشير صفاء الصالح في تقريرها المنشور في موقع البي بي سي بأن ( المخرج رسولوف في فيلمه "لا وجود للشيطان" يحرص على أن ينظر إلى مفهوم الشر بمعزل عن كل التفسيرات اللاهوتية والميتافيزيقية، التي تربطه بالشيطان ليعيده إلى جوهر الفعل الإنساني، بكل إحالاته السياسية والاجتماعية. فالشر هنا يرتكبه الإنسان وليس سواه، ويظل فعلاً محصوراً داخل المجتمع الإنساني، وليست له أي امتدادات ميتافيزيقية كتلك التي تحيلنا إليها التفسيرات الدينية، بل هو نتاج اعتلال وتغييب للوعي الإنساني وحرية الاختيار، يجعل البشر ينحرفون عن جوهرهم الإنساني، لمغريات وأطماع شخصية وخضوعاً لأنظمة وقوى مستبدة).
ويكشف المخرج عن رؤيته لمضمون فيلمه، بأن الرسالة المهمة في القصص الأربع بأن (التحدث عن الناس الذين ينأون بأنفسهم ويقولون إن القرار اتخذته قوة عليا... لكنهم يستطيعون في الواقع أن يرفضوا، وهذه قوتهم).
بيد أن تقرير بي بي سي المشار إليه أعلاه يرى بأن (قوة الرفض التي يتحدث عنها رسولوف بهذه اللهجة اليقينية، تغيب عن الفصل الأول من فيلمه، الذي يمثل بنظرنا جوهرة الفيلم الحقيقية، ومنجزه الحقيقي الذي لو اكتفى به ووسعه قليلاً لقدم تحفة سينمائية نادرة لا تُنسى).
ينجح رسولوف في تصوير الضعف الإنساني وتفاهة الشر وعاديته بعيداً عن المفهوم الميتافيزيقي والقيمي للشر المطلق، أو الشيطان الذي ينفي عنوان فيلمه وجوده. يروي رسولوف في مقابلته بعد فوزه بالجائزة، كيف استوحى أحد أجزاء الفيلم الأربعة بعد رؤيته رجلاً، أجرى معه تحقيقات خلال فترة سجنه، خارجاً من مصرف. وكيف تابعه لبعض الوقت، ليخلص إلى القول: "أدركت كم هو شخص طبيعي وكم يشبه جميع الآخرين. أدركت عدم وجود وحش، لم يكن هناك شرّ أمامي، وإنما مجرّد شخص (عادي) لا يشكّ في تصرفاته". لكن هذه العادية تصب مع الاستبداد في صورة الشر المطلق أو الجذري، (فالشر المطلق هنا هو في بنية الاستبداد التي تمثل مسؤولية سياسية تقف وراء المسؤولية الجُرمية التي يرتكبها الأفراد بوعي أو من دونه). وهذا ما سيكتشفه المشاهد في التفاصيل التي تبدو مملة في القصة الأولى من هذا الفيلم، والذي يحمل اسم (لا يوجد شيطان)، حيث كان هدفه الجوهري من هذه التفاصيل الأسرية الصغيرة الوصول إلى خلق (الصدمة) والتهيئة (للمفاجأة التي يُدخرها لمشاهديه في نهاية هذا الجزء مع نهوض الموظف فجراً لعمله الذي نرى أنه في بناية محصنة ومسورة بجدران عالية، نعرف أنها سجن لاحقاً، ومع إعداد قهوة الصباح وتناول فطوره، نرى أزراراً حمراء تتحول إلى خضراء، ولا يقوم هذا الموظف سوى بفعل بسيط وبلا مبالاة يتمثل في الضغط على أحدها، ليقطع رسولوف بقسوة إلى منصة تسحب ونرى أقداماً متدليه لعدد من الأشخاص الذين أعدموا ولا نرى سوى سيقانهم المتدلية وقطرات بول أحدهم تسيل من تحت بنطاله). -عند هذه اللحظة نتذكر مشهد هذا الجلاد وهو في سيارته، شارد الذهن أمام إشارة المرور وهي تتغير من اللون الأحمر إلى الأخضر- عندها تصبح صدمة ختام القصة وكأنها ذات الصدمة الكهربائية التي تم إعدام المساجين بها!).
وينهي رسولوف هذا الجزء من فيلمه بتلك اللقطة القاسية التي تُناقض كل ذاك الحنو والرأفة التي نشرها في تصوير حياة بطله اليومية.
نشيد المقاومة الإيطالية ضد الفاشية:
أما القصة الثانية من الفيلم- وهي أضعف حلقات هذا الفيلم، حيث تكون معظم أحداثها مغامرة وإثارة الهروب من السجن، بعد رفض السجين القيام بعملية إعدام مقابل مبلغ مالي ضخم. ورغم أن رسالة المخرج واضحة في هذه القصة، وكأنها نقيض القصة الأولى التي جسدت فعلياً ما أكده رسولوف بأن هدفه من الفيلم رفض الشر والقدرة على تحدي المستبدين. ولكن فنياً لم تقدم القصة الثانية سوى تبيان انتقال السجين من شخصية خائفة ومهزوزة إلى بطل مقدام وشجاع، حيث ينجح في الهرب من السجن المحصّن بعد أن يتمكن من مفاجأة الضابط المسؤول عن بوابة السجن والحارس المرافق له وتكبيلهما والخروج، حيث تنتظره حبيبته في سيارتها وتقوده في (رحلة عبر الجبال على أنغام الأغنية الفلكلورية الإيطالية "بيلا تشاو" التي تحولت إلى نشيد المقاومة ضد الفاشية).
وهذا المشهد المفرح بإيقاعه السريع الذي أنهى قصته الثانية، نقيض المشهد الأخير من القصة الأولى ذو الإيقاع البطيء وغير المفرح.
من صدمة المشاهد إلى صدمة الجلاد:
وفي القصة الثالثة التي حملت عنوان "عيد ميلاد" ننتقل إلى حكاية شاب مُجند ضمن الخدمة العسكرية، ينزل في إجازة لزيارة عائلة حبيبته بمناسبة عيد ميلادها والتقدم لخطبتها، والتي يبدو أنها من عائلة معارضة وتعيش في منزل وسط بستان في الريف. فنرى الجندي ينزع ملابسه العسكرية قبل وصوله إلى منزل العائلة ويستحم في مياه النهر وسط منظر طبيعي ساحر -ولعل أحد عوامل جمال هذه القصة في اختيار هذا المكان الخلاب-، وتستقبله حبيبته، حيث نشاهد أن عائلتها منشغلة في إقامة حفل تأبيني لصديق للعائلة أعدمه النظام، ومع استعدادات الحفل يرى الجندي صورة الشخص الذي تم إعدامه، إنه نفس الشخص الذي شارك هو في تنفيذ عملية إعدامه. فينصدم ويتألم ويبكي ويهلوس، طوال الليل في تلك الغابة، ويعترف بذلك لحبيبته التي تظل مترددة بين حبها له ونفورها منه بعد هذه الحادثة، لكن العائلة بعد حفل التأبين تعود لحياتها الطبيعية وتفاجئ ابنتها بهدية عيد ميلادها وهي إعلان خطوبتها للجندي، ويترك المخرج رسولوف هنا النهاية معلقة دون حسم المشاعر المتناقضة التي تعتمر داخل حبيبته بعد سماعها اعتراف حبيبها. هنا تمكن المخرج بجدارة أن يحول تأثيرات وآلام (صدمة) الإعدامات في السجون من المشاهد إلى الجلاد نفسه، ذلك الجندي المصدوم من مهنته التي كانت بالنسبة له بمثابة فرصة "ومكافأة" للحصول على المزيد من الإجازات، كجندي تحت التجنيد الإجباري، فمع كل إعدام يقوم به، يستطيع زيارة حبيبته أكثر، فجاءت الصدمة هذه المرة في دار حبه.
"قبّليني"
ويأخذ الجزء الرابع والأخير من الفيلم عنوانه "قبّليني" من أغنية إيرانية اكتسبت شهرة أسطورية في إيران وفي أوساط المعارضة السياسية الإيرانية إبان حكم الشاه. بل وفي صفوف جميع التنظيمات المعارضة في الخليج العربي وبعض الدول العربية. وتقول كلمات المقطع الأول منها (قبليني، قبليني للمرة الأخيرة، فأنا راحل نحو مصيري. ربيعنا قد مضى، وماضينا قد مضى، وأنا ما زلت أبحث عن مصيري).
في هذا الجزء نتابع دريا (تؤدي دورها ابنة المخرج نفسه والتي تسلمت الجائزة نيابة عنه، باران رسولوف) التي تعود من جامعتها في ألمانيا إلى إيران ليستقبلها عمها بهرام وزوجته، ويأخذانها إلى منزلهما في منطقة ريفية نائية، يعيشان فيها على تربية النحل على الرغم من دراستهما للطب.-ولعل اختيار مكان التصوير هذه المرة أيضاً أعطى جمالاً روحياً للمشاهد، حيث الصحراء الصفراء وصخورها القاسية، نقيض الطبيعة الخلابة في القصة الثالثة-
ونرى بهرام وزوجته قلقين بشأن كيفية إخبارها بسر أخفياه عنها طوال حياتها، وهو أن بهرام هو والدها الحقيقي، وقد اضطر إلى تسجيلها باسم صديق له حماية لها عندما كان معارضاً سياسياً ومطارداً من السلطات، ورفض أن يساهم أثناء خدمته العسكرية بتنفيذ إعدام أحد المعارضين (وهنا ربط بالحكاية الثانية من الفيلم).
يأخذ بهرام دريا في رحلة لصيد ثعلب يهدد دواجن المزرعة، لكنه في الحقيقة يريد الانفراد بها وإبلاغها بالسر الذي كتمه عنها، فتقول له إنها ترفض أن تقتل أي كائن حي، ويبدو بهرام أمامها متحمساً للصيد على الرغم من أننا نراه في مشاهد أخرى يرعى النحل من دون قناع ويضع الطعام يومياً للثعلب نفسه أمام منزله الريفي.
وينهي رسولوف فيلمه بغضب دريا من والدها الذي تسميه "والدها البيولوجي" واتهامه بالأنانية لأنه لم يبلغها بالحقيقة إلا لحظة مرضه وشعوره بأنه مقبل على الموت، وقيامها بلملمة حقائبها للعودة إلى دراستها في ألمانيا من دون أن تقبله قبلة الوداع قبل رحيله المتوقع.
الجانب الإنساني للفيلم:
لقد أرسل زميل لي رؤيته لهذا الفيلم، والخاصة بالجانب الإنساني، وأحسست بأنه تمكن من التعبير عمّا يدور في ذهني، بل وأكثر عمقاً في الكثير من الدلالات التي اكتشفها لبعض مشاهد الفيلم. لذا سأكتفي بنشر رؤيته فقط، دون الإشارة إلى اسمه، بطلب منه:
(على الرغم من دوران الفكرة الرئيسة للفيلم حول رجال أربعة أوقعهم حظهم العاثر-أو ربما القدر- في إطاعة الأوامر بتنفيذ الإعدام على أشخاص لا يعرفونهم، وأنهم غير متأكدين حقيقة من استحقاق المحكوم عليهم للموت من عدمه ، إلا أن معاني كثيرة يمكن أن تتعدّى وتتجاوز الفكرة المذكورة إلى حرية الإنسان في اختيار ما يقوم به من عمل -أي عمل- وعن مدى رضاه وارتياحه وضميره لهذا العمل دون الدخول في جدال صحة الأحكام الصادرة من جهات سلطوية هي من تقرر -وفقاً لمعاييرها- بمن يستحق الموت ومن له حق الحياة .
ثم إن الفيلم يطرح فكرة تمرد الإنسان على فعل أشياء لا يرغب في القيام بها حال عدم اقتناعه بها -حكاية الشاب الثاني ونقاشه مع زملائه بالعنبر عن رفضه القيام بالإعدام وتهديد زميله "أمير" له بالإبلاغ عنه، والمدهش أن المؤلف يفاجئنا بأن ذات الزميل "أمير" هو من يضع له خطة الهروب- ، بمعنى أن الفيلم يطرح فكرة أنه تتوفر وتوجد دائماً فرصة وإمكانية للرفض والتمرد على فعل أمور لا نرغب في القيام بها وبشتى الوسائل ، وهذه النقطة جد عميقة ، وتثير التساؤل حول فكرة الاستسلام بدعوى الخوف من تعقيدات تصيب حياته وحياة من يرتبط بهم ، سواءً في المحيط الأسري أو دائرة معارفه .
تناول الفيلم الجوانب الإنسانية للجلادين -منفذو الإعدام- وكونهم يقومون بهذا العمل باعتباره جزءًا من مسار حياتهم وصولاً للانتهاء من الخدمة العسكرية ، ورغم أنه قد ظهر في بعض الحكايات للرجال الأربعة أن بعضهم يقوم بأداء هذا الفعل -تنفيذ الإعدام- بنوع من البلاهة والروتين -فقط لأجل الحصول على إجازة لمدة ثلاثة أيام- إلا أن الفيلم يحاول إظهار عدم الرضا وتأنيب الضمير باعتباره القاسم المشترك بين الرجال الأربعة. نلاحظ مثلاً في القصة الأولى حالة الشرود الذهني المستمرة، مما يوحى بوجود شيء ما يؤرقه، ثم وبطريقة مفاجئة ينقلك المؤلف والمخرج إلى بشاعة عمله (عشماوي إعدام) ، لتبدأ عندك معرفة سبب الشرود (عندها تتذكر موقف حالة الشرود عند إشارات المرور) علامات المرور "أحمر ضبابي ، أخضر واضح" ومع ذلك ظلت السيارة مستمرة في مكانها" فيها ترميز لاختيار الإنسان لمصيره ومسار حياته. رغماً عن تأخر الانتباهة واليقظة أحياناً وبأنها قد تأتي لاحقاً بعد العلم بحقيقة المحكوم عليهم -حالة الجندي بعد كلام أهل حبيبته عن الناشط كريمان الذي قام هو بإعدامه-.
عموماً هذا العمل السينمائي يطرح أسئلة ومواضيع لا حصر أو نهاية لها بما فيها فكرة القتل كوسيلة من وسائل العقاب والقصاص سواءٌ بحق أو دون ذلك).