نشر فنان برازيلي كاريكاتيراً بعد فوز اليساري من حزب العمال (لولا) على منافسه اليميني (بولسونارو) رئيساً للبرازيل، وذلك بعد منافسة شرسة وصراع مرير. ولعلاقة غير مباشرة بين هذ ه اللوحة "الكاريكاتورية" والانتخابات التي ستجري في البحرين، قدمت هذه التأويلات على هذه اللوحة.
تستند هذه التأويلات على إسقاط منهج الناقد والمؤرخ الألماني هانز روبرت ياوس، كأبرز أعلام مدرسة (كونستانس) التي قدمت نظرية نقدية حول علاقة دلالة النص الأدبي بالقارئ -هنا الرسم بالمشاهد- وهي النظرية التي تطورت في ستينات وسبعينات القرن الماضي تحت اسم (نظرية التلقي)، ومعنى (التأويل وعلاقة ما يتوقعه القراء من العمل الأدبي/هنا ما يتوقعه المشاهد من الرسم).
لكن هنا في تأويلي لهذه اللوحة، أختلف مع (ياوس) ومدرسته النقدية التي تنتقد الناقد البنيوي الفرنسي (رولان بارت) على أن (لعبة التناص الحر) التي لا حدود لها، تنتج قراءات "لا هي بالتاريخية، ولا هي بالجمالية". وهذا عكس نظرية المدرسة الألمانية (التأويل الأدبي) حيث وأنا أتأمل اللوحة البرازيلية "الكاريكاتورية"، كانت لعبة إسقاطها على واقعنا المحلي البحريني موجودة في ذهني، وبشكل حُر دون أي قيود (واقعية فجة). ومع ذلك، أُعجبت كثيراً بصياغة (ياوس) تعبير "أفق التوقعات" ليفسر أسس عملية استقبال المتلقي للعمل الفني، وهذا الأفق هو الذي تحدد "قيمة" أي لوحة أو مقطوعة موسيقية أو مشهد سينمائي أو نص أدبي.
برانية اللوحة:
اللوحة الكاريكاتورية في برانيتها الشكلية تصرخ فاضحة بأنها القصد منها (الانتخابات البرازيلية) من خلال (علامتين-إشارتين): الأولى، العينان للمتنافسين، حيث العلم البرازيلي. والعلامة الثانية، ابتسامة المنتصر بلحيته البيضاء، وبروز إذنه، كدلالة (لحُسن الاستماع للشعب)، مقابل غياب هذه الدلالة السمعية في وجه المنافس المتجهم الغاضب. إن عملية تفسير هذه اللوحة، هي نوع من تجسير الفجوة بين الانتخابات البرازيلية، باعتبارها حدثاً ماضياً-حدثت قبل أيام-، والانتخابات البحرينية باعتبارها حدثاً حاضراً-ستحدث بعد أيام - ونحن إذ نمارس فعل التأويل لهذه اللوحة لا نستطيع التخلص من الأفكار الجاهزة والتجهيزات المستقرة في واقعنا المحلي، سواء الجادة المقموعة منها، أو الكاريكاتيري المضحك المتضخم المدعومة منها. وأثناء عملية الفهم هذه قد يحصل نوع من الاندماج بين (أفق توقعاتنا) لواقعنا الانتخابي القادم بعد أيام، وآفاق الانتخابات البرازيلية الذي حدثت قبل أيام أصبحت حالياً من الماضي.
اللوحة البرازيلية الكاريكاتورية "الجادة" لواقعهم الانتخابي واضحة. فبجانب العلامتين المتمثلتين بالعينين ذات العلم البرازيلي. والوجهين للمتنافسين. واضح بأن رسام هذه اللوحة كان يريد توصيل رسائل جوانية لا يمكن التوافق بشأنها دون الالتزام بمنهجية التأويل التي قدمتها المدرسة الألمانية المتقدم ذكرها.
التأويل الأول: جسدا المترشحين للرئاسة، من قمة رأسيهما حتى أخمص قدميهما، وصولاً إلى صندوق الاقتراع منشطر إنشطاراً واضحاً إلى نصفين، كما نسبة التصويت بين المتنافسين- الفائز المبتسم الذي حصل حوالي 51%, والمهزوم المتجهم الذي حصل على حوالي 49%. وكأن لسان حاله يقول بأنه رغم الانتصار كنتيجة، فهو انتصار خلق انشقاقاً وانشطاراً في المجتمع. فلا المنتصر قد حقق انتصاره باكتساحه أو بأغلبية. ولا المهزوم ممكن أن نصفه بالهزيمة أمام نسبة المؤيدين القريبة مع نسبة المنتصر. فنتيجة هكذا منافسة، وهكذا ديمقراطية، بحران من شعب واحد سوف لن يلتقيا، كهذا الانشطار المخيف. هذا عن البرازيل.
أما إسقاطاته البحرينية، المتوقعة بين المشاركة -المبتسم- والمقاطعة-الغاضب المتجهم- فهو إسقاط ضمن رؤية الناقد الألماني ياوس الخاصة بـ(أفق التوقعات) حيث تشير إلى وجود انقسام وانشطار شعبي بين المتنافسين من جهة، والمختلفين من جهة أخرى.
التأويل الثاني: بيد أن هناك دلالة جوانية مخفية المقصد، فاضحة التأويل لهذه اللوحة ، وتتمثل في بطاقتي الاقتراع اللتين في يدي المتنافسين قبل سقوطهما في ذلك الصندوق المنشطر لنصفين متساويين تقريباً. لماذا البطاقتين مطبوعة عليهما علامة (X)، دلالة الرفض والـ NO. دلالة المقاطعة، وليست علامة (✔) دلالة القبول والـ YES. دلالة المشاركة؟!،
برازيلياً فإن هذا الرسام كان واضحاً-حسب تصوري- احتجاجه على هذا الصراع التنافسي الانشطاري، فالرسام يرى بأن اليساري الفائز-يلقي البطاقة بيده اليسرى- والمهزوم اليميني-يلقي البطاقة بيده اليمنى- فالإثنان تعمدا وضع علامة (X) بدلاً من علامة (✔)، دلالة على رفض هذا الانشطار المجتمعي.
أما بحرينياً، وهو تأويل من الممكن إعتباره تأويلاً نفسياً-لاشعورياً- للطرف المشارك، بابتسامة المجاملة، في حين لاشعوره يدفعه بالتردد، لذلك وضع علامة (X). مقابل الرفض الواضح للمقاطع الغاضب، فوضع نفس العلامة الدالة على الاحتجاج والمقاطعة. أي كمن يضع بطاقة بيضاء كنوع من عدم قناعته!.
التأويل الثالث: مستوحاة من مضمون بيان الحزب الشيوعي البرازيلي الصادر بعد فوز رئيس حزب العمال (لولا) رئيساً للبرازيل. هذا البيان اليساري الثوري، الرافض لأي توافق طبقي وسياسي، بل وحتى اجتماعي واقتصادي. اللوحة بملامح المنتصر والداعم للفقراء والكادحين، وبألوان فاتحة، وملابس بسيطة، وابتسامة صادقة. يقابلها المهزوم الخبيث، المدعوم من البرجوازية والرأسمالية المتوحشة. ملامحه شريرة، الألوان الكالحة والسوداء، غياب أي عاطفة حب وتسامح على الوجه، ملابس تعكس حياة الطبقة البرجوازية العليا. اللوحة هنا تعبر عن الانتصار للفقراء، وأن لا مساومة مع الأغنياء. يجب القضاء التام على هذه الطبقة المتوحشة، يجب إعلان الطلاق والانشطار في المجتمع، وإزالة الطبقية، وتحقيق الاشتراكية الحقة. إن هذا التأويل الثالث لهذه اللوحة لم يأت اعتباطاً، بل هو نابع من تجارب قاسية حدثت في كل الانتخابات التي فازت فيها الأحزاب اليسارية في دول القارة اللاتينية، وحتى في آسيا وإفريقيا. كما حدث في مؤامرة المخابرات الأمريكية ضد الرئيس الإيراني مصدق في الخمسينات القرن الماضي، ومنذ السبعينات القرن الماضي، عندما فاز اليسار في تشيلي وتمت الإطاحة به بمؤامرة دموية وانقلاب عسكري مدعوم من الولايات المتحدة، وهكذا حدث في نيكاراغوا وفنزويلا وغيرها. وهذا الغضب من البرجوازية البرازيلية والحقد عليها قد تجلى في بيان الحزب الشيوعي البرازيلي، حيث أشار البيان على النحو التالي: (نحن مقتنعون تماماً، بأنّ الأزمة الحادّة التي نمرّ بها لا يمكن حلّها بالتّوفيق بين مصالح البرجوازية ومصالح العمال، على النّحو الذي اقترحه حزب العمال. نعلم أنّه حتى لو هُزِمَت البولسونارية انتخابياً، فلن تختفي من المشهد، وستظلّ تشكل تهديداً سياسياً للطبقة العاملة في السنوات القادمة، طالما لم يتمّ نزع سلاحها وسحقها، من خلال بناء القوة الشعبية وتنفيذ برنامج مناهض للرأسماليّة ومناهض للإمبريالية، وهي مهمّة سيكرّس لها الحزب الشيوعي جهوده في الفترة المقبلة. ليس لدينا أدنى شك في أنّه، من وجهة نظر الطبقة العاملة، هناك اختلافات عميقة بين الحكومة الاشتراكية الليبراليّة البرجوازية، والحكومة البرجوازية الرجعيّة.. بين حكومة تحاول التّوفيق بين البرجوازية والبروليتاريا، وحكومة تغازل الفاشية وتتّحد بقوة مع البرجوازية حول الهجمات على الطبقة العاملة والفقراء، مثل حكومة بولسونارو.-لاحظوا نظرة الحزب الشيوعي لحليفه اليساري، حزب العمال، الذي يعتبره حزباً اشتراكياً ليبرالياً برجوازياً، تحاول "التوفيق" بين البرجوازية والبروليتاريا، بدل سحق الأولى كما ورد في هذا البيان.
إنّ الأزمة العضوية التي نعاني منها، مع حوالي 15 مليون عامل عاطل عن العمل، وحوالي 36 مليون يعيشون في العشوائيات، وأكثر من 33 مليوناً في طوابير الجوع، يتنافسون على العظام واللحم.. لا يمكن حلّها من خلال التوفيق الطبقي.. خاصة وأنّ الوضع المأساوي الذي نمرّ به، هو نتيجة السّياسات النيوليبرالية التي نفّذتها الحكومات البرجوازية المتعاقبة، في العقود الأربعة الماضية- لاحظوا مرة أخرى اتهام حزب العمال والرئيس الفائز (لولا) بالنيوليبرالية المتوحشة، حيث كان لولا رئيساً لبرازيل في العام 2002، أي في نفس العقود الأربعة الماضية-، وكلّها لصالح الطبقات الحاكمة المتواطئة في هذه المأساة الاجتماعية والاقتصادية والسّياسيّة. لذلك، فقط جبهة مناهضة للرأسماليّة ومعادية للإمبريالية لديها برنامج للتحوّلات الاجتماعية ستكون قادرة على حلّ هذه الأزمة. نعلم أن المعركة لا تنتهي بفرز صناديق الاقتراع.. سيتخلّل الأشهر المقبلة استفزازات فاشية، وربما مغامرة انقلابية في نهاية المطاف).
هذا النهج المذكور في هذا البيان هو نهج شعبي منتشر في القارة اللاتينية، هو نهج قريب من التروتسكية الداعية إلى "الثورة الدائمة" ضد الرأسمالية، وعدم السكون أو المراهنة على انتصار اليسار في دولة واحدة، كما طالب بذلك تروتسكي في روسيا بعد انتصار البلاشفة، هذا هو نفس نهج الخميني في ثورته ضد الملكية، وهي آخر الثورات التي استوحت معالم الثورة الفرنسية الكبرى، فجميع الثورات التي تلت الثورة الفرنسية كانت عنيفة ولا تبالي بمقولات الديموقراطية وحقوق الإنسان، بل بالانتصار الطبقي والعقائدي. سواء الثورة الروسية وبعدها الدول الأوروبية الشرقية، والثورة الصينية، وآخرها الثورة الإيرانية. ثورة التغيير الجذري التام، ثورة الإطاحة بكل مؤسسات الدولة العميقة، من جيش ومخابرات وإعلام وثقافة وقيم، وصولاً للحياة الشخصية والحريات والفن. لا نهج الثورات الناعمة البرلمانية كما فعلها مصدق في إيران، وكما مارستها قيادات ثورات الربيع العربي في تونس ومصر التي لم تُدمر مؤسسات وطبقات الدولة العميقة، فانقلبت الأوضاع ضد أحلام الثائرين. هذا هو مآلات النضال البرلماني، حيث لا يمكن تنفيذ هكذا خطاب ثوري "حالم" في وقتنا العولمي الراهن الذي أصبحت الحدية الطبقية ضعيفة أمام حدية الهويات الفرعية الطائفية والإثنية والقبلية، وبروز قوي لقيم ومبادئ حقوق الإنسان العالمية، وضرورة الالتزام-ولو شكلياً و"كاريكاتورياً!" بالديمقراطية. وأعتقد بأن هذه اللوحة الكاريكاتورية تعكس مضمون البيان الشيوعي من حيث الحسم الطبقي مع الطبقة البرجوازية المتحالفة مع الإمبريالية الأمريكية، وليس التوافق الطبقي معها، بل القضاء التام عليها، الطلاق التام معها، الانشطار المطلوب بينها وبين الفقراء والعمال، كما الانشطار في هذه اللوحة. من هكذا منظور، تتحمل اللوحة هكذا تأويل.
في التأويل لا وجود موضوعي للوحة:
عندما تُحَلِّقْ بخيالك نحو فضاء وآفاق التأويل، حسب رؤية الناقد الألماني ياوس، فإن ذلك لا يعني التركيز على خالق اللوحة - من هو؟ ومن أين؟. ولا على واقعية ومباشرية اللوحة. بل على عملية تلقي اللوحة من قِبَل المشاهد، بدءاً من رسمها وانتهاءً بعملية تأويلها من قبل المتلقي أو مجموعة من المتلقين في الوقت الحاضر، في هذه الحالة، ليس لهذه اللوحة وجود موضوعي محاط بعدد غير محدود من التأويلات التي تشكل ظلالاً شبحية للوحة ، بل إن هوية هذه اللوحة لا تتحقق إلا في أفق عملية استقبالها من المشاهدين لها، وترك المتلقي حراً في خياله وتفسيره وتأويله للوحة الكاريكاتورية.
جناح الفراشة:
وهكذا ممكن فراشة صغيرة ترفرف بجناحيها الرقيقين في البرازيل-الماضي الانتخابي بالنسبة لنا، لتخلق ظاهرة في مهرجانها الانتخابي في جزيرة صغيرة -تبعد آلاف الأميال عن القارة اللاتينية.