بقلم : عبد النبي الشعلة
بعد يومين يبدأ الشعب البريطاني وشعوب دول الكومنولث وغيرها من شعوب العالم الاحتفال بمرور 70 عاما على اعتلاء الملكة إليزابيث الثانية العرش البريطاني.
والملكة إليزابيث هي أيضًا الملكة الدستورية لست عشرة دولة من مجمُوع ثلاث وخمسين من دول الكومنولث التي ترأسها، كما أنها ترأس كنيسة إنجلترا.
ففي السادس من الشهر المقبل ستصبح الملكة إليزابيث أول ملكة أو ملك في العالم ما يزال في منصبه لهذه المدة الطويلة، وستكون بذلك رمزا من رموز استقرار النظام الملكي الوراثي البريطاني الذي ظل يحكم بريطانيا منذ القرن التاسع الميلادي ليتدرج من الحكم المطلق إلى الحكم الملكي الدستوري الديمقراطي.
وفي مطلع العام 2006 تلقى مليكنا المعظم صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة دعوة للمشاركة في احتفال مملكة تايلند بمرور 60 عاما على تولي الملك بوميبول أدولياديج مقاليد الحكم والذي كان وقتها أقدم ملك في العالم، وكان على رأس نظام ملكي تعود جذوره إلى العام 1238م. وقد كلف جلالة الملك حفظه الله ورعاه عمه المغفور له صاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه، الذي كان وقتها رئيسا لمجلس الوزراء لحضور الحفل نيابة عنه. وقد أقيم الحفل بتاريخ 10 يونيو من العام نفسه في الساعة الرابعة بعد الظهر بقاعة العرش في "غراند بالاس" أو القصر الكبير بالعاصمة بانكوك، وحضره كل ملوك وملكات وأمراء وسلاطين الدول التي تتبع النظام الملكي أو من ينوب عنهم، على رأسهم امبراطور اليابان وسلطان بروناي، كما حضره من دول مجلس التعاون أمير دولة الكويت وقتها الشيخ صباح الأحمد وأمير دولة قطر، وقتها أيضًا الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وقد كان لي شرف حضور الحفل ضمن الوفد المرافق لرئيس الوزراء الراحل رحمه الله.
وتوفي الملك بوميبول بعدها بعشر سنوات في العام 2016 بعد أن أكمل 70 سنة في سدة الحكم ليكون وقتها أطول ملوك العالم بقاء على العرش؛ وهو لقب صار الآن من نصيب الملكة اليزابيث. وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة التايلندية تخصص موازنة سنوية سخية تحت بند "دعم الملكية وحمايتها والمحافظة عليها" بلغت 18 مليار بات؛ ما يعادل 514 مليون دولار أمريكي في العام 2016، لترتفع إلى 29.728 مليار بات في العام 2020.
وكما هو معروف فقد تعرضت منطقتنا العربية مع بداية العام 2011 إلى عواصف وأعاصير ما سمي بـ "الربيع العربي" التي جعلت رؤوس الأنظمة في الجمهوريات العربية تترنح وتتساقط بينما ظلت الأنظمة الملكية العربية صامدة ثابتة؛ مؤكدة بذلك خطأ تنبؤات واستنتاجات عدد غير قليل من المنظرين من أبرزهم المفكر الأميركي المعروف صامويل هنتنجتون الذي وُصف بأنه أحد أكثر علماء السياسة تأثيراً في النصف الثاني من القرن العشرين، والذي توقع، قبل أكثر من نصف قرن انهيار هذه الأنظمة، زاعما أن هذه الأنظمة عفى عليها الزمن وهي عصية على الإدارة ولن تتمكن من الصمود أمام رياح التقدم والتغيير وأن مصيرها إلى الزوال.
وكم كان من يسمون بالمختصين في شؤون الخليج مخطئين عندما استنتجوا إبّان مرحلة الربيع العربي بأن فرص بقاء الأنظمة الحاكمة في الخليج ضئيلة، وكان على رأسهم الخبير كريستوفر ديفيدسون الأستاذ المحاضر في سياسات الشرق الأوسط في جامعة دورهام في إنجلترا، مؤلف كتاب "ما بعد الشيوخ.. الانهيار المقبل للممالك الخليجية" الذي توقع أن "ايام الانظمة الملكية في الخليج باتت معدودة وسيسقط اغلبها خلال سنتين إلى خمس سنوات".
إلا أن الواقع أثبت خلاف ذلك، فقد تمكنت هذه الأنظمة رغم قصر عمرها بالمقارنة، من الثبات والصمود والتصدي لجملة من التحديات والأخطار والاضطرابات والأحداث الخطيرة المتلاحقة ابتداء من سلسلة الانقلابات العسكرية التي وقعت في الخمسينات والستينات وأطاحت بعدد من الانظمة الملكية العربية، لتحل محلها أنظمة جمهورية يقودها ضباط عسكريون بشهية نهمة للتوسع والتمدد تحت شعار الوحدة العربية فعملوا على تشجيع انبعاث التيارات الناصرية واليسارية المناوئة التي سعت بدورها إلى زعزعة استقرار هذه الانظمة واصفة إياها بالرجعية والتخلف والعمالة للاستعمار.
بعدها جاء قرار بريطانيا الانسحاب من المنطقة من طرف واحد في نهاية الستينات معرضة هذه الأنظمة إلى أخطار الانكشاف الأمني، ثم جاءت صاعقة سقوط عرش شاه إيران في نهاية السبعينات وقيام النظام الجمهوري الإسلامي فيها الذي رفع شعار تصدير الثورة في الوقت الذي غزا الاتحاد السوفيتي أفغانستان، تلا ذلك نشوب الحرب العراقية الإيرانية التي دامت قرابة 8 سنوات، ثم جاء غزو العراق للكويت وحروب الخليج الثلاث، والغزو الأميركي للعراق، وانبعاث حركات ومنظمات التطرف والإرهاب ثم أعاصير الربيع العربي وغيرها من التهديدات والضغوط والتقلبات والأحداث المزلزلة التي أثبتت أن هذه الأنظمة تتمتع بقدرة هائلة على التكيف والصمود.
وفيما عدا حالات قليلة نادرة من إزاحة الابن لأبيه أو الأخ لأخيه؛ فإن عملية تداول وانتقال السلطة من حاكم لآخر كانت ولا تزال تمر بسلاسة وسلام وانتظام في هذه الدول.
إن لهذا الصمود وهذه المنعة والمناعة أسباب كثيرة لا مجال هنا للتطرق إليها بإسهاب، لكننا سنكتفي بالاشارة فقط إلى أن هذه الأنظمة تميزت بقدرتها على امتصاص الصدمات، والانطلاق والتطور التدريجي، دون التنكر في الوقت نفسه للقيم والموروثات التراثية وتقاليد الروح الأبوية، ومن خلال المشاركة مع مكونات المجتمع في بلورة وتشكيل أدوات الوعي والمعايير الاجتماعية والمبادئ السياسية المناسبة ما مكنها من مواجهة التحديات التي كانت تهدد بقاءها واستقرارها، وساعدها على الاستفادة الفعالة من نمو مصادرها وطاقاتها الاقتصادية، وإدراكها أهمية المحافظة على منظومة من العلاقات والتحالفات الإستراتيجية.
إن الشعوب الخليجية أصبحت اليوم على قناعة راسخة ومتمسكة بإيمان وقوة بضرورة الحفاظ على بقاء وسلامة أنظمة الحكم الملكية القائمة فيها، مدركة في الوقت نفسه أهمية اتخاذ هذه الأنظمة لكل الوسائل المشروعة لتحصين شرعيتها، وذلك بالاستمرار في جهود الإصلاح والتجديد، وتعزيز قيم الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وتوسيع رقعة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرار وادارة حكم البلاد ضمن مبدأ التطور التدريجي ومن خلال القنوات والمؤسسات الدستورية.