بقلم : عبد النبي الشعلة
نعيش في البحرين هذه الأيام أفراح وأجواء الاحتفال بالعيد الوطني المجيد الذي سيحل غدًا، وسنحتفي ونحتفل فيه بذكرى تولي حضرة صاحب الجلالة الملك المعظم، حفظه الله ورعاه، مقاليد الحكم، وذكرى قيام الدولة البحرينية الحديثة في عهد المؤسس أحمد الفاتح كدولة عربية مسلمة في العام 1783م.
ويحق لنا، نحن البحرينيين، كما يحق لكل أشقائنا وأصدقائنا ومحبينا، أن نفرح ونحتفي بهذين الحدثين التاريخيين المهمين؛ ففي العام 1999م عندما تقلد جلالة الملك المعظم حمد بن عيسى آل خليفة، حفظه الله ورعاه، مقاليد الحكم في البلاد، شهدت البحرين على يديه انطلاقة مباركة نحو آفاق ومسارات الإصلاح والتطور والتنمية السياسية والاقتصادية الشاملة التي لم تتوقف عجلات دورانها منذ ذلك العام السعيد.
وفي العام 1783م كان آباؤنا وأجدادنا قد فرحوا واحتفوا واستبشروا بعد أن تخطت وتخلصت البحرين وشعبها من المراحل التي كانوا يعانون فيها من اعتداءات وبطش وتسلط الطامعين ومحاولات البرتغاليين والصفويين والعثمانيين وغيرهم بسط نفوذهم على جزيرتهم المعطاء، في تلك الفترات وبسبب تفشي الاضطرابات وانعدام الأمن والاستقرار اضطرت الكثير من العوائل البحرينية للهجرة والنزوح والتغرب.
نعم، في العام 1783، شهدت البحرين حدثًا مفصليًا غيّر مجرى تاريخها وأسس لعصر جديد من الاستقرار والازدهار، حين وصلت طلائع وجحافل فرسان آل خليفة وحلفائهم إلى شواطئها وطردوا المحتلين، ولم يلقوا أي مقاومة تذكر من شعبها الذي استقبلهم استقبال المنقذين المحررين وقدم لهم البيعة والولاء، ليؤسسوا معًا علاقة قائمة على الثقة المتبادلة والشراكة في بناء المستقبل.
ومنذ ذلك التاريخ، تكررت مواقف ومشاهد البيعة والولاء طيلة مسيرة حكم آل خليفة للبحرين؛ منها وربما من أهمها ما حدث في شهر مارس من العام 1970 يوم جدد كل البحرينيين، بمختلف أطيافهم، بيعتهم وولاءهم للأسرة الحاكمة، وأكدوا تمسكهم بسيادة واستقلال بلادهم وبهويتها وانتمائها العربي عندما عيّن الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، يو ثانت، مبعوثه الشخصي، الدبلوماسي الإيطالي فيتوريو وينسبير، لإجراء استطلاع للرأي في البحرين. وكما هو معروف فإن وينسبير التقى خلال مهمته بمختلف فئات ومكونات المجتمع البحريني لاستقصاء آرائهم بشأن مستقبل البلاد.
وفي تقريره النهائي، أشار إلى أن “الغالبية الساحقة من شعب البحرين ترغب في الاعتراف بهويتها كدولة مستقلة ذات سيادة كاملة، حرة في تحديد علاقاتها مع الدول الأخرى”. وبناء على موقف الشعب البحريني الوفيّ وهذا التقرير، أصدر مجلس الأمن الدولي في 11 مايو 1970 القرار رقم 278، الذي اعترف برغبة شعب البحرين في الاستقلال. وفي الشهر نفسه تخلت إيران عن ادعائها بالسيادة على البحرين، وهكذا حافظ آل خليفة الكرام على سيادة الوطن وهويته واستقلاله، وتمكنوا بكل نجاح من مواجهة التحديات وموجات وأعاصير التهديدات والفتن.
وإذا كان الاحتفال بالعيد الوطني المجيد، وغيره من مثل هذه المناسبات يوفر لنا الفرصة لمراجعة العبر والدروس التي تعلمناها، واستنهاض الذاكرة، واستعادة شريط الأحداث التي مرت بها بحريننا الغالية؛ فلا بد لنا من الوقوف أمام ملحمة وطنية أخرى من ملاحم الإخلاص والبيعة والولاء عندما اصطف البحرينيون خلف قيادتهم، وصمدوا في وجه أعاصير ومؤامرات ودسائس ما سمي بالربيع العربي، تلك الأعاصير التي عصفت بالمنطقة في العام 2011 وأسقطت أنظمة عدد من الدول العربية، واقتلعت أسس أمنها واستقرارها، وألقت بها إلى هاوية الفتن والتمزق والانقسام والفوضى التي لا تزال قابعة في قعرها؛ كما نرى في ليبيا ولبنان وسوريا واليمن وغيرها.
إلا أن حكمة وحنكة وإرادة جلالة الملك المعظم حفظه الله ورعاه، ووقوفه بصلابة في وجه تلك الأعاصير والتحديات، ووقوف شعبه بكل إخلاص معه، مكننا من تخطي تلك المرحلة بسلام، وحماية الوطن، والحفاظ على أمنه واستقراره ووحدته، ولم يكن التحدي سهلا هينا، وكانت مرحلة عصيبة مريرة وتجربة مؤلمة قاسية واجهناها وتغلبنا عليها، بفضل القيادة الحكيمة والرؤية الواعية لجلالة الملك المعظم الذي تمكن أيضا وبكل اقتدار من قلب الطاولة على من أراد الإضرار بالوطن؛ فتصدى لأجندات ومشاريع التمزيق والتفرقة، وتبني أفكار ومبادرات تهدف إلى مكافحة كل الأخطار، يأتي على رأسها دعم ومساندة قيم التعايش والتعددية والتسامح والتعاون والسلام بين مختلف مكونات المجتمع الإنساني على المستويات المحلية والإقليمية والدولية؛ فباشر جلالته في هذا الاتجاه بإطلاق المبادرات وإنشاء المنابر والجوائز والقواعد الرامية إلى ترسيخ وتعميق هذه القيم والمبادئ ودعم وتشجيع الأنشطة والإسهامات والإنجازات في مجالات التقارب والحوار بين جميع المعتقدات والأديان والحضارات، بما يؤدي إلى خلق الظروف المواتية لتحقيق العيش المشترك في ظل الأخوة الإنسانية بين الشعوب والأمم.
واليوم، ونحن نحتفي ونحتفل بعيدنا الوطني المجيد، فإننا نجدد العهد ونجدد البيعة لمليكنا المعظم، ونجدد الولاء له وللوطن ولكل ذرة من ترابه الغالي، مدركين في الوقت نفسه التهديدات والأخطار التي تحدق وتتربص بنا نتيجة للظروف والأوضاع والتطورات الخطيرة التي تمر بها منطقتنا، والخراب والدمار والنيران المشتعلة في عدة مواقع فيها، والفتن والانقسامات والانهيارات التي تشهدها تلك الدول والتي تقتضي منا وتفرض علينا جميعًا ضرورة توحيد كلمتنا ورص صفوفنا والاصطفاف حول قيادتنا الرشيدة، والحرص على صون لحمتنا ووحدتنا الوطنية والعمل على استتباب الأمن والاستقرار وتحقيق التقدم والنمو والازدهار.
لقد قدمت البحرين وما زالت تقدم دروسًا في كيفية التصدي والتعامل مع التحديات والأزمات الكبرى. فبينما انهارت أنظمة أخرى أمام عواصف ما سمي بالربيع العربي، حافظت البحرين على نظامها السياسي ومؤسساتها الوطنية وقيمها الاجتماعية، واستطاعت أن تمضي قدمًا نحو تحقيق المزيد من التقدم والتنمية. وكان لهذه المواقف أثر كبير في تعزيز وترسيخ الوحدة الوطنية، وتجديد الولاء والثقة في القيادة الرشيدة، التي أثبتت أنها قادرة على حماية الوطن وتحقيق طموحات شعبه في كل الظروف.
ولنرفع أيدينا عاليا، اليوم وكل يوم، إلى السماء شاكرين الله سبحانه وتعالى على ما منَّ به علينا من نعم الخير والاستقرار والأمان، ضارعين وراجين منه جلت قدرته أن يحفظ وطننا الغالي من كل سوء ومكروه، مهنئين جلالة الملك المعظم وولي عهده الأمين رئيس مجلس الوزراء وحكومته الرشيدة وشعب البحرين الوفي بهذه المناسبة السعيدة، مع أصدق التمنيات للمزيد من النمو والتقدم.