بقلم : محمد الانصاري
قبل عقود من الزمن كانت بعض العوائل تستأثر بالامتيازات في المنطقة، إما بسبب احتكارها الوكالات التجارية الشهيرة ، او لتزعمها الطوائف الدينية المهمة ، أما الآن ليست التجارة حكراً على أحد ، كما صار طلب العلوم الدينية سهلاً ومتاحاً للجميع ، وبدأ توارث الزعامات يختفي شيئاً فشيئ.
في تلك الأيام كانت المجالس حكراً على الميسورين ، حيث كان المستعمر ينتهج سياسة التجهيل والتجويع بهدف السيطرة على البلدان ، و كان المجتمع في وضع يرثى له ، لدرجة ان بيوت معظم الناس كانت مبنية من سعف النخيل ، كما لم يكن الا بمقدور الأغنياء تقديم واجبات الضيافة البسيطة ، اما زوار تلك المجالس فقد كان غالبيتهم يذهب لشرب الشاي و تناول اليسير من الطعام المجاني.
مع مغادرة الاستعمار تحسنت ظروف المجتمعات الخليجية ، وبدأت ظاهرة العوائل التجارية في الانحسار تدريجياً لصالح المؤسسات ، كما أن نفس العوائل التجارية تفككت و جاء من هو أغنى منها بكثير ، ففقدت نفوذها وسلطتها ، و أصبح حجمها وتأثيرها محدودا ، لكن لا يزال هناك من لم يتمكن ان يرى ان الحجم الحقيقي إنتقل لمكان آخر ، فالجمعيات السياسية والاجتماعية و الاندية الرياضية ، و مؤسسات المجتمع المدني و المؤثرين في وسائل التواصل الاجتماعية و الإعلام، ورجال الدين ، والاتحادات والنقابات العمالية وغيرهم نجحوا في ملئ الفراغ بعد انتهاء أسطورة العوائل المتنفذة في الخليج .
إن البعض لا يعيش الواقع عندما يظن ان التنسيق مع عدد محدود من الناس قد يغني عن التفاهم المباشر مع القاعدة العريضة للأمة ، وهذا خطأً استراتيجي كبير تمكنت العديد من الدول من تجاوزه ، و البحرين أدركت هذا الشيئ بعد العديد من التجارب ، حيث ان الدولة وسعت تفاهماتها وتواصلها لتشمل مختلف الفئات ، ولذلك نرى تشكيلة مجلس الوزراء الاخير قد تنوع واتسع بشكل ملموس ، وقد جاء هذا التنويع نتيجة لتجارب تاريخية نختار منها بعض الأمثلة التي تؤكد المفهوم الذي ذهبنا إليه في هذا المقال:
المثال الاول : قام عدد كبير سواق سيارات التاكسي وملاكها في ٢٥ اغسطس ١٩٤٥ ميلادية بالإضراب عن العمل ، ما تسبب في شل الحركة المرورية في البلد لمدة أسبوع ، كان سبب هذا الإضراب هو مطالب السواق تخفيض سعر التأمين على السيارات ، والسماح بإنشاء صندوق للتعويضات ، وإلغاء رسوم جسر المحرق الذي تم بناءه عام ١٩٤١.
هذا الاضراب لم يستطع أحد ايقافه الا بعدما تدخل حاكم البلاد المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ سلمان بن حمد بن عيسى ال خليفة ووجه بتأسيس صندوق تأمين للسواق وهي شركة تأمين تعاونية أطلق عليها اسم (صندوق التعويضات التعاوني) ، اما العوائل النافذة في ذلك الوقت آثرت السكوت حفاظاً على مصالحها ، وتركت جهود الحل والتسوية للحاكم مباشرةً مع الشعب.
المثال الثاني : نشبت مواجهات و نزاع كبير في ١٥ يونيو ١٩٥٤ ميلادية في منطقة سترة ، تسببت في قتل ٤ من المواطنين البحرينيين كلهم من طائفة واحدة ، فألقت الشرطة التي كانت تأتمر بأمر الانجليز القبض على زعماء الطائفة الأخرى ، وحكمت عليهم المحكمة التي يسيطر عليها المستعمر بالسجن لمدة ٣ سنوات ودفع غرامة قدرها ٥٠٠٠ روبية
أثار الحكم الذي صدر غضب شعبي واحتجاجات ، وقد توجه جموع المتظاهرين الى «القلعة» حيث يسجن زعمائهم ، فقتلت الشرطة بأوامر الانجليز ٤ أشخاص من المتظاهرين ،مما زاد من غضب الشارع ، لم تتوقف النزاعات الا عندما قام الحاكم بحل هذا النزاع بين الطوائف بشكل مباشر و التوصل الى قرار بتشكيل لجنة للنظر في تلك الاحداث ، في وقتها أختفت العوائل التجارية عن المشهد ولعب الوجيهة المرحوم منصور العريض دوراً مهماً في هذا التوافق.
المثال الثالث ؛ قام بعض العمال العرب العاملين في شركة ارامكو في أواخر عام ١٩٥٣ ميلادية بالاضراب بهدف تحسين ظروف عملهم ، عاد العمال البحرينيون العاملون في هذه الشركة لبلدهم جراء تلك الإضرابات ، وبدأوا يتحدثون بحماس عن نشاط العمال في أرامكو ، بدأ عمال بابكو بالحديث حول نفس مطالب عمال أرامكو ، لم ينتظر الحاكم بلوغ الوضع حد الاحتجاجات بل قام بالنظر فيها و تحقيق الممكن منها و التفاهم مع العمال بشكل مباشر ، في تلك الفترة لم ينبس أي شخص من ملاك الشركات الكبيرة باي كلمة واختفى الكبارية خلف مشاغلهم ، فقط الحاكم والجمهور كانوا أبطال التفاهم .
المثال الرابع : وقعت أحداث ١٤ فبراير ٢٠١١ ميلادية دون سابق إنذار ، حينها تفاجىء الجميع من تسارع الأحداث ، كان واضحاً بان الميزان لم يعد بيد التجار ؤلا العوائل الكبيرة ، كان غياب الوجهاء واضحاً ، فبعضهم أختفى تماماً عن المشهد العام ، كانت الدولة حينها مدركة بان التواصل المباشر مع الشعب أمر ضروري ، لم يتأخر صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد في مخاطبة الناس بشكل مباشر عبر تلفزيون البحرين ، من وقتها ولهذا اليوم اللقاءات لاتزال مستمرة، فلايزال يحمل الامير سلمان عصا جده المغفور له الشيخ سلمان ويتواصل مع الناس حتى يتوافق الجميع ، و لن يكون ذلك ببعيد.
ختاماً ؛-
١- إنتهى عصر سيطرة العوائل و الوجهاء وجاء عصر التشارك و التشاور والتوافق الذي يساوي بين جميع أبناء الوطن ويحترم كفاءاتهم ، ويعطي الدور الأكبر للعمل المؤسسي.
٢- سوف تشهد الأيام والسنوات القادمة أتساع الشراكة في إدارة الدولة ، والاستقرار سوف يزيد من دور الافراد و مؤسسات المجتمع المدني في العمل العام.