بقلم : محمد الانصاري
إصطدمت المحاولات التي قامت بها الدولة لإقناع المواطنين بالعمل في المهن الحرفية والفنية بواقعها المرير والمؤسف ، حيث ان تلك المهن ليست جاذبة للمواطنين ، نظراً لضعف مردودها المادي ، وانعدام أفقها المستقبلي ، فضلاً عن النظرة المجتمعية الخاطئة لها ، وكل ذلك بسبب التشوهات العميقة في سوق العمل البحريني ، والتي أدت الى سيطرة العمالة الأجنبية غير المدربة والرخيصة على معظم فرص العمل ، وجعلت محاولات المواطنين للتأقلم مع الواقع والقبول به أمراً صعباً للغاية.
بدأت العمالة الرخيصة تغزو البحرين مع قيام النهضة العمرانية الكبيرة في مطلع سبعينات القرن الماضي ، وقد برزت هذه الظاهرة قبل نصف قرن ، وأدت الى موت بطيء أصاب جاذبية المهن الحرفية والفنية في نظر أبناء البلد الأصليين ، وأدى لعزوف الشباب عن العمل اليدوي تدريجياً ، فقد توجه الجميع للدراسة في الجامعات ، ورافق ذلك نظرة دونية للعمل المهني والفني ، لأنها صارت مستعمرات أسيوية مقصورة على متدني الأجور، ممن بالكاد يفكون الخط.
أحد أهم أسباب تشوهات سوق العمل البحريني ، عدم وجود أطر ومعايير لتنظيم المهن الفنية والحرفية ، لدرجة انها حتى اليوم تفتقر لتحديد تعريف وتوصيف متفق عليه بشكل رسمي لكل مهنة ، سواءً في ديوان الخدمة المدنية المعني بالقطاع العام ، أو في وزارة العمل المعنية بالقطاع الخاص ، كما لا يوجد حتى الآن منظومة للمعايير المهنية والفنية يتم بموجبها وصف كل مهنة و تقسيمها لمستويات ودرجات ،ويحدد بموجبها المهارات المطلوبة لكل مستوى ويتم ربطها بسلم الأجور والمميزات في القطاعين العام والخاص.
لقد كان من أهم أهداف خطة إصلاح سوق العمل ، جعل البحريني الخيار الأمثل للقطاع الخاص ، لكن لن يتأتى ذلك ما لم نجعل المهن التي يولدها القطاع الخاص جاذبة للبحرينيين أيضاً ، وهذا مستحيل الحدوث في أتون كل هذه الفوضى وغياب التنظيم في أوسع شريحة من الشواغر التي تتولد في البلاد ، حيث أنها تركت من دون إشراف و رقابة حتى الآن.
ولتبسيط الامور و جعلها مفهومه للجميع ، لا يوجد في البحرين جداول واضحة تحدد شروط و متطلبات إصدار رخصة عمل في المهن الفنية والحرفية ، و بالتالي لم تحدد المميزات والأجور المناسبة لكل مهنة ، فمثلاً من تخرج من الثانوية العامة شعبة الصناعي تخصص السيارات ، ثم تدرب في معهد البحرين ٣ سنوات في ميكانيكا السيارات ، وبعدها تدرج بالعمل في عدد من شركات ووكالات السيارات يسمى اصطلاحاً ميكانيكي سيارات ، و من عمل شهرين مع صديقه على باب منزلة في تصليح السيارات يسمى اصطلاحاً ايضاً ميكانيكي سيارات ، و هذا خلط وخطأ واضح يتكرر لدينا باستمرار ، أما في الدول المتقدمة فقد تم حل هذا الخلط عبر وضع معايير محددة وأوصاف ومستويات للمهن الفنية والحرفية معتمدة من الدولة و منفذة في القطاعين العام و الخاص بشكل دقيق.
لقد عملت وزارة العمل لسنوات طويلة في اعداد منظومة المعايير المهنية والفنية ، و قامت بربطها بكافة المستلزمات التي شأنها ان تسهم في تطوير المهن وتجعلها في نفس الوقت جاذبة للمواطنين ، وقد حصل ذلك بالتعاون مع غرفة تجارة وصناعة البحرين و بمشاركة الشركات الكبرى و النقابات العمالية ، و بمساعدة عدد من بيوت الخبرة منها شركة بريطانية وأخرى المانية ، وهذه المنظومة كانت جاهزة تماماً لإطلاقها بالشراكة مع صندوق العمل تمكين في فترة الدكتور إبراهيم الجناحي ، الا ان التغيرات السريعة في اداراة العمل في هذه المؤسسات قد كانت سبباً وراء صرف الاهتمام بهذا المشروع المهم والحيوي وتأجيله لأجل غير مسمى.
سوف لن تكون المهن الحرفية جاذبة للمواطنين كما تطمح الحكومة ، و لن يرضى بها و يْقبل عليها الباحثين عن عمل ، ما لم يتم تفعيل منظومة المعايير المهنية للأعمال الفنية والحرفية ، التي من خلالها يضمن أبناء البلد حصولهم على فرصة عمل مناسبة ،وترقيهم في سلم العمل بكل عدالة وإنصاف ، والذي في تقديري لا تحتاج لأكثر من شهر واحد اذا عملت جميع الجهات في وضعها قيد التنفيذ والأولوية ، فهي جاهزة تماماً للتنفيذ في أدراج وزارة العمل وتمكين ، وسوف لن تنتهي هذه الفوضى في سوق العمل ، ما لم يتم تنظيم المهن و الحرف وفق أرقى الممارسات في الدول المتطورة ، كما تم ذلك في الشهادات الجامعية ، حيث تم وضع معايير وكفايات علمية دقيقة لكل تخصص.
ختاماً
١- يجب الإسراع في إصدار الأوامر التنفيذية لتفعيل منظومة المعايير المهنية التي تم الانتهاء منها منذ عام ٢٠١٤.
٢- لن تكون المهن الحرفية محل إقبال المواطنين في ظل هذه الفوضى في تنظيمها و ترخيص العاملين فيها.
٣- البحرين تخسر كل يوم الكثير من الجهد والمال بسبب ان العاملين في المهن الحرفية والفنية يعملون من دون تنظيم.