"رأت الطفلة " تعبه " نفسها في عمر الصبا ، لم تتجاوز التاسعة بعد ، تزف بين ليلة وضحاها لرجل طاعن في السن قدم مرها بالكاد يذكر ، لربما حفنة من المال ، وها هو صوت (تصفيقة) وربما زغرودة خافتة من قلب ام يتقطع الما على وليدتها التي ستساق في ريعان طفولتها لتتحمل ما عانته أمها او اكثر.
مشهد حزين، اختزل كل عصف الذاكرة الموغلة في آهات أجيال من الزيجات المعذبة والصابرة حد التقديس "
هكذا قدمت الدكتور جميلة الوطني سيرة أمها " تعبه " في كتاب شيق يمثل وضع المرأة البحرينية واضطهادها في فترة الربع الأول من القرن الماضي .
بدأت السيرة بمناقشة الاسم الغريب " تعبه" حيث قالت : بدأ الشقاء منذ الولادة ، " من عادات البحرينيين التي طغت على بقية سماتهم وعلاماتهم الجمعية والفردية، انهم ومنذ أعماق تاريخية موغلة في النسيان، وبانية للذات الإنسانية، كانوا يتعاضدون في كل المناسبات افراحا واتراحا، وعلى جري العادة، تجمع بعض النسوة في صباح باكر حيث سمعن لجارتهم زمزم ( ام تعبه) وهرعن الى زيارتها، وعرضن خدماتهن المادية والمعنوية، ووقفن بجانبها حتى الرزق والتعافي، في حيث بقى بعض بترقب بامل تختلجه حشيو ما بعضه الأحيان يترقبن خبر الولادة مع كل صرخة الم تصدر من فوهة ذلك المكان المفعم بالوحي ، حث اطلالة جديدة منتظرة على وجه الأرض، وكانت وجههن تتجهم وتظهر علامات الانفعال التاثر والتفاعل.. مع توالي الادعية والاسئلة حبلى مشوية بقلق وفرح قادم او حزن قاسي ، واذا بالولادة تعلن عن وفاة زمزم وانتقالها الى جوار ربها .. وطلبت مساعدة الرجال لنقل المتوفاة الى الجبانة للدفن ، ومع تأخر قدوم الرجال واذا بزمزم تتنفس مرة أخرى ، وتصرح الولادة ( بسبب دعائكم عادة زمزم للحياة ) دون علمها بانها لم تمت بل اغشيى عليها .. وبسبب صعوبة الولادة التي عانتها لام وتعبها اطلقت الجدة على المولودة الجديدة " تعبه " من تعب أمها ، ومع غياب ابيها في الغوص حيث كان يعمل " سيب " تم تثبيت الاسم .
وما ان بلغت " تعبه" التاسعة من عمرها والذي صادف مرض والدها مهدي السلاطنة ، وهو المعيل الوحيد بالعائلة، جاء لخطبة " تعبه" رجل يكبرها سنا طالبا الزواج منها ، حيث العادات القديمة بالخليج العربي تقتضي زواج البنت في سن مبكر، وبعد تردد ، وافق الاهل من تزويجها لرجل طاعن بالسن ولديه أطفال بعمر " تعبه" بعد دفعه مهرا بالكاد يذكر ، انتظرها حوالي سنة ونصف سنة حتى تكمل العاشرة ونيف ليدخل عليها ، بعد ان أبلغت ام العريس ( ابنها ) بان عروسته قد بلغت ( أي اكتلمت انوثتها) وبدأت دورتها الشهرية ، وبسبب صغر سنها ، انجبت أربعة أبناء جميهم ماتوا وهم صغار قبل ان تترمل قبل بلوغها الثامنة عشر.
ولحسن حظ " تعبه " تقدم شخص وسيم اسمه يوسف الوطني ، جارهم الذي فقد زوجته اثناء باكورة أولاده ، والذي كان يعمل نجارا وشكل عائلة سعيدة نتج عها ثلاثة أولاد وبنت ( كنت البنت اخر العنقود ) التي حظيت بحضن دافئ من اخواني الأربعة.
العائلة الصغيرة رغم حالتها المتواضعة عاشت بكرامة وتعاون افرادها ، وأول مشكلة صادفتها إصابة عمل اصابت ابن زوجها ( البكر ) عيسى والذي كان يعمل في الصيف كعادة اهل البحرين قبل الطفرة وادى الى شلله النصفي ، وسجن ابنها الثاني لاسباب سياسية لمدة اشهر ، سؤ الحالة الاقتصادية التي أدت الى خروج الابن الثالث ( امين ) من المدرسة ، وهو حال معظم العوائل في تلك الفترة ما قبل الطفرة النفطية.
تتحدث " تعبه" في كل مرة بعينين حزينتين تنضحان بالدموع، حتى بلغت مشهد فقدها اطفالها وجحيم طفولتها ، وبصوت متعب يخفي خلفه الألم ، كانها تعيش الماضي بحرقة دموع الحاضر ، على الرغم من كل التبدلات الجوهرية ، التي حدثت في حياتها وما انعم الله به عليها وحباها من صبر طويل ، لكنها لم تنس الأيام الخوالي وما مرت به في طفولتها وزواجها، وأهلها وعيالها وبيت زوجها وظروفها ، تسترجعه كانه امس واليوم والحاضر والمستقبل الذي لا يقبل الرحيل ويستحيل على النسيان.
أكملت " تعبه "حياتها وبقيت كل تلك الاحداث المرة تمر امام عينها لم تشك يوما لاحد حالها ، حتى اقرب الناس لها مثل زوجها وابنائها ، كانت مؤمنة بكل شيء، تشكر الله على نعمه دائما.
مرضت " تعبه " شهورا عديدة قبل وفاتها ، وكانت ابنتها " جميلة " الحامل تعتني بها طوال فترة مرضها الى جانب زوجات اودلاها ،حتى وافتها المنية .
تختتم الكاتبة سيرة أمها بالقول :
كانت وستبقى " تعبه" ليست اما فحسب ، بل ملحمة عصامية وانموذج حورية تفترش بروحها كل الشواطئ لتنتشل أرواح الغارقين، وتسجيب لنداء المستغيثين، انها لحظات وداع ومراكب سيظل فيها الانين ديدنا ودينا ، في أعماق لطالما اشرابت ، لتنال من هذه القمة المتعالية ، كانت " تعبه " حياة ستظل خالدة في ذكراة الاحياء ، لن ياخذها الموت بعد ان مات الفراق في شخصها الذي اختط طريقه في الحياة.