كتب: الشيخ حميد المبارك
"وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ، قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى .." (البقرة ١٢٠).
إن ذِكر الآية لليهود والنصارى بالخصوص راجع إلى كونهم مورد الكلام والمحاجّة. فإن طبع الانسان بنحو عام هو النفرة والاستيحاش من المخالف، خصوصاً فيما يتعلق بالقضايا الدينية التي تكتسب صفة القداسة، أو الولاءات التي لها انعكاس على هوية الانسان أو معيشته.
ويمكن القول بأن للانسان نوعين من الطباع:
الطبع الأول: النزعة الانسانية.
وذلك نظير معرفة حسن العدل، والميل العميق إلى الرحمة والاشفاق على الضعيف. وهي ثمر ونتاج نفخة روح الله: "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي .." (سورة الحِجر ٢٩). فليست السمات الإنسانية بمعزل عن الجانب الرباني: ".. وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ" (آل عمران ٧٩). قال في تفسير الصافي: والرّباني منسوب إلى الرب بزيادة الألف والنون، وهو الكامل في العلم والعمل. انتهى. أقول: فإن تعاليم الأنبياء (الأنعام ١٥١-١٦٤) هي انعكاس للفطرة الموضوعة في الانسان بروح الله، والتي لا تقبل التبديل (البقرة ١٣٠-١٣٥؛ الروم ٣٠).
الطبع الثاني: النزعة البشرية.
وهي ناشئة عن الجانب الجسدي في الانسان: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُون" (سورة الحِجر ٢٨). وتتلخص في شهوة الجسد وطمع الاقتناء وتعظيم الذات (التكوين ٣: ٦). وأصل هذه النزعات ضروري لحفظ البقاء، لكنها تكون مُهلِكة إذا تجاوزت قدرها الطبيعي وتعدّت حدودها القِيمية والأخلاقية (الانسانية).
أهمية الاعتدال بين الطبعين.
ومما تقدم، يتضح أن كلا الطبعين ضروريان لحياة متوازنة، لكن مع مراعاة الاعتدال حسب الغاية التي أُعدّ لها. والمبالغة في أحد الطبعين هو تهديد لما هو الغاية من الآخر: "لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ .." (رسالة غلاطية ٥: ١٧). وقد قيل: الاعتدال فضيلة بين رذيلتين، فإنه النمرقة الوسطى (الكليني، أصول الكافي، باب الطاعة والتقوى):
ا) وحيث إن الأمور الجسدية أقرب إلى حس النفس، فهي تنزع إلى الاستزادة منها والمبالغة فيها لو تُركت دون مراقبة: "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ" (آل عمران ١٤). ومن هنا، يلزم دوام الاختبار والمراقبة الدائمين لدوافع السلوك. فلا يبالغ في طلب شهوات الجسد ورغبات التفرد، بل يدرب النفس على ما هو الحق الرباني الانساني.
ويقول في النفس: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا" (الشمس ٩-١٠)، فمن زكّاها أي طهّرها من الانقياد إلى السقطات الجسدية، ومن دسّاها أي تركها تغرق وتختفي في غمارها.
ب) كما لا يبالغ في المُثُل إلى حد الإخلال بالضرورات الجسدية والنفسية: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ، وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا .." (القصص ٧٧). ولنأخذ الانفاق مثالاً: ".. وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ .." (البقرة ٢١٩). قال في تفسير الصافي: وهو أن ينفق ما تيسر له بذله ولا يبلغ منه الجهد واستفراغ الوسع. قال: خذي العفو مني تستديمي مودتي. وروي عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم "يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ويجلس يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى". وفي الكافي والعياشي عن الصادق عليه السلام: العفو الوسط. وفي المجمع عنه عليه السلام والقمي قال: لا إقتار ولا اسراف. انتهى كلامه.
أقول: وقد جاء: ".. وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ .." (الحشر ٩). لكن تتمة الآية ".. وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" شاهد أنه ناظر إلى التغلب على الشُّح وبخل النفس عن العطاء. مع إن الإطلاقات البدوية في الإيثار مقترنة بتقييدات عقلانية، نظير: أن لا يضر بنفسه أو بعياله ضرراً بالغاً كما تقدم في الحديث الذي أورده الصافي. ونظير: أن يراعي قدرته النفسية قبل المبالغة في العطاء، فلا يقع بعد ذلك في التحسر والتأسف، أو المنّ على المُعطَى، أو توقع المدح المبالغ فيه من الناس (البقرة ٢٦٢).
ج) كما يجب مراعاة الأهم والمهم، وحساب النتائج. فقد يضطر إلى التنازل عن بعض المُثل تقية (آل عمران ٢٨)، بل قد يضطر إلى قول الباطل ظاهراً لدرء خطر: "مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ .." (النحل ١٠٦). ومورد نظر الآيات فيما إذا كان للتقية مصلحة غالبة، لكن الأمر يختلف فيما لو كان للمجاهرة بالحق نتائج إيجابية واضحة أو كان للتقية مفاسد واضحة. ومن المهم الالتفات إلى أن مثل هذه القضايا التزاحمية التابعة للتشخيص قد يتعذر فيها الحسم القطعي، وذاك لاختلاف الناس في تشخيص الأولويات والنتائج، مع اختلاف النواحي النفسية والذهنية لدى الأشخاص.
وختاماً أقول: ومن الطباع البشرية المُعدّة لحفظ البقاء: الحذر من المخالف. إذ إن المخالف مجهول العواقب أو هو مظنة الخطر والتهديد. فأصل الحذر من المخالف أمر غريزي، وهو مطلوب في حدود وضع فارق بين الصواب والخطأ: ".. وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ .." (البقرة ١٤٥). ولكن الإشكالية تقع حين يتضخم الاستيحاش من المخالف:
١- فيتوهم الانسان أنه الحق المطلق في قبال أن المخالف هو الباطل المطلق، مع إنه مهما بلغ الانسان في استيضاح الصواب فإنه لا ينبغي أن يغفل عن محدوديته الذهنية والنفسية. ومهما بدت الأمور واضحة لنا فمن العادي جداً أن يخفى علينا بعض جوانبها وحيثياتها. ولا يعلم الصواب بكل جوانبه إلا الله تعالى: ".. قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ..".
٢- وقد تصل المبالغة في الحذر من المخالف إلى حد العداوة والاعتداء، والتهمة في النيات والدوافع. فنكون كمن وضع ميزاناً للحساب قبل يوم الحساب. وهو اليوم الذي تُبلى فيه السرائر (سورة الطارق ٩)، وتبرز فيه الخفايا (غافر ١٦)، وهو اليوم الذي ".. تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ، لاَ ظُلْمَ اليَوم .." (غافر ١٧).
٣- ومن أخطر الأمور أن يبالغ الانسان في الحذر من المخالف إلى الاستغراق في المغالبة، ثم لا يكتفي بذلك بل يسعى إلى مزيد من التبرير بالاستعانة بالنصوص والتنظيرات الدينية، فيضفي على تلك الغريزة البشرية التي أُعدت لغاية محددة أبعاداً واسعة من القداسة والتهويل تُحوّلها إلى خطر يُهدِّد البقاء النوعي والتعايش الطبيعي. ولنتأمل في سياق سورة الحجرات: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ. .. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ. يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات ٦، ١١-١٣). ولا يخفى اشتمال القيد في قوله تعالى ".. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ .." من فائدة عظيمة، فإن الله وحده هو الذي يعلم السّر وأخفى (طه ٧).