بقلم : الشيخ حميد المبارك
"وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ، قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى، وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ، مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ" (البقرة ١٢٠).
(١) سياق الآية
ا) ".. وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم ..":
تفترض الآية عناد المخالفين للنبي وتبعيتهم للأهواء. وفي ذات السياق: "وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. .. وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ" (البقرة ١٠٩، ١٣٥).
ب) ".. قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى ..":
ويقابل تبعية الشخص للهوى أن يسلّم وجهه لله (البقرة ١١٢)، أي يخلي قلبه من كل عصبية ويدع الله يوجهه حيث يشاء (الأمثال ٢٣: ٢٦). فإن الله يهدي من يقاوم تيارات الأهواء ثم ينقاد لله في معرفة الحق "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ" (سورة العنكبوت ٦٩).
(٢) وضوح الحق لدى أهل الكتاب المعاصرين للنبي.
ولازم افتراض تبعيتهم للأهواء افتراض وضوح الحق لديهم: كما جاء في موارد متكررة في القرآن الكريم: ".. فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ .. إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ .." (البقرة ٨٩، ١٧٤-١٧٦). وقد ذكر القرآن الكريم عدة مسوغات لافتراض وضوح حقانية الرسالة المحمدية لدى أهل الكتاب، منها:
ا) ذِكر النبي (ص) في الكتب المتقدمة. قال في تفسير الجلالين: إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّه مِنْ الْكِتَاب" الْمُشْتَمِل عَلَى نَعْت مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ الْيَهُود. انتهى كلامه. وقد جاء هذا المعنى في سياقات قرآنية متعددة: "الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ .." (الأعراف ١٥٧).
ب) كون مضامين القرآن مصدقة لما معهم: "وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ، وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ" (البقرة ٨٩).
(٣) النسبية في الفهم وليس في الحق
الحق واحد لا يتعدد في علم الله تعالى، وإنما تختلف أنظار الناس إليه حسب اختلاف استعدادهم. والله وحده قادر على تمحيص أسباب المخالفة بنحو قطعي، هل هو الهوى والعناد؟ أو الغفلة والقصور؟ وأما بالنسبة إلى غير الله تعالى، فالغالب لزوم التثبت، مهما بدا الدليل عندهم واضحا وجلياً.
ومن الأخطاء الشائعة لدى بعض المجادلين في الأديان والمذاهب هو اقتصار نظرهم على وضوح الدليل عندهم في الحكم على المخالفين لهم بالعناد والمكابرة.
في حال أنه لا يخلو تفكير أحد من الناس عن الموجِّهات النفسية والذهنية، والتي تنشأ عن سمات شخصية موروثة أو عن عوامل التنشئة الأسرية والتوجيه الاجتماعي. وتلك الموجِّهات هي بالضرورة مؤثرة في نحو تلقي الشخص أو المجموعة للدليل. وقد يمكن للشخص التغلب على الطباع الشخصية وعلى عوامل التنشئة، ولكنها لامحالة تلقي بظلالها على منظوره للأشياء. وبالتالي، فهي تحد من مساحة الوعي والاختيار لديه. وهذا تعبير آخر عما يمكن أن نسميه: نسبية الفهم أو تعدد الأفهام. فمهما بدا لك الحقُّ واضحاً، لا تتسرع في اتهام مخالفك بالعناد.