نهار آخر ..مخيم شاتيلا .. البؤس والخواصر الرخوة
بقلم: رضي الموسوي
لم يكن مخيم شاتيلا مشهورا كما هو الآن، حتى وقعت المجزرة الشهيرة في سبتمبر1982 والمعروفة بمجزرة صبرا وشاتيلا. وقد عتم الاحتلال الصهيوني عليها حتى تمكنت بعض وسائل الاعلام من الدخول الى المخيمين فوجدوا نموذجا مصغرا لما يحدث الآن في غزة.
على أبواب المخيم يتغير كل شيء وكأنك في بلاد لا علاقة لها ببيروت حيث أحزمة البؤس والفقر والإهمال تسيج المخيم لتبدأ رحلة الاكتشافات المفجعة. ليست المرة الأولى التي نزور فيها شاتيلا، لكن في كل زيارة تزداد الفظاعة والبؤس. عندما وطئت أقدامنا طرقات المخيم، عادت الذاكرة لسنوات عمرها 42 عاما حين كانت قوات الاحتلال الصهيوني تعيث فسادا في بيروت بعد رحيل المقاتلين الفلسطينيين، باتفاق ضمنت فيه الولايات المتحدة الامريكية أمن المخيمات بألا يمسها ضر، لكن هذا الضمان تحول إلى حماية وتغطية سياسية وديبلوماسية لكل ما قام به جيش الاحتلال وعملاؤه من جرائم منذ احتلاله الاراضي اللبنانية. تذكرت تلك اللحظات التي أعقبت المجزرة بشهر، حين انتشرت أخبار عن عزم قوات سعد حداد العميلة للاحتلال على تنفيذ مجزرة جديدة في المخيمين، فأستنفر الشباب الفلسطيني واللبناني الذين بقوا على قيد الحياة وآخرون جاءوا من خارج المخيم، واستلوا ما تبقى من اسلحة خفيفة وضعوها في أكياس الخيش وقرروا الدفاع عن المخيمين. لم تاتي ميليشيا سعد حداد في تلك الليلة ولم تأتي بعدها، إلا أن البؤس والحرمان و"الاختراقات الامنية"، صارت تؤرق المخيم.
**
شاتيلا مخيم شقيق لمخيم صبرا في اللجوء الفلسطيني ما بعد النكبة وفي حمام الدم الذي تدفق في 16 و17 و18 سبتمبر 1982 عندما حاصرت قوات الاحتلال الصهيوني المخيمين وأدخلت القوات الكتائبية بقيادة سمير جعجع الذي يتزعم الآن القوات اللبنانية لترتكب المجازر الفظيعة. وحسب التقديرات المختلفة، سقط في المجزرة ما بين 3000 إلى 5000 شهيدا فلسطينيا ولبنانيا جلهم من الاطفال والنساء والشيوخ وبينهم الشباب، واستخدمت البنادق والمسدسات والسكاكين في تنفيذ المجزرة البشعة.
في الزيارة الأخيرة لمخيم شاتيلا مطلع يونيو الجاري، تجلت حالة البؤس والحرمان في تلك المساحة الجغرافية التي لا تزيد عن كيلو متر مربع يقطنها نحو 30 ألف نسمة، يشكل الفلسطينيون الان ما بين 20 بالمئة و35 بالمئة وفق التقديرات، بينما يشكل اللاجؤون السوريون وجنسيات أخرى الاغلبية الساحقة فيه بعد أن كان مخيما فلسطينيا خالصا. بني مخيم شاتيلا عام 1949 جنوب العاصمة بيروت ويخضع لبلدية الغبيري القريبة من الضاحية الجنوبية، وقد شُيد على أرض تبرع بها سعد الدين باشا شاتيلا. يعاني المخيم من كل الأزمات التي تخطر على البال، بدءا من شبكة تصريف المياه إلى الاكتاظ السكاني الذي يعاني منه السكان خصوصا بعد لجوء نسبة مهمة من فلسطينيي مخيم اليرموك بدمشق إلية، بالاضافة إلى آلاف السوريين الذين وجدوا في لبنان ملاذا آمنا، مما حول المخيم إلى علبة سردين يتكدس فيها عشرات آلاف البشر المعدمين وغير القادرين على تحسين ظروف معيشتهم.
لا تشرق الشمس في طرقات المخيم القابع في حرمان قلّ نظيره، ذلك أن المباني متراصة، والشمس لا تطأ أشعتها الأرض، وإن تمكنت تحجبها أسلاك الكهرباء والماء المعلقة بشكل عشوائي مما أدى الى قتل المئات اغلبهم من الاطفال. في المخيم لا يمكن للمركبات السير في طرقاته، بل أن بعض الأزقة لا تسع إلا لشحص واحد للمرور فيها. لا أحد يهتم بالمخيم، يقول أحد المسؤولين في روضة أطفال في المخيم. ويفيد بأن الوضع أكثر من مأساوي في شاتيلا. الروضة التي زرناها لا تدخلها الشمس إلا من سطح البناية التي تقبع فيها، والتيار الكهربائي كحال الكهرباء في لبنان واكثر. يضيف المسؤول "أن الفصائل لا تقوم بمسؤولياتها كما يجب في شاتيلا، بل أن بعضها يأخذ اتاوات من القادمين الجدد من سوريا"، ولا يجد حرجا في البوح بأننا قد نكون العرب الأوائل الذين زاروا الروضة، التي أغلب تلامذتها هم من أبناء الشهداء.
**
بعد المجزرة كتب الشاعر الفلسطيني عدوان علي الصالح، قصيدة مؤثرة غنتها فرقة الطريق العراقية في عدن عام 1983 وانتشر صيتها:
"امنحيني الصبر ياصبرا امنحيني
واجعلي الشمس تضيء الآن في شكلٍ حزینِ
واعلنيها للوری انه مهما فعلوا
لن تخضعي.. لا.. لن تليني
واكتبي أسماء من قد قتلوهم
فيك یا صبرا على كل جبينِ
2
انا غضبان وثائرْ
فاغضبي مثلي وثوري
علها تصحو الضمائرْ
لست أدري كيف يا صبرا أناجيك
وانت اليوم یا صبرا تشوهك المجازرْ
فالذي فيك جرى يعجز عنه وصف شاعرْ
3
ان اقول الصبر یا صبرا جميلُ
ودم الشعب لنور الفجر یا صبرا دلیلُ
لست ابكي… كيف ابكي
کیف يا صبرا وهل يبكي القتيلُ؟
آه كم صبرك يا شعبي طويلُ
4
صابرٌ انت على كل المآسي والمظالمْ
صابرٌ انت وما زلت تقاومْ
وعلى شبر ترابٍ أنت يوما لن تساوم
بعد هذا اليوم لن يوجد فينا أي نائم".
**
في هذه اللحظات التي ترتكب فيها قوات الاحتلال الصهيوني حرب الابادة الجماعية والتطهير العرقي منذ أكثر من ثمانية شهور، تتأكد أكثر طبيعة الكيان النازية، ليس فقط لوجود قادة صهاينة مثل نتنياهو وبن غفير وسيموتريش، بل أن طبيعة الكيان قائمة على التطهير العرقي وانهاء الآخر بغض النظر كان طفلا أو إمرأة أو رجل مسن. هذه الايدلوجية قائمة منذ بروز فكرة تأسيس الكيان، وتجسدت في المجازر التي ارتكبت بعد وعد بلفور في 1917، تنفيذا لقرارات الحركة الصهيونية العالمية ومؤتمرها الذي عقد في 1889. مجزرة صبرا وشاتيلا تعتبر نموذجا مصغرا لما يحدث الآن في قطاع غزة من مذابح جماعية وحرب إبادة وتطهير عرقي.. إنه الصراع الوجودي ليس إلا. وترك المخيم على ما هو عليه يشكل خطورة كبرى بإعتباره خاصرة رخوة وقنبلة موقوتة يمكن أن تنفجر في أي لحظة يقررها مشغلوا القوى المضادة المتحالفة مع العدو.