DELMON POST LOGO

نهار آخر .. البحرين وإيران.. إلى متى يظل قوس التوتر مشدودا؟

بقلم: رضي الموسوي

"لقد كانت لدينا مشكلات مع إيران، لكن الآن لا يوجد أي مشكلات على الإطلاق. لا يوجد سبب لتأجيل تطبيع العلاقات مع إيران (...) نحن نفكر في حسن الجوار مع جيراننا بصورة عامة وهم بلا شك كذلك. نحاول أن تكون بيننا وبينهم علاقات طبيعية دبلوماسية وتجارية وثقافية".

(جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة في لقائه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتن)

تلخص هذه الكلمات الموقف الرسمي البحريني الصادر عن قمة الهرم السياسي في البلاد إزاء العلاقة مع إيران. هذه العلاقة التي مرت بتوترات ليست وليدة العقود التي أعقبت الثورة الإيرانية في 1979، بل تمتد لعقود طويلة جدًا، منذ عام 1822، إذ كانت إيران بأنظمتها وسلالاتها المتعاقبة تدّعي تبعية البحرين لها لأهمية الموقع الجغرافي الاستراتيجي في الخليج العربي. زادت العلاقات توترًا بعيد إعلان بريطانيا نيتها الانسحاب من شرق السويس في 1968بما فيها منطقة الخليج العربي وذلك بعد أفول نجم المملكة التي لا تغيب عنها الشمس واحتلال الولايات المتحدة الأمريكية مكانها، حيث ادعت إيران الشاهنشاهية بتبعية البحرين لإيران، لكن المياه جرت بما لا تشتهي سفن محمد رضا بهلوي، وقامت البحرين بتحركات واتصالات كثيرة أهمها زيارة الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة إلى النجف الأشرف ولقائه بالمرجع الأعلى للشيعة السيد محسن الحكيم، الذي وقف مع عروبة البحرين بكل قوة ودون تردد. مقابل ذلك احتلت القوات الايرانية الجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وجزيرة أبو موسى، واعتبرتها تعويضًا بحكم الأمر الواقع عن موافقتها على استقلال البحرين.

قبل إعلان الاستقلال عن بريطانيا في أغسطس 1971، كانت بعثة الأمم المتحدة لتقصّي الحقائق ممثلة في المبعوث الخاص للأمين العام قد أنجزت مهمتها التي بدأتها في 30 مارس 1970 وتوصلت إلى النتيجة الفصل وهي تأكيد شعب البحرين انتماءه العروبي ومطلبه الرئيس في دولة عربية مستقلة ذات سيادة على كامل أراضيها، باعتبارها جزءًا من الوطن العربي الكبير.

وبهذا أعلن يوم الرابع عشر من أغسطس 1971 استقلالها، ونالت البحرين عضوية الأمم المتحدة والجامعة العربية. ورغم صدور دستور 1973 ، إلا أن أهم نتائجه المتمثلة في المجلس التشريعي تم وأده في مهده منتصف السبعينات وشنت حملة اعتقالات على القوى المعارضة الرئيسية حينها، الجبهة الشعبية وجبهة التحرير وتم تعليق العمل بمواد أساسية في الدستور، ووجهت اتهامات إلى اليمن الديمقراطي، حينها، بأنها تقف وتدعم المعارضة اليسارية البحرينية، وصدر قانون تدابير أمن الدولة الذي حكم البلاد حتى عام 2001. كما شنت حملة اعتقالات في نوفمبر 1976 بعد مقتل الصحافي عبد الله المدني رحمه الله، واتهمت الجبهة الشعبية وراء عملية الاغتيال، لكن المحكمة برأت ساحة أعضاء الجبهة، واستشهد في تلك الحملة كل من محمد غلوم بوجيري وسعيد العويناتي.

زلزال الثورة الإيرانية

بعد الاستقلال تحسنت العلاقات بين البحرين وإيران، وتوجه الشاه صوب العراق ودعم أكراده في الشمال مما تسبب في استنزاف طاقات البلاد، حتى تم التوقيع على اتفاقية الجزائر في عام 1975 والتي تقضي بتقاسم شط العرب الذي كان تحت السيادة الكاملة للعراق. ومع انتصار الثورة الإيرانية بقيادة آية الله الخميني في فبراير 1979، حدث زلزال في المنطقة كنتاج طبيعي لسقوط شرطي الغرب في الخليج، شاه إيران.

لم يقتصر الزلزال على البحرين والخليج العربي فحسب، بل امتد إلى المنطقة العربية والدول المحاذية لإيران. شهدت السنوات الأولى للثورة فوضى إدارية وسياسية، خرجت منها مجددًا ادعاءات بعض العناصر بتبعية البحرين لإيران، ما قاد الجبهة الشعبية في البحرين إلى إرسال وفد رفيع برئاسة المهندس عبدالنبي العكري، التقى الإمام الخميني وزعامات أخرى، وطالب بالاعتراف الصريح بعروبة البحرين، وقد تم ذلك على لسان حفيد الخميني السيد حسين أحمد الخميني. بعد عام ونصف العام (سبتمبر 1980) اندلعت الحرب العراقية الإيرانية وظل قوس العلاقات الخليجية الإيرانية مشدودًا على الآخر، خصوصا مع وقوف دول الخليج مع العراق في الحرب التي استمرت ثماني سنوات عجاف استنزفت ثروات البلدين والمنطقة وتسببت في مقتل مئات آلاف الأشخاص من الجانبين، فضلًا عن تأخر عجلة التنمية الاقنصادية والسياسية والاجتماعية.

ولخصوصية البحرين، كانت العلاقات متوترة مع طهران، ازدادت تأزما مع إعلان السلطات عن محاولة انقلاب نسبتها للجبهة الإسلامية لتحرير البحرين نهاية 1981، وتم اعتقال العشرات وهاجر المئات من البلاد، وقدم الذين تم اعتقالهم المعروفة بـ(مجموعة الـ73) إلى محاكمات وصدرت بحقهم أحكام تراوحت بين المؤبد وسبع سنوات. كان عقد الثمانينات عصيبًا، وقد تم في مطلعه أيضا شن حملة اعتقالات في صفوف اللجنة التأسيسية لاتحاد عمال وأصحاب المهن الحرة في البحرين وكوادر في الجبهة الشعبية في البحرين، وذلك بعد تراجع السلطة عن التزامها بالتفاوض مع اللجنة التأسيسية، حيث تم اعتقال الوفد المفاوض وعشرات آخرين، أمضوا سنوات طويلة في السجن تحت فرمان قانون تدابير أمن الدولة سيء الصيت والذي ألغاه جلالة الملك حمد عام 2001. كما شهد هذا العقد إقدام السلطات في عام 1986 على حملة اعتقالات كبيرة في صفوف كوادر وأنصار جبهة التحرير الوطني، وقد سقط فيها الدكتور هاشم العلوي شهيدًا.

نار تحت الرماد

كان عقد التسعينات عصيبا أكثر، وكانت النار تحت الرماد وبحاجة إلى من ينفخ فيها، فجاء احتلال الجيش العراقي للكويت في 2 أغسطس 1990 ليؤزم الوضع أكثر في المنطقة ويقلب المعادلات ويجلب المزيد من الجيوش الأجنبية والقواعد العسكرية لبلدان الخليج. وبعد تحرير الكويت في فبراير 1991 جرت تحركات سياسية في المنطقة تطالب بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية، نتج عنها العريضة النخبوية في البحرين والتي وقع عليها نحو 300 شخصية قدمت للأمير الراحل في 1992. لم تستقر الأمور في البلاد خصوصا مع تفشي البطالة وشعور القوى الفاعلة بالتمييز والتهميش، فتشكلت لجنة العريضة الشعبية في 1994 واندلعت شرارة الحراك الشعبي نهايته إثر اعتصام العاطلين عن العمل أمام وزارة العمل في مدينة عيسى واعتقال الشيخ علي سلمان (معتقل في سجن جو الآن ويقضي منذ نهاية 2014 حكما بالمؤبد) ومجموعة من قيادة الحراك، وقد تم إبعادهم من البلاد. جاءت العريضة الشعبية التي وقع عليها أكثر من 25 ألف شخص لتزيد من تعقيد الأزمة السياسية، فتم اعتقال المرحوم الشيخ عبدالأمير الجمري وعبدالوهاب حسين وحسن مشيمع وآخرين باعتبارهم من أبرز قيادات حراك التسعينات. سقط في هذا الحراك عشرات الشهداء وأعتقل آلاف الأشخاص وتم تهجير آلاف أخرى وخرج من البلاد الكثير من الذين رأوا أنفسهم مستهدفين. وقد وجهت السلطات هذه المرة اتهامات مباشرة إلى إيران بانها تقف وراء هذه الاضطرابات والتحركات.

مع مجيء جلالة الملك حمد للحكم في 6 مارس 1999، كانت البلاد على موعد مع أجواء جديدة تزيل الاحتقان السياسي والأمني الذي أدى إلى جمود وتردي في الأوضاع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وكان لابد من خطوات عملية تعيد الوهج المفقود، فكانت مبادرة العاهل في ميثاق العمل الوطني في نوفمبر 2000، توجت بانفراج أمني وسياسي تم بموجبه إصدار عفو شامل عن المعتقلين والسجناء السياسيين والمبعدين والمنفيين والذين أجبرتهم الظروف على مغادرة البلاد، وتم التصويت على ميثاق العمل الوطني في 14 فبراير 2001، لتعيش البلاد عرسًا ديمقراطيًا استمر عامًا واحدًا حتى مجيء دستور 2002، لتتشكل أزمة من طراز آخر.

في السنوات الأولى للانفراج، تحسنت العلاقات البحرينية الإيرانية، وأعيدت العلاقات الديبلوماسية وبدأت مرحلة جديدة رغم التوجسات، إلا أن الربيع العربي الذي بدأ في تونس نهاية 2010 وامتد إلى مصر، وصلت شراراته إلى البحرين التي انطلق حراكها في 14 فبراير 2011، لتدخل البلاد في عقد جديد من الأزمات طبق فيه قانون السلامة الوطنية وقيدت الحريات وقوض العمل السياسي المعارض بما فيها حل أكبر جمعيتين سياسيتين في البلاد، الوفاق ووعد. اتسمت أزمات 2011 بقساوة أكثر ومرارة من سابقاتها وبحدوث شرخ مجتمعي لا يزال ينزف، وبسقوط مئات الشهداء وآلاف المعتقلين والمنفيين والمبعدين والمسقطة جنسياتهم، وقد وجهت أصابع الاتهام أيضا إلى إيران بأنها تقف وراء الأحداث.

وفي نوفمبر من نفس العام صدر تقرير اللجنة البحرينية لتقصي الحقائق مشفوعا بتوصيات لم يتم تطبيق أغلبها، رغم موافقة الجانب الرسمي والمعارضة عليها. وتضمن التقرير فقرة تؤكد فيه اللجنة على أنها لم تجد ما يثبت تورط إيران في أحداث فبراير. لا تزال تبعات الأزمة قائمة حتى الآن بوجود قيادات الحراك الشعبي ومئات السجناء في زنازين سجني جو والحوض الجاف.

ما العمل؟

وسط هذه التعقيدات والتوجّس بين البحرين وإيران، بادر جلالة الملك حمد وألقى حجرين في المياه الآسنة للعلاقات بين البلدين.

الأولى عندما أصدر عفوًا خاصًا عن مئات السجناء في شهر رمضان الماضي يقضي بالافراج عن عدة مئات من السجناء،

والثاني خلال زيارته إلى العاصمة الروسية موسكو، وتأكد جلالته على "الآن لا يوجد أي مشكلات على الإطلاق. لا يوجد سبب لتأجيل تطبيع العلاقات مع إيران"، وقد جدد هذا القول في العاصمة الصينية بكين، الأمر الذي يشي بأن مياها كثيرة جرت تحت جسر العلاقات البحرينية الإيرانية وحان الوقت لفتح صفحة جديدة بين البلدين، خصوصا وأن كل دول مجلس التعاون التي قطعت علاقاتها مع طهران على خلفية الأزمة مع السعودية قد حلّت وأعادت أغلب شركات الطيران عملها وجرى تجديد الطرق التجارية مع إيران، فضلا عن العلاقات السياسية والدبلوماسية.

أمام ترطيب الاجواء في العلاقات مع طهران، تبدو هناك أولويات داخلية بحرينية بحاجة إلى حلحلة تأتي في مقدمتها قضية السجناء بمن فيهم قيادات الحراك الشعبي. فهذه المسألة الشائكة تتطلب طرح معادلة جديدة تتعلق بالربح والخسارة من هكذا خطوة. فالانفراج الامني والسياسي ليس ترفا كما يعتقد البعض، بل هو ضرورة لتمتين الوحدة الداخلية بين مكونات المجتمع ومغادرة عقلية التخوين والاساءة، كما أن معالجة مسألة التجريف والعزل السياسي وشطب الجمعيات السياسية من قاموس العمل الوطني، بحاجة إلى إعادة نظر، إن اردنا إنهاء تبعات 2011 وتعبيد الطريق لتحريك عجلة التنمية الاقتصادية والسياسية والعمل على تحقيق اهداف التنمية المستدامة التي يكون الإنسان وسيلتها وغايتها في آن واحد.

لا شك أن خطوات كهذه ترطب الأجواء وتخلق مناخات صحية للعلاقات، ليس مع إيران فحسب، بل أيضا ليخفق هذا الوطن بجناحيه وبمكوناته المجتمعية نحو آفاق أكثر رحابة وقدرة على مواكبة تحديات العصر والوقوف أمام العواصف التي تعصف بالمنطقة، فتحصين الداخل بتمتين وحدته وانفتاحه وانفراجاته هو شرط لنجاح بلادنا ووضعها على خريطة الدول التي تسير في سكة التنمية المستدامة والتطور، خصوصا إذا تمت معالجة المشاكل والخلافات مع الجوار بروح متقدة تضع البحرين ومصلحتها نصب أعينها، ولاشك أن دعوة جلالة الملك خطوة رئيسية وهامة على الطريق الصحيح.