DELMON POST LOGO

هل الدين تاريخي؟

بقلم : الشيخ حميد المبارك

قد تختلف التفسيرات فيما هو المقصود بالتاريخي، لكنني أقصد به هنا توقف صحة المضمون على البحث التاريخي:

١- في إثبات الصدور.  

٢- وفي الدلالة اللغوية للنص.

أقول: من الحيف أن نُعطي وصفاً مطلقاً للأديان بأنها تاريخية، بمعنى أنها خاضعة للاثبات التاريخي بنحو مطلق. وفي نفس الوقت، لا يمكننا نفي دخالة الجانب التاريخي في بعض مراتب المضمون الديني. فبينما يشتمل الدِّين على مضامين ترقى على التاريخ وحدوده الإثباتية والدلالية، فإن بعض المضامين الدينية خاضعة لامحالة لقواعد الاثبات التاريخي. وتوضيحه كالتالي:

(١) المضمون الديني اللا تاريخي هو الذي لا يحتاج إثباته إلى معالجة النصوص التاريخية من حيث الصحة والثبوت. وذلك لأنه ثابت في وجدان الانسان وفطرته بغض النظر عن التاريخ: "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ" (الروم ٣٠)، ودور النص فيه تذكيري لا تأسيسي (طه ٢-٣؛ الغاشية ٢١).

وقد تكرّر تلخيص المضامين الفطرية في القرآن الكريم، نظير السياق في سورة الاسراء ٢٢-٣٩، وفي الأنعام ١٥١-١٥٤: "قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُم مِّنْ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ. ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ". وقوله في آخر السّياق "ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ .."، بعد ذكر المضامين القِيمية في الآيات السابقة، قد يكون إشارة إلى وجود نظير المضامين في التوراة أيضاً (الوصايا العشر: سفر الخروج ٢٠: ١-١٧).

وهذه المضامين القِيمية التي لا تتوقف على الإثبات التاريخي هي جوهر الدين بل هي مفهومه عند الاطلاق (الروم ٣٠). وتتلخص في توحيد الله تعالى والعمل بما يترشح عنه من العدل والاحسان (النحل ٩٠). وهي تجلّيات الكمال الربّاني التي بها صُبغت أي طُبعت كينونة الانسان (البقرة ١٣٦-١٣٨)، وهي منقوشة في عمق نفسه (لوقا ١٧: ٢١)، وهي فطرة الله المعطاة في وجدانه، والتي لا تتبدل ولا تتغير (الروم ٣٠). وهي ثمرة الروح الالهي: "فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي .." (سورة ص ٧٢). ولم يكن الأمر بالسجود لآدم: ".. فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ" بلحاظ أنه بشر من طين، وإنما بلحاظ تعظيم ما أُودع فيه من نفخة روح الله وثمارها في فطرته.

(٢) المضمون التاريخي.

ومن زاوية أخرى، لا يندرج تحت الفطرة التي لا تتبدل (الروم ٣٠) ما هو من قبيل التفاصيل الفرعية والتدبيرات، فإنها تتغير وتتبدل حسب الشرائع: "لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا .." (المائدة ٤٨)، بينما لا يتبدل الدين الفطري بتبدل الشرائع: "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ .." (الشورى ١٣). وقد جمع بنحو بديع بين الدين الثابت وبين الشريعة المتغيرة في سورة النحل ١٢٣-١٢٤: "ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِين. إنّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ".

كما تبتني موارد في الاعتقاديات والسلوكيات على الاثبات التاريخي للنص، حيث إنه مصدر إثباتها الوحيد. وهذا لايعني تفنيد هذه المساحة ولا إخراجها عن دائرة الالزام الديني، بل المقصود أنها دائرة مدار الحجية التاريخية من حيث صحة صدور النص ومن حيث تمحيص دلالته اللغوية حين صدوره. فيجب دراسة النصوص المشتملة على تلك التفريعات ضمن سياقاتها وأُطرها الخارجية، ولا يُنظر إليها كنصوص ذات مضامين مطلقة ومجردة من اقتضاءاتها وقرائنها التاريخية. وتشمل القرائن التاريخية أموراً كثيرة، نظير: الدلالة اللغوية المعاصرة للنص، طبيعة الثقافة السائدة، التركيبة الاجتماعية والسياسية .. إلى آخره.

وخلاصة القول: لا يتوقف جوهر الدين على التحقيق الاجتهادي في صحة النص ودلالته. وأما الزائد على ذلك فهو يتوقف على ذلك الاجتهاد ويدور مدار الحجية النصّية.  ثم لا عذر لمن تقوم لديه حجة تاريخية واضحة، أي متكاملة الأركان في مقامي الاثبات والدلالة، على أمر ديني في الاعتقاد أو السلوك، فإن المكابرة عليه بعد ذلك خلاف التسليم لله تعالى، والذي هو ميزان النجاة: "بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" (البقرة ١١٢).