DELMON POST LOGO

دواعي التكرار في القرآن الكريم

بقلم : الشيخ حميد المبارك  

"يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ. وَاتَّقُواْ يَوْمًا لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ" (البقرة ١٢٢-١٢٣).

تتطابق الآيات أعلاه مع الآيات ٤٧-٤٨ من السورة لفظاً ومضموناً. ولهذا التطابق نظائر:

١- "تِلك أُمَّة قَد خلت لَهَا مَا كَسَبَت وَلَكُم مَّا كَسَبتم، وَلَا تُسئلون عَمَّا كَانُواْ يعملون" (البقرة ١٣٤، ١٤١).

٢- (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ" (الحِجر ٢٩، ص ٧٢).

أيضاً، قد تكثر في القرآن الكريم تكرار المضامين مع الاختلاف في بعض الألفاظ والسياقات. ولا شك أن التكرار ليس اعتباطياً بل له أسبابه ودواعيه. وفيما يلي بيان ثمانية أسباب محتملة للتكرار:

السبب الأول: الغايات الأدبية. فإنه يُحتمل رجوع بعض التكرار إلى غايات بلاغية أدبية، كما هو النسق في سورتي الشعراء والرحمن.

السبب الثاني: اقتضاء أهمية المضمون للتكرار.

والطريقة العقلانية في قياس مدى أهمية المضمون لدى المتكلم هي ملاحظة مدى اعتنائه بتكراره. فإن التكرار كاشف عن التفات المتكلم إلى ضرورة التأكيد على المضمون لأهميته في الاعتقاد أو السلوك. وأكثر شيء تكراراً في القرآن الكريم هي المضامين المحورية في الاعتقاد والسلوك:

١- ولنأخذ التكرار في سياق في سورة الزُّمَر أنموذجاً على محورية التوحيد: (الزُّمَر ٢-٣، ١١-١٤، ٣٨، ٦٤-٦٦).

٢- كما يمكن ملاحظة كثرة تكرار مضامين الأمر بالعدل والاحسان وما يتصل بهما من تطبيقات. ويمكن أن نأخذ السياق في سورة الاسراء ٢٢-٣٩ أنموذجاً، حيث إنه يشتمل على مضامين لا تكاد تخلو منها سورة من سور القرآن الكريم.

السبب الثالث: تجدد دواعي الجدال مع المخالفين. ومن ذلك تكرر مضمون نفي الولد في السور المكية، كما في سورة مريم ٣٥-٣٦، ٨٨-٩٣ "مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ. وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ. .. وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا. تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا. أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا. وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا. إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا"، ويونس ٦٨ "قَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ".

وفي السور المدنية، كما في سورة البقرة ١١٦ "وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ"، وفي سورة النساء ١٧١ ".. إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً".

السبب الرابع: استدعاء المضامين الوعظية للتذكير المتجدد. وحيث إن القرآن نزل نجوماً فذلك يستدعي تكرار المضامين التي توجد حاجة للتذكير بها وتنبيه النفس عليها مكرراً. ومن ذلك تكرار التنبيه على أهمية العبادة والذِّكْر في طمأنينة النفوس: "الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّه، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد ٢٨)، وفي البقرة ٤٥ "وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ، وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ".

ويمكن في هذا السّياق ملاحظة تكرار الخطابات التطمينية للنبي (ص) في خضم صراعه مع المخالفين: "وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ، وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ" (هود ١٢٠)، وفي الحجر ٩٧-٩٩ "وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ"، ومثله في سورة ق ٣٩-٤٠ وطه ١٣٠.

ويتضح داعي تكرار هذا المضمون بعد ملاحظة تعرض النبي (ص) للضيق النفسي بسبب جحود قومه: "فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا" (الكهف ٦)، وفي فاطر ٨ ".. فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ"، وفي هود ١٢ "فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ".

السبب الخامس: السبب الخامس: الاشارة إلى الموضوع الواحد من زوايا مختلفة.  ونجد مثالاً لذلك في اختلاف طريقة السّرد لواقعة مجيء موسى إلى النار المشتعلة وحديث الله معه، وذلك في سورتي النمل ٧-١٢ والقصص ٢٩-٣٢. فكلا السياقين يحكيان واقعة واحدة مع اختلاف في بعض التفاصيل. وقد اشتمل السياق في سورة النمل على النداء بمباركة الموضع، وأنه لا يخاف المرسلون، وذِكر آيتي العصا واليد وأنهما من ضمن تسع آيات. بينما اشتمل السياق في سورة القصص على التصريح بالشجرة في موضع الاحتراق وذِكر آيتي العصا واليد مع إضافة ضم اليد إلى جناحه، مع عدم التصريح بأنهما ضمن التسع الآيات. وبينما لا تضر هذه الفروقات التفصيلية في جوهر القصة، فهي تضيف تنوعاً في السرد وتشويقاً للمستمع وإثراءاً للصورة.

السبب السادس: الغاية البيانية في اختلاف السّرد من حيث التقديم والتأخير.  ونجد مثالاً لذلك في سرد واقعتي الأمر بدخول الباب سُجدا وطلب بني اسرائيل للماء، وذلك في سورتي البقرة ٥٨-٦٠ والأعراف ١٦٠-١٦٢.

والفرق بين السياقين مضافاً إلى إبدال بعض المفردات، أنه اختلف الترتيب في السياقين بين طلبهم الماء وبين الأمر بدخول الباب سجداً. فقد قدم الأمر بدخول الباب على طلبهم الماء في آيات البقرة، لكنه عكسه في آيات الأعراف.  ولا يخفى ما في هذا التصرف بالتقديم والتأخير من نكتة لطيفة، وهي الاشارة إلى أنه سواء عليهم، إن أُسبقوا بآية شرب الماء أم لم يُسبقوا، وأنهم في كلا الحالين، يسلكون مسلك الظلم والجحود.

السبب السابع: التأكيد على الجامع بين موضوعات متعددة:

(١) فقد جاء في أهل الكتاب الذين نسبوا البنين إلى الله تعالى:  "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُم .. إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا" (النساء  ٤٧-٤٨).  وجاء في مشركي العرب الذين قالوا بأن الملائكة بنات الله: "إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا. إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثًا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَانًا مَّرِيدًا" (النساء ١١٦-١١٧).

ومع كونهما موضوعين مختلفين، لكن المناط فيهما واحد وهو الشِّرك: ".. وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ .." (سورة الأنعام ١٠٠).

(٢) وجاء عن قوم نوح: "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ" (هود ٢٨). وعن قوم صالح "قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ" (هود ٦٣).

والمناط الواحد الذي يريد التأكيد عليه هو أن كلاًّ من نوح وصالح كانا على بيّنة من أمر دعوتهما، وأنها من الله.

٧

السبب الثامن: التأكيد على النكتة البارزة في الموضوع الواحد. ونجد مثالاً لذلك فيما جاء حكاية لقول قوم نوح: "وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ، وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ" (هود ٢٧)، ونظيره في الشعراء ١١١ "قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ".

وتقارب المضمون هنا راجع إلى حكايته موقفاً واحداً، أبرز ما فيه هو استخفافهم بأتباع نوح، وتعييرهم بأنهم الأراذل، أي المستضعفون أو المنبوذون.

وختاماً: إن القرآن الكريم ليس كتاباً تدوينياً بالمعنى المتعارف الذي يشتمل على فصول يترتب فيها اللاحق على السابق ويُتجنب فيها التكرار، كما إنه ليس حكاية لقصة متسلسلة تختلف أحداثها اللاحقة عن السابقة، وإنما هو حديث تذكير وموعظة وتدبر في المضامين القِيَمية. وترمي آياته وسردياته إلى التأكيد على موضوعات محورية مشتركة. وكل تفاصيله تشير من طرق وزوايا مختلفة إلى تلك المضامين الاجمالية في سورة الفاتحة: ".. كتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُه ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ" (هود ١).