DELMON POST LOGO

رواية " رصاصـة الماكاروف.. "وما تبقّى من فصول الحكاية للعماني علي الكثيري - 2

عمي بخيت من أوائل شهداء معركة مرباط الأولى عام 1966 بعد عام من عودته من السعودية حاملا بندقية والتحاقه بالثورة

يتناول الكاتب العماني علي الكثيري سيرته منذ البداية ، اولها مرحلة الطفولة ومعاناتها وبؤسها وحرمانها وفقرها وآلامها وهمومها وشجونها (1958-1971) .. يبدأ الحكاية في في جبال ظفار كانت نشأة أسرة بيت أحمد بن سيلمون الكثيري؛ في منطقة بيت زربيج وبالتحديد في منطقة كنزير، فكان ذلك هو مقر سكناهم الرئيس، في حين كانت لهم مساكن موسمية أخرى، فقد كانوا يتنقلون مع مواشيهم في فصل الشتاء إلى الكهوف الواقعة جنوب مركز فرقة غدو الحالية، وذلك لتفادي رياح الشتاء الشمالية الباردة، فكانت تلك الكهوف والمنحدرات الصخرية تشكل لهم عامل وقاية طبيعياً.

وبعد نهاية فصل الشتاء ينتقل الأهالي أصحاب المواشي في فصل القيظ (الصيف) الذي تشتد فيه الحرارة، إلى أماكن مؤقتة على رؤوس الهضاب، وبينما هم في هذه المساكن وقبل بداية فصل الخريف، تقوم النسوة بتجهيز ما يعرف محليا بالمشاديد (حقول زراعية موسمية)، من حيث ترتيب وتجهيز أسوار هذه الحقول، وتشذيبها وتنظيفها من الشوائب لتكون جاهزة للزراعة حين تهطل أمطار الخريف. وفي بداية فصل الخريف يعود السكان ومواشيهم إلى أماكن سكناهم الثابتة في كنزير في موسم الخريف، وبينما تُغلَق مواسم الإبحار وتنقطع خطوط التموين إلى المراكز الحضرية الساحلية، فإن سكان هذه المناطق الحضرية كانوا ينتقلون إلى ذوي قرابتهم في الجبل، وكان المورد الغذائي المتبقي خلال هذا الموسم عند الأهالي في الجبال هو الحليب ومشتقاته (الألبان والزبدة)، وما ادَّخروه من حصاد المواسم السابقة، فكان هذا المتبقي هو المصدر الغذائي للجميع حتى يأتي موسم الحصاد بعد فصل الخريف. وكان يُطلَق على هذه العوائل النازحة من المراكز الحضرية إلى الجبال اسم «إرقوي».

وحين ينتهي فصل الخريف ويحل موسم الصرب (الربيع) يبدأ حصاد المنتجات الزراعية الموسمية، مثل الدجر (اللوبيا)، والذرة الصفراء، والخيار، والذرة الحمراء (الذرة الشحرية). وبعد أن يتم الحصاد يتجهز السكان للنزول إلى السهل، ويعود سكّان الحواضر إلى ديارهم بعد افتتاح وعودة مواسم الإبحار. ونظراً لحاجة أصحاب المواشي للمؤن لهم ولمواشيهم، فإنهم يجلبون معظم ما حصدوه وما ادخروه من السمن البلدي إلى المدينة لمقايضته مقابل ما يحتاجونه من مؤن، هكذا كانت الحياة آنذاك في ريف ظفار في بعض ملامحها البدائية.

وكان القيم والمسؤول عن أسرتنا جدنا أحمد بن سيلمون، الذي كان شيخاً قبلياً معروفاً وله وجاهته وصيته الاجتماعي، وله شهرته وحضوره ليس على مستوى قبيلته فقط وإنما على مستوى ظفار.

وقد اشتُهر بلقب «عاكاس»، وقد أُطلق عليه كناية عن قوة حضوره في الاجتماعات القبلية، فقد كان بسرعة بديهته وبُعدِ نظره ممن يوجه الحوار والنقاشات للاتجاه الذي يراه صواباً، فهو كمن عكس وأدار دفة النقاش بعد أن كاد أن يوجَّه لاتجاه آخر. وكان ممن عرفوا واشتهروا بالكرم إلى حد كبير، محباً لبث السلم الاجتماعي، فقد سعى لحل جميع قضايا الدم المعلقة.

وامتداداً لمسيرة الشقاء والترحال التي ما فتئت تنتقل إلى الأبناء؛ فما أن تزوج والدي حتى غادر بعدها مسافراً طلباً للرزق إلى العالي (الخليج العربي) في أواخر العام 1958م، بعد أن ترك أمي حاملاً بي، فولدت في العام التالي في جبال ظفار، وبالتحديد في منطقه بيت زربيج حيث عشت في كنف عائلة ريفية ليس لها مصدر عيش إلا ما أنتجته بالطرق البدائية من الطبيعة، وما تنتجه الأبقار من الحليب ومشتقاته بالطريقة البدائية، أسوة بالأسر التي تعيش في جبال ظفار حيث تُعتبَر بشكل عام أسراً فقيرة ذات مصادر عيش محدودة، تعتمد في حياتها على رعي المواشي وزراعة المحاصيل الموسمية التي تنمو في فصل الخريف كمصدر رزق أساسي.

ونتيجة لواقع الحال المعاش في تلك الحقبة من الزمان، إذ لا طبيب ولا علاج، ولا مؤسسات أو مراكز صحية، مع سيطرة الفقر والجهل والمرض على كل شيء، نتيجة لما خلَّفه النظام الحاكم ما قبل عهد السلطان قابوس أثناء فترة حكمه الاستبدادي المقيت، نتيجة لكل ذلك، فقد أصبت بمرض الرمد (التراخوما) بفعل تكاثر الحشرات والذباب والبكتيريا وفقدان الأهالي لأبسط حدود السلامة والوقاية، إذ لا نظافة ولا لباس ولا ماء إلا ما تجلبه الأمهات من الينابيع الجبلية البعيدة، ولا يكاد يكفي للشرب يوماً واحداً.

كنت رضيعاً حين أصبت بالمرض في عيني ولم أكمل الأربعين يوماً بعد، فقدت على إثر ذلك بصر عيني اليمنى إلى الأبد، وهو أمر كان له وقع الصاعقة على أسماع الأهالي، خاصة أنني ما زلت وحيد أبي، مع خوفهم من أن تضيع العين الأخرى إن أُصبتُ بمرض مماثل لاحقاً، فقد كانت الأوبئة لا تكاد تفارق المنطقة حينها، ويصاب السكان بعاهات وأمراض مختلفة، ولا تكاد تخلو أسرة في جبال ظفار من معاق، إما أعمى وإما أعور عين أو أحول أو أعرج أو قعيد ومشلول؛ وذلك نتيجة ما خلفه النظام البائد وحرمانه لهذا الشعب من أبسط حقوق العيش بسلام وكرامة.

وما كان أبي ليسافر ويترك والدتي حاملاً بي لو لم تكن الظروف القسرية لحال الواقع المعاش اضطرته للهجرة إلى الخليج؛ لطلب الرزق والعمل هناك مثله مثل الكثيرين من أبناء ظفار الذين اضطرتهم الظروف للهجرة والسفر والمخاطرة بأنفسهم؛ هرباً مما كانوا يعانونه من بطالة وجهل وتخلف ومرض، إذ لا شيء يذكر مما يقال عنه حياة، ناهيك أنه لا طائرات للسفر جواً ولا سفنَ مجهزة وآمنة للسفر بحراً، ولا طرقات أو سيارات للسفر براً، ولكن الظروف القاسية التي يعيشونها وأسرهم هي ما أرغمهم على المخاطرة بحياتهم بحراً في سفن بدائية ذات أشرعة متهالكة لا يضمنون فيها الوصول بسلام إلى حيث يقصدون، ولكن على قول المثل: «من أجبرك على المر، قال الأمر منه».

وبعد سنوات قليلة عاد والدي حين كنت في الثالثة من عمري ولم أكن مدركاً حينها لمعنى الفرحة بعودة الأب، فأنا لا أعرفه أصلاً، ولا أعرف كيف وصل، ولا لماذا كان مسافراً، ولم يمكث والدي طويلاً حتى أُدرك معنى الأبوّة وحتى تعظم في عيني الفرحة برؤيته وقربه مني، فربما قد أثر فيه أن يراني أعور العين اليمنى ويرى رأسي الذي قد أصبح منقوشاً بالكي في كل الاتجاهات، كنقش أثري في أحد كهوف ومغارات ظفار، لكنه سرعان ما عاد للهجرة ثانية وفي صحبته عمي بخيت (حور) الذي يصغره سناً، وكان بمعيتهم عبد العزيز بن محمد الرواس -مستشار السلطان سابقاً- الذي كان في سن عمي تقريباً. وكانت وجهتهم بحسب المعلومات الواردة المملكة العربية السعودية حيث كان الوالد يعمل سابقاً، وبما أنهما يصغران الوالد سناً فقد وجههما لمواصلة الدراسة. وكانت مغادرة الوالد بعد أن ترك والدتي حاملاً بطفله الثاني، وكأن لسان حاله يقول أو يلهج بالدعاء أن تكون والدتي حاملاً بطفل سليم من العاهات والأمراض، وأن يحفظه الرب من كل بلاء.

وفي العام التالي لمغادرة الوالد وُلد أخي أحمد، وبقيت أنا وأحمد المولود حديثاً في كنف والدتي ووالديها ووالدة أبي المعاقة، وكانوا يهتمون بنا كثيراً. ولم تكن الحياة يسيرة حينها، ناهيكم عن تضاعف حمل المسؤولية على هذه الأسرة التي كُتب عليها أن تتحمل إضافة لأعباء إعالة الأبناء ووالدتهم المعاقة في السابق بعد موت والدهم،  مسؤولية ورعاية الأحفاد بسبب سفر والدهم دائماً، إذ تقوم والدتي بأعباء الرعاية لوالديها وعمتها المعاقة، وجلب الماء والحطب وتحضير الطعام، إذا فرضنا جدلاً أن هناك طعاماً أصلاً، بالإضافة إلى تنظيف خدر (مسكن) الأبقار وأماكن صغارها، وتوريد الماء الذي ربما يتناوب عليه الرعاة كل واحد بحصته من الماء، فيتم توريد قطيع تلو الآخر حتى ينتهي المورد الذي ينتهي أحياناً في ساعات متأخرة من الليل، بينما نحن نبقى تحت رعاية أعين جداتي، ريثما تصل الأم من إحدى المهام التي لا تقوى جداتي على القيام بها، بينما جدي لأمي يقوم بجلب المؤن من المدينة، وأغلب هذه المؤن عبارة عن سردين لعلف الحيوانات في غير موسم الخريف أو الصرب. أما الغذاء الآدمي خارج المحاصيل الموسمية، فليس متوفراً إلا ما ندر، وذلك إذا كان أحد له قريب أو صهر يمكن أن يساعده في تهريب ما لا يكاد يكفي لوجبة من كل عيّنة دساً وبعيداً عن رؤية الأعين، نتيجة لشح الواردات حينها، وواقع القهر والظلم الذي يعيشه الناس في ظفار.

وفي سنة 1965م سمعت من أمي خبراً مفرحاً بأن عمي البخيت حور شقيق والدي قد رجع من السفر، ولكنني لم أكن في السن التي تؤهلني حتى أعرف من هو عمي أو أتعرف عليه أو أذكر شيئاً من ملامحه، لكنني سمعت من والدتي أن عمي وصل وأنه كان متخفياً مع آخرين.

ولم أعرف كذلك ما هو سر التخفي ولا كيف ولماذا هو متخفٍّ. تصف والدتي لحظات وصول عمي، وكيف كان لمّا أقبل علينا حاملاً بندقيته الكند على كتفه ومتحزماً بمحزمه المملوء بالطلقات النارية الحية، بلباسه التقليدي القميص والوزار، وقامته الفارعة التي تدل على الشموخ والكبرياء، بهيئته الجميلة كعادة المسافرين الذي يأتون من العالي (منطقة الخليج).

واستطردت والدتي بالقول: كنا نزغرد ونهلل ونرحب، هلا بالبخيت حور، وعندما هممنا بالسلام عليه تعبيرا عن اشتياقنا له وبعدها استأذن وغادَرَنا إلى جهة غير معلومة، ولم يعد بعدها، ولم نسمع عنه شيئا، إلا بعد عام تقريباً، إذ وصلنا خبر مفاده أن البخيت حور الواصل حديثاً لأرض الوطن بعد سنين من الغربة قد استُشهد!!

لم أكن في السن الذي يجعلني مدركاً ولا مستوعباً لمعنى أن يكون الشخص شهيداً، فالاستشهاد والشهادة معاني غريبة بالنسبة لمن هم في سني، وربما يكون مصطلح شهادة أو استشهاد حديثاً أو جديداً حتى في لغة العامة في ظفار، فما معنى أن يكون عمي شهيداً؟ وكيف كانت شهادته؟ ولماذا استُشهد؟ ومن أجل من استُشهد؟ كل هذه تساؤلات وأسئلة كانت بحاجة إلى توضيح لذهني كطفل وحتى المجتمع الذي يعيش في جاهلية وظلام مطبق الإحكام.

وبعد فترة بدأت المعلومات عن استشهاده تتضح، فقد عرفنا بعدها أن عمي قد استشهد -رحمه الله- في العام 1966م مع ثلاثة من رفاقه في معركة مرباط الأولى، ولم يعرف أحد أين قُبروا وفي أي مكان من ظفار تقع قبورهم، ولكن بإذن الله سوف يُحتَسَبون عند الله شهداء.

عرفت بعد ذلك أن هناك شيئا يسمى ثورة أسستها مجموعة من الرجال باسم جبهة تحرير ظفار، إذ توافد الثوار العائدون من الغربة إلى أرض الوطن. كان من ضمنهم عمي شقيق والدي الوحيد الذي سمعنا عن استشهاده ورفاقه مؤخراً، فقد كانوا النواة التي أسست للعمل الثوري في ظفار بعد عام من مجيء هؤلاء الثوار الذين أتَوا حاملين حلماً ليحرروا البلاد من الاستعمار ومن الحكم الاستبدادي الذي حرم البلاد والعباد من كل سبل الحياة، وجعلها تعاني الفقر والجهل والمرض، وهو ما جعل أبناء هذا الوطن يفتقدون لأبسط أسباب العيش الكريم.

بعد معركة مرباط الأولى من العام نفسه، سمعنا عن هجوم الفوج. والفوج هو عبارة عن تشكيل عسكري خاص تابع للسلطان سعيد بن تيمور، وكان مقره في منطقة المعمورة الحالية حيث يقع قصر السلطان الحالي، فقد قامت المجموعة العسكرية التي تصطف للاستعراض العسكري للسلطان سعيد بن تيمور بمحاولة لاغتياله، ولم يثبت إن كان قُتل حينها أم بقي حياً لسنوات أخرى. وتم الاشتباك العسكري بين جنود السلطان، فمنهم من دافع عن السلطان ومنهم من أراد اغتياله، وتوفي منهم من توفي وهرب من هرب إلى صفوف الثورة الوليدة آنذاك، والمسماة جبهة تحرير ظفار.

وكانت كل هذه الأخبار ومآلاتها والشعارات التي تلتها عصية على الفهم لي ولجمع غفير من المجتمع المغيب عن كل شيء يمكن أن يُقال أو يحكى. ولم استوعب كل هذه الشعارات والكلمات إلا عندما كبرت وسمعت الناس، ووصلت إلى السن التي مكنتني من فهم الأشياء واستيعاب تلك المفردات والشعارات، رغم جهلي كالجميع بالقراءة والكتابة.

ومضت أيام وسنوات خيَّم فيها الحزن على الجميع، القريب والبعيد، وخاصة من له صلة بمن استُشهد في مرباط وفي معركة الفوج التي تلتها، وخاصة جدتي لأبي التي فقدت ابنها اليافع البخيت حور الذي لم تره إلا مرةً واحدةً عابراً، وكانت تترقب عودته كما وعدها، وابنها الأكبر الذي قد خلَّفَنا أنا وأخي ولم تعرف له مصيرا، وتخاف إن عاد أن يلتحق بالثورة ويموت في الحرب هو الآخر وتفقده كما فقدت ابنها الأصغر البخيت حور. كم هو محزن وعظيم وقع الفقد على الأم القعيدة التي تُحمَل على الأكتاف كلما ذهب الناس من موقع إلى آخر! في حياة الترحال التي اعتادها أبناء الريف الظفاري في حياتهم غير المستقرة، تبعاً لحاجة حيواناتهم للماء والكلأ.

ولم يكن الأمر أقل قسوة في مدينة صلالة عن ما يعانيه الأهالي في جبال ظفار، فقد منعت الحكومة السفر عبر البحر في بداية ستينيات القرن الماضي،  وذلك بعد أن بدأ الظفاريون الذين يعملون في دول الخليج تنظيم خلاياهم السرية، إيذانا ببدء العمل الثوري لتحرير البلاد من الحكم الاستبدادي والاستعمار البريطاني. إذ عملت حكومة سعيد بن تيمور على منع السفر، وتسوير مدينة صلالة ووضع نقاط تفتيش على الآتي إلى المدينة والخارج منها، مما اضطر الكثير من شباب المدينة للهرب إما عن طريق البحر سباحة حتى يصل إلى الشواطئ خارج منطقة السور -(الشرباك) على قول أهل المدينة بالدارجة المحلية – وإمّا بتسلق السور والفرار في عتمة الليل إلى خارج المدينة.

وكانت تلك مأساة ومعاناة أخرى للسكان فوق ما هم عليه من ضغط، واتَّسع السجن لتصبح المدينة جميعها مسجونة بفعل الحصار القسري الجائر، إذ يُعتبَر من نجا من مخاطر الفرار بحرا أو برا عبر تسلق الشرباك قد نال الحرية من سجن سعيد بن تيمور، الذي يتسع يوما بعد يوم ويزداد قساوة. وهؤلاء الناجون من الفرار إمّا أن يذهبوا سيرا على الأقدام غربا متجهين إلى اليمن، وإمّا أن يذهبوا إلى الجبال فربما يجدون ملاذا آمنا ريثما يلتحقون بالثوار عند ظهورهم للعلن، وهم الذين صارت أخبار وصولهم تنتشر وتزداد يوما عن يوم، ففي كل الحالات، المعاناة لم تنتهِ،  ولكن للحرية ثمن غالٍ قد يكون حياة وأرواحا.

أما ما يخص التفتيش عند البوابات للقادمين من خارج المدينة وللخارجين منها، فقد بدأت هذه العملية بعد أن وصل أوائل المقاتلين الذين سوف يعملون على إعلان الكفاح المسلح وذلك بين أواخر 1964 وأوائل 1965م، واستمر التفتيش واعتقال القادمين من خارج المدينة، والزج بهم في السجن. لقد كان التفتيش دقيقا بحيث كانت تتم عملية تفتيش حمولة الجِمال من الحطب حطبة حطبة، فيتبعثر على الأرض. وكان على صاحب الجمل أن يعيد ترتيبها من جديد، وكانوا يفتشون بدقة تحت الثياب رغم قلة الملبس ورداءته، وفي الأماكن الدقيقة في جسمه. وكذلك الحال للذين يريدون الخروج من المدينة؛ لأن الحاكم آنذاك يعتقد أن الخارجين من المدينة سيلتحقون بالثورة الوليدة، أو سيجلبون لها المؤن،  ويمدونها بالمعلومات عن الأوضاع في المدينة، وأن القادمين قد يحملون نقودا لشراء ما يحتاجه الثوار، أو أنهم يحملون رسائل لعناصر سرية تعمل مع الثوار سرا وهي لم تزل تعيش في حدود سجن المدينة الأكبر.

ولم يكن التفتيش يفرق بين كبير أو صغير، بين ذكر أو أنثى، فالكل في نظر الحكومة آنذاك أعداء ومثار للشبهة. وفي كل النقاط المنتشرة من شرق الدهاريز والممتدة على طول الحد الشمالي لصلالة إلى غرب عوقد كانوا يضعون في كل نقطة معرّفا؛ كل واحد في اتجاه منطقة سكناه، وهو من يأذن للحرس بإدخال القادم بعد التفتيش الدقيق أو منعه، كما أنه يشير بالسماح للخارجين منها من عدمه وذلك بعد أن يتم بالتفتيش المعتاد. وهذا المعرّف قد يحمّل ذلك المواطن تهمة لم يقترفها ويزج به في السجن لمجرد أنه لا يحبه، أو لأن بينه وبين هذا المواطن خلافا قبليا أو اختلافا في النسب، فقد لا تتوفر لديه الأمانة المهنية في التعامل مع الجميع بصدق كونه من المنطقة، ويعرف الجميع وربما يحسنون فيه الظن في مساعدتهم لمعرفته بظروف الجميع، ولكن عديم الضمير وبائع الشرف لا يرجى نفعه أو مساعدته.

وفي تلك الفترة اعتُقلَ الكثير من الشيوخ ووجهاء العشائر حتى يتم الضغط عليهم وعلى من له صلة بهم بعدم الالتحاق بالثوار، أو تسليم أنفسهم للسلطة. ومن بين معتقلي تلك الفترة التي شملت جميع مناطق وقبائل ظفار، مجموعة من كبار قبيلتي وشيوخها، وعلى رأسهم عمي الشيخ سالم بن أحمد بن سليمون الكثيري. كما تم إلقاء القبض على ابنه الشيخ أحمد بن سالم أحمد بن سيلمون الكثيري، الذي أتى إلى المدينة ليسأل عن والده الذي ذهب ليجلب لهم قوتا ولم يعد من المدينة، فذهب لتقصي أخبار والده، لكنه لم يسلم هو الآخر من الاعتقال، ووُضع تحت حراسة قوة عسكرية حكومية، وطلب منه أن يلتحق بالقوة ليكون دليلا لهم ويخبرهم بمواقع الثوار مقابل فك أسره وتسليمه السلاح. وقد رفض العرض وقال: أشرف لي أن أبقى أسيرا من أن أكون عميلا للإنجليز وأتجسَّس على أهلي وأبيع أرضي.

لكنه فكر بطريقة يستطيع من خلالها إيجاد مخرج له مما هو فيه من أسر، فقال في نفسه سوف أوافق وعندما تسلَّمَ البندقية وأكون ضمن الدوريات والحراسات انتهز أقرب فرصة للهرب، وبذلك أكون قد كسبت بندقية إذا نجاني الله من مخاطر الهروب، أو أدافع عن نفسي إذا حاول أحد الجنود اللحاق بي. وفعلا بعد أيام أخبرهم بالموافقة على الالتحاق بالقوة، وأنه على استعداد ليكون دليلهم إلى أي منطقة يريدون، فأُعطي في البداية المناوبة مع الحراسات، وظلَّ هادئا منفذا للأوامر حتى يكسب ثقتهم. وفي إحدى الليالي وبينما كان دوره في الحراسة وفي حلكة الظلام، أخذ بندقيته وتسلل إلى خارج معسكر القوة، التي كما أعتقد كان مقرها في أم الغوارف، وكان يركض تارة عندما تميل الإنارة الكاشفة عن موقع تواجده، وتارة أخرى ينزل بجسمه أرضا عندما تقترب منه الإنارة الكاشفة، حتى وصل إلى جرزيز قبيل الفجر فشعر أنه في مأمن فاستراح في الوادي حتى يصل إلى داره في كنزير ببيت زربيج بسلام، ومن هناك التحق بصفوف الثوار. وعندما تم الإفراج عن والده الشيخ أخذه وأخته وعمته ونزحوا إلى حوف في الحدود الشرقية لجنوب اليمن حيث المأمن من الحرب التي بدأت تشتد أوزارها في ظفار.

وقد ظلَّ الترقب والسكون والخوف مخيماً على الأهالي، فهم لا يعرفون المآلات التي ستؤول إليها الأحداث جراء ما يسمعون، فحياتهم الآمنة هي كل ما يملكون، رغم الشقاء والجوع والمرض والجهل والفقر والتخلف الذي يخيم على كل شيء في حياتهم. وبينما لم يزل الجميع في حالة الحزن هذه،  فوجئوا بوصول والدي من السفر عن طريق اليمن الجنوبي، إذ لا يأتي عن طريق اليمن إلا من هو مع الثوار. ولكن على أي حال كان الوصول، فهو يشكل فرحة وسرورا لدى من يترقب ابنا أو أخا كان مغترباً.

بالنسبة لأجدادي وجدتي لأبي كان الشعور بالفرحة كبيراً وعميقاً، فقد انفرجت أساريرهم جميعاً عندما سمعوا أن أبي قد وصل من السفر، فهو قرة عين جدتي وابنها المتبقي من هذه الحياة التي عاشتها في شقاء المرض والإعاقة، فلم يعد لها في هذه الحياة إلا هو بعد أن فقدت فلذة كبدها الأصغر الشهيد البخيت حور؛ الذي لم تره إلا مرة بعد عودته من السفر وغاب عن عينيها إلى الأبد. وهنا كان وصول والدي من السفر العوض الذي تستند إليه وقرة العين التي تكحّل بها عينيها.

.. يتبع ( وصول قابوس للسلطة في مسقط )