DELMON POST LOGO

معايير اختيار شعر المعلقات في العصر الجاهليوكيف نوظفها في عصرنا الراهن

عبدالله جناحي

لست أدري هل وُجدت مؤسسات أدبية عربية، أو نقاد، رشحوا شعراء عرباً معاصرين، لاختيار قصيدة واحدة من قصائدهم، وإعطاءها صفة "المعلقة"، كما جرى في العصر الجاهلي؟

فحسب التعريف المنتشر في غوغل: المُعَلَّقاتُ، هي من أَشْهَرِ ما كتَب العَرَبُ في الشِّعرِ. وسُميت بالمعلقات، لأنها مثلُ العقود النفيسة تَعْلَقُ بالأذهان. ويقال إن هذه القصائد كانت تكتب بماء الذهب وتعلق على أستار الكعبة قبل مجيء الإسلام. هذه القصائد الجاهلية بلغ عددُها سبعًا أو عشرًا، برزت فيها خصائصُ الشعرِ الجاهليِّ بوُضُوحٍ. وهذه المعلقات العشر هي:

1- قِفا نَبْكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزل. (امرُؤ القيس).  

2- لِخَوْلةَ أطلالٌ بِبُرْقةِ ثَهْمَدِ. (طرفة بن العَبْد).

3- آذَنَتْنا بِبَيْنهِا أَسْمَاءُ. (الحارث بن حِلِّزَة).

4- أَمِنْ أُمِّ أَوْفَى دِمْنَةٌ لم تَكَلَّمِ (زهير بن سُلمى).

5- أَلا هُبِّي بِصَحْنِكِ فَأصْبَحِنا. (عَمرو بن كُلْثوم).

6- هَل غادَرَ الشُعراء مِنْ مُتَرَدَّمِ. (عنترة بن شداد).

7- عَفَتِ الدِّيارُ مَحَلُّها فَمُقَامُهَا. (لَبِيد بن ربيعة).

8- وَدِّعْ هُرَيْرَة إنَّ الرَّكْبَ مُرتَحِلُ. (الأعشى).

9- أَقفَرَ من أَهلِهِ مَلحوبُ. (عَبِيد بن الأَبرص).

10- يا دارَ مَيَّةَ بالعَليْاءِ فالسَّنَدِ. (النابغة الذُّبياني).

معايير اختيار المعلقات:

عند اختيار هذه القصائد "كمعلقات" أو "كمفضليات" أو "كأصمعيات". كان اختيار هذه القصائد يقوم على معايير محددة. ويذكر صبا سلطان، من جامعة بابل العراقية، في دراسة له عن ذلك، كل هذه المعايير. حيث تم جمع شعر الأسلاف الجاهليين، إما عن طريق اختيار شعر كل شاعر على حدة، كالشاعر طرفة بن العبد، أو يجمعون شعر كل قبيلة، كشعر هذيل، أو يجمعون قصائد كاملة ذات معان متناسبة ومناسبات متقاربة وأزمنة متجاورة، كالمعلقات، والمفضليات، والأصمعيات، وجمهرة أشعار العرب، أو يخضع جمعهم لذائقة العصر وتطوره فيكون جمعهم على شكل مقطعات أو أبيات مفردة كدواوين الحماسة.

وقد وضعوا منهجاً لاختيار تلك القصائد: كأفضل ما كتب الشاعر، أو أكثر ما أنتجه عصر من عصور الأدب، أو يقوم على أسس ترتبط بذائقة الشاعر وتكوينه الثقافي الذي استند إليه، أو لكثرة الاستعمال ولسهولة تلك القصيدة. ومن بين هذه المعايير، معيار شهرة الشاعر في عصره. وهذا ما فعله حمّاد الراوية (ت155هـ) الذي عمد في اختياره إلى شعراء "هم فحول الجاهلية، وشكّل كل واحد منهم ظاهرة".

فشعراء المعلقات كلهم من المشهورين ولم يختر حماد لمعلقاته شاعراً مغموراً أو مجهولاً، بل على العكس عمد إلى شعراء شكلوا مدارس في وقتهم. ولم يقصر حماد معيار الشهرة على أصحاب المعلقات كشعراء، وإنما عمد إلى أن يكون للقصائد المختارة حظ كبير من الشهرة، "فكل معلقة هي من عيون قصائد الشاعر، بل من عيون الشعر العربي القديم". وبهذا، فمعيار الشهرة والذيوع استخدمه حماد بدقة، فجعله يقدم أجمل وأروع ما قال الشاعر العربي في العصر الجاهلي إذ "يحوز شعراؤها بمكانتها هذه على قصب السبق بين أقرانهم، وإليهم الفضل في هندسة العمارة الفنية للقصيدة العربية".

لذلك فقد سار أغلبية جُمّاع الشعر على منهج حماد الراوية، مثل المفضل الضبي في تجميعه (المفضليات)، الأصمعي، والبحتري. وجاء أبوتمام (ت231هـ) وكسر منهج ومعايير السابقين عليه حيث "كانت اختياراته من شعر غيره لا تعتمد على مفهوم الهوية القائم على المطابقة، بل قام على تأسيس فكر ثقافي مغاير ومحقق رؤية للهوية قائمة على الاختلاف، وعليه تكون حماسة أبي تمام "مؤشراً على انحراف ثقافي للانتقال من الفكر البدوي إلى الفكر المدني المتنوع والقائم على الاختلاط والتنوع. والانتقال من هوية النسب إلى هوية العمل والفعل، فكانت قيمة النص ليس بقائله، وإنما بمضمونه ومدى توافقه مع عصره وزمنه. فعمد في مختاراته إلى شعر مشمول بالبساطة وبشيء غير قليل من العفوية والصدق العاطفي المباشر. لذلك اختار بجانب المعروف من شعر المشهورين، إلى أناس مغمورين من شعراء الجاهلية والإسلام معتمداً على الذوق الذاتي".. وهو منهج مخالف لما سلكه سابقوه الذين اعتمدوا في الاختيار للمشهور من الشعراء أو على ما اتفق الرواة على شهرته. فكان "أبو تمام بذلك رائداً كثر مقلدوه دون أن يبلغوا شأوه".. فكان يختار الشعر الذي يروقه دونما اعتبار لمدى شهرة صاحبه إلى الحد الذي يصل فيه أحياناً إلى أن لا ينسب مختاراته إلى قائلها، مكتفياً بذكر (وقال آخر) أو ( قالت امرأة) أو ربما نسب إلى مجهول أو مجهولة من قبيلة معينة فيقول (وقال رجلٌ من بني الحارث) أو (وقالت امرأة من طيء)، وقد ينسبه إلى مجهول أو مجهولة من البدو فيقول (وقال أعرابي)، وهذا "دليل على أن أبا تمام بثقافته الواسعة كان يهتم بالمعنى ويحتفي به، فإذا أعجبه اختاره دون النظر إلى شهرة صاحبه"، وهو تحول عن الطريقة التي أعتمدها سابقوه. فكان "دائماً يحب أن يكون متفرداً في التأليف، لا يبحث فيما سبق إليه، ولا ينطق بما تحدث به غيره قبله، فاهتم بتقديم نماذج جديدة من الشعر الرائع الذي لم يُلتفت إليه من قبل. وفضل في اختياره أن يكون ناقداً محايداً يختار الشعر الجيد بغض النظر عن زمانه وصاحبه"، ومنها قصائد أجمل وأعمق من شعره المتميز في زمانه.

يقول الناقد المرزوقي "لقد كان أبو تمام حصيناً في نهجه ودقيقاً في اختياره، وذلك بمنهجه المعتمد على أن الرؤية الموضوعية هي التي تصمد أمام الزمن، وأن نزعة تدمير الشعراء المخالف لرؤانا الأدبية لن تمحو الإبداع من التاريخ ولن تبقي ما ليس بإبداع".

معايير اختيار "معلقات" الشعراء المعاصرين:

إذا ما تقرر تنفيذ مقترح اختيار قصائد للشعراء المعاصرين، فمن الممكن الاستفادة من منهجية السابقين في الاعتماد على نفس معاييرهم، أو التفكير في صياغة معايير جديدة، كما فعل أبوتمام. ولكن الأهم من كل ذلك هو تقسيم زمننا الشعري "المعاصر". ذلك أن الشعر العربي المعاصر قد بدأ منذ الربع الأول تقريباً من القرن العشرين وإلى زماننا الراهن.

والمطلوب أن نُقسم هذا الزمان الشعري الطويل جداً إلى "أزمنة" شعرية قصيرة نسبياً، بحيث لا يزيد كل زمن عن عقود من الأزمان. حتى يتمكن هذا الاقتراح من التحقيق والنجاح بمعاييره -أياً كانت- مع انحيازي النسبي إلى الاستفادة من جميع المعايير التي استخدمها السابقون.

والوطن العربي من البحر إلى البحر برز فيه شعراء مبدعون، جلهم لديهم قصائد تحت عناوين تهتم بموضوعات كالحب والأسطورة والمقاومة، والموت، ...إلخ،  أو موضوعات ملحمية تاريخية وواقعية أو خيالية، ولكن بمعايير الشعرية ذاتها.

ودون ذكر شعرية نصوص هؤلاء الشعراء الذين معظمهم قد يكونون مجددين في أشعارهم، ورواداً أسسوا مدارس شعرية، وأصبحوا ظاهرة شعرية لا يمكن التغاضي عن تميزهم في الساحة العربية، وحتى العالمية.

فهل من جهة أدبية، أو ناقد عربي معاصر يسير على منهاج السابقين كحماد الراوية أو أبي تمام؟، تبدأ أو يبدأ في تصنيف شعرية النص للشعراء العرب المعاصرين أصحاب "المعلقات" الحديثة!