DELMON POST LOGO

حول التجربة الإبداعية .. للشاعر قاسم حداد

بقلم : عبد الله جناحي

-  نصوصُ قاسم تجذبكَ نحو الأعماق، نحوَ الثُقبِ الأسودِ، تغريكَ بأن تخترِقَها لتكشفَ مقاصدَها ودلالاتِها، وتستمتعَ أيَّما استمتاعٍ حين تكتشفَ في النصِ الغامضِ مفاتيحَ مخبأةً بين الفقرات، وتارةً في عناوينِ النص، وتارةً مكشوفةً فاضحة. ومن خلالهَا يهبِط عليكَ "الوحي"، تأتيكَ "الومضةُ" و "الإشراقةُ". لِيتحولَ هذا النصُ الغامضُ والصعبُ إلى الواضحِ والسهل. لذلك عنونتُ كتابيَ المتضمنَ الدراساتِ النقديةِ لنصوصِ أمين صالح وقاسم حداد بـ(لعبة ُالاختراق). ووضعتُ على غلافِ الكتابِ منحوتةَ "الاختراق" للفنانِ الكويتي سامي محمد.  

- نصوصُ قاسم تحتاجُ إلى خيال، وأنت تسعى وتكافحَ لتهديمَ جدارٍ تِلوَ جِدار، تِلوَ جِدار، لتركلَ في النهايةِ هذا الهواءَ، أو تحتضنَ ذاك التأويل.

- هكذا تعاملتُ مع ديوان "القيامة" في دراستي التفسيريةِ، وعنونتُها بـ(إضاءةٌ أسطوريةٌ للدخولِ الأولِ من القيامة). وانطلقتُ مع هذا الدخولِ الأولِ بومضةٍ جاءتني من عناوينِ الديوانِ التي تحمل دلالاتٍ فلسفيةٍ وأسطوريةٍ وسرياليةٍ وصوفية. وهذا ما اعترف به قاسم حين قال ذاتَ مرةٍ في مقابلةٍ معه في مجلة "أوراق" الإماراتية (في القيامة كانت بدايةُ رحلةِ الأعماق، من هناك كانت المرايا عناصرَ تعبيريةً تتحول إلى طريقةِ حياةٍ أحاديّةِ الرؤية. ومن هنا أعتقدُ أن تجربةَ "القيامة" طرحَت على تجربتي أسئلةً لا تحتملُ جواباً واحداً، ولا تريد ذلك أيضاً، حيث مرايا الأعماق أكثرُ خطورةً من الكشفِ من مرايا الواقع، لأن عناصرَ الحياةِ تأتي من هناك، من الأعماق).

- قدَّمَ لي قاسم مفاتيحَ اختراقِ نصه، مفاتيحَ خلقِ الكونِ والإنسان: الماءُ والنارُ والهواءُ والتراب. وكلنا يعلم كم من الأساطير والفلسفاتِ التي آمنت بهذه العناصرِ الأربعةِ في تفسيرِ الخلق، وانصهارِها معاً، ليحولهَا قاسم إلى انصهارِ قناعاتِه ومحاسبتِه للذاتِ ما قبلَ وما بعدَ الدخولِ إلى النار، محاسبة القناعاتِ التي كانت رخوة ًكالطين، بل أكثرُ من ذلك "كالماء الألين من رخو الطين"، ليستمرَّ في تحولاتِه: من رخوٍ إلى طينٍ إلى صخرٍ صلب، لتتحولَ الذاتُ إلى جلمودٍ صلدٍ لا يتفتتُ مهما تدحرجَ وحطَّه السيلُ من علِ.

- في دراستيَ التفسيريةِ لديوانِ قاسم (يمشي مخفوراً بالوعول) كان مفتاحُ  النصِّ موجودًا في الصفحةِ الأولى من الديوان، حيث وضع قاسم فقرةً مقتبسةً من كتاب الربان بُزرّگ بن شهريار الرام هرمزي، تستشف مباشرةً تاريخيةً في هذه القصيدةِ الواحدةِ الملحميةِ حقاً. إنها قصيدةُ صراعِ البحرِ وأهوالِه، إنها تاريخُ القراصنةِ القادمينَ للنهبِ من غبارِ الصحراءِ أو للمقاومةِ من سفينة الجلهمي، إنها تاريخُ بحيرةٍ تدخلُها من مضيقٍ يحملُ لقبَ الربان ذاتِه، ومنها ينطلقُ الشاعرُ في سردِ أحوالِ اليابسةِ وناسِها الطيبين الغافلين عن مصيرِهم المؤلم الآتي مع هذا الكائنِ الرمليِّ، حيث يتكرر تاريخُ السقيفةِ "كل سقيفةٍ وشمٌ على جسدي، يا وَجَعاً تراثياً". وتنتهي هذه القصيدةُ بالدعوة إلى الأملِ بعد أن يسردَ الشاعرُ حالةَ الإحباطِ والألم. وهكذا يصبحُ الألمُ والأملُ مفتاحَ الديوان/القصيدة وخاتمتَها.

- قاسم، شاعرٌ متجددٌ، قال ذاتَ مرة (لا أكتب النصَّ مرتين). لذلك انبهرتُ من قصائده التي استخدمَها في العمل الإبداعي المشترك، (وجوه)، تلاقحُ كلِّ الفنون، من الشعر، قاسم حداد، إلى الموسيقى والغناء، خالد الشيخ، إلى التشكيل، إبراهيم بوسعد، إلى المسرح، عبدالله يوسف. فكتبتُ دراسةً تفسيريةً لهذه النصوص التي ألقاها الشاعرُ أدونيس. تلك النصوصِ التي تعيشُ معها كلُّ المترادفاتِ والمتناقضات، جنة النار وفردوس الجحيم، استطيقيا الجسد وفردانيته. (جسدٌ يكتب جسداً، يقرأه جسدٌ آخر"، إذا كان الجسدُ يجسِّدُ الفردانيةَ لكينونةِ الإنسان، فالقصيدةُ تجسيدٌ آخر لفردانيةِ الكينونةِ الشعرية. لذلك أسميتُ هذه الدراسةَ بـ(فردانية الشعر وحرية اللامنتمي). وكأن قاسمَ في هذه النصوصِ يقول لك: قبلَ أن تفهمَ العبارةَ يجب أن تفهمَ الإشارة!.

- كتبت بعضَ المقالاتِ القصيرةِ التفسيريةِ لبعضِ نصوصِ وقصائدِ قاسم. منها مقالٌ بعنوان (حكاية قاسم حداد مع المسيح غوخ، مقاربةُ بين نصٍّ أدبيٍّ وفيلم).

- لقاسمَ نصٌ أدبيٌ طويلٌ صادرٌ عام 2015 بعنوان (أيها الفحم، يا سيدي)، وهو نصٌ يتقمصُ فيه قاسمُ شخصيةَ وعقلَ وروحَ الرسامِ الهولنديِّ المعروف (ڤان غوخ). وفي عام 2018 أخرج جوليان شتايل الفيلمَ الدراميَّ عن الرسام ڤان غوخ بعنوان (عند بوابة الخلود) وهو اسم آخرِ لوحةٍ لغوخ قبل وفاتِه أو مقتلِه بأيام. ورغمَ أن قاسمَ لم يشاهد ذلك الفيلم وهو يخلق نصَّه في عزلتِه بألمانيا. ورغم أن جوليان المخرج ومساهم في سيناريو الفيلم لم يطلع على نصِّ قاسم وهو يصورُ تفاصيلَ حياةِ غوخ  في آخرِ فترةٍ من حياته في بلدة (آرل) بجنوب فرنسا. إلا أنهما يشتركانِ معاً في عشقِهِما وشغفِهما ومتابعتِهما لإبداع ِوحياةِ هذا الرسامِ الهولنديِّ العبقري. كنتُ قد قرأتُ نصَّ قاسم بعد صدورِه عام 2015م، لكنَّ لدى مشاهدَتي لذلك الفيلم في يناير 2022م أحسستُ بضرورةِ العودةِ إلى نص (أيها الفحم، يا سيدي) لأستوعبَ الفيلمَ وومضاتِه ولقطاتِه الطويلةِ الصامتةِ الغامضة. وتيقنتُ بعد مشاهدتي للفيلم، بأن مَن لم يتابع حياةَ  المدرسةِ الفنية لغوخ -مثلي- يحتاجُ إلى بعضِ التفسيرِ لمعظمِ المشاهدِ الإبداعيةِ للفيلمِ حتى يفهمَ خباياه وخفاياه، سواءٌ الفنيةُ منها كفلسفةِ فان غوخ اللونية، وقلقِه الشديدِ قبل أن يخلقَ لوحتَه، أو تلكَ الحواراتِ الطويلةِ  في الفيلمِ عن الفنِ والدينِ والموت. لذلك رجعتُ مرةً أخرى لنصِّ قاسم بعدَ المشاهدة، حيث تعمقتْ الصورةُ والمقصدُ من نص قاسم في عقلي، وذلك عكسَ قراءتيَ الأولى له، واستوعبتُ تلك المشِاهد الغامضةِ في الفيلم. ولذا من يرغب لفهمٍ أعمقَ للفيلم عليه أن يقرأَ نصَّ قاسم. ومن يطمحُ لفهمٍ أجملَ لنصِّ قاسم عليه أن يشاهدَ الفيلم، قبل أو بعد قراءةِ النص.

- أما القصيدةُ القصيرةُ المبهرةُ التي قرأتها في ديوانِ قاسم (عزلة الملكات) الذي عنونَها بـ(القلعة) فقد أثارت مخيلتي، حيث اعتبرتُها بمثابةِ سيناريو لفيلمٍ قصير، ومن بطولة ممثلٍ واحدٍ فقط، هو الشاعرُ نفسُه. فكتبتُ مقالًا بعنوان (سينمائية القلعة: حضورُ الحواس المستفزةِ في المخيلة). هذه القصيدةُ التي تَقلِبُ مفهومَنا لوظيفةِ القلعة، ويحولها الشاعرُ إلى ما يشبهُ القبرَ في حجمِها الصغير، وعزلةِ ساكنِها الفردِ الوحيدِ المعزولِ الضعيف، فإذا فجأةً يتحولُ إلى بطلٍ عادلٍ لا يقتلُ جرحَى المقاتلينَ الذين يهاجمونَ قلعتَه، بل يرسلُهم إلى معسكراتِهم وهم مدججون بالهدايا الثمينة.

- وأخيراً، لديَّ دراسةٌ تفسيريةٌ طويلةٌ لقصيدةٍ واحدةٍ لم أنشرها بعدُ. وهي قصيدةٌ متعبةٌ في تفكيكِها، وفي كلِّ فقرةٍ منها تقفزُ أمامَك شخصياتٌ متداخلةٌ ومتناقضةٌ في أفكارِها وقِيَمها وتاريخِها، وكأنك تقرأ رواية (الدكتور جيكل والسيد هايدن) للروائي روبرت لويس والتي تحولت إلى أفلامٍ معروفة.

في عام 2007 نشر الشاعرُ قاسم حداد قصيدةً طويلةً بعنوان (ما يوقظُ الحجر)، مع تحيةٍ جانبية (تحيةٌ إلى عبدالرحمن النعيمي). ومن الصعبِ جداً فهمَ مقاصدِ هذه القصيدةِ لولا هذه التحية التي كانت بمثابةِ المفتاحِ الأولِ لاختراق القصيدة. وبعد خمسِ سنوات، أي في عام 2012، نشر قاسم هذه القصيدة مرةً أخرى في ديوانه (مكابدات الأمل) ولكن بعنوان (اسمع يا آرثر)، وهذا العنوانُ الجديدُ هو المفتاح الثاني لفهمِ كثيرٍ من المفرداتِ غامضةِ المقاصدِ المنتشرةِ في القصيدة. وعبر هذينِ المفتاحينِ لهاتينِ الشخصيتين، فالشخصيةُ الأولى (الملك آرثر) عرفناها من خلال العنوان الثاني للقصيدة (اسمع يا آرثر)، والشخصيةُ الثانية (النعيمي) عرفناها من خلالِ التحيةِ التي قدَّمَها الشاعرُ إلى عبدالرحمن النعيمي. ويختلفُ أسلوبُ كلِّ شخصيةٍ عن الآخر، سلوكاً وإدراكاً ومواقفاً. وفي أغلب الأحيان تكون الشخصيتان (النعيمي وآرثر) متوحِّدتان تارةً، ومتصارعتانِ تارةً أخرى-خاصةً عندما يظهرُ الجانبُ الشريرُ للملك. وتماماً كالحالةِ المَرضيَّة في ازدواجيةِ الشخصية، حيث تحلُّ  في الفقرةِ الواحدةِ من القصيدةِ شخصيةً مَحلَّ الأخرى خلالَ ثوانٍ معدودة. قصيدةٌ أسميها قصيدةَ "القناع" حيث تكشفُ موقفَ قاسم من اللعبةِ السياسيةِ التي رفضَها جُملةً وتفصيلاً، من خلالِ قناعَي النعيمي والملك آرثر.

-------------------------

ملاحظة : هذه مداخلة جناحي في اللقاء الذي عقد في مركز كانو الثقافي مساء يوم الأحد ٣٠ يونيو ٢٠١٤  حول شهادات عن التجربة الإبداعية للشاعر قاسم حداد.