نهار آخر .. "وتظل دربك بالخطى مزحومةً"
بقلم: رضي الموسوي
"مات محمد إثر انفجار غير معلوم المصدر عن عمر يناهز الأربعين". هكذا دوّن التقرير الجنائي المقتضب من الطبيب الشرعي عمر الشهيد محمد بونفور. لم يصدقوا أن هذا الذي أشعل الساحة المحلية بنضاله الذي يوصل فيه الليل بالنهار، أن عمره لم يتجاوز التاسعة والعشرين عاما. والانفجار حدث في مخبأ الشهيد في إحدى بيوت الحالة بالمحرق. فقد كان الشهيد حريصا على تجميع القوى في تنظيم واحد، حيث ساهم بفعالية في تأسيس الجبهة الشعبية في البحرين، بعد أن كان فعالا في تأسيس كل من منظمة القوى التقدمية، جبهة تحرير الخليج، الحركة الثورية والجبهة الشعبية لتحرير عمان والخليج العربي.
كان مناضلا صلبا، عرفته الساحات والانتفاضات الشعبية والعمالية، وخبرته السجون التي ذاق فيها الأمرّين، فكان واحدًا ممن شارك في تنظيم وقيادة انتفاضة 5 مارس المجيدة 1965، والانتفاضة العمالية في مارس 1972، حيث كان واحدًا ممن أسهم بفعالية في التحضير لتشكيل اللجنة التاسيسية لاتحاد عمال وأصحاب المهن الحرة في البحرين، وقد بدأ بتأسيس مرتكزات عمالية يسبقها بعملية توعية في صفوف العمال وبدأها في القرى ثم المدن.
في إحدى كتاباته، يتحدث بونفور عن الوضع العمالي، فيقول: "لقد اجتاز مشروع "الاتحاد العمالي" عدة مراحل جعلته يصل الآن إلى وضع أفضل. وشكّل العمال لجان المناطق، حيث تركز النشاط في القرى ونجح نجاحا كبيرا. وعقدت اجتماعات لتشكيل اللجان، وترتيب لقاءات عمالية سواء في الأندية أو عن طريق البيوت. حضر العديد من العمال هذه اللقاءات التي كانت تتسم بطابع الندوات والتثقيف العمالي، الأمر الذي جعل السلطة في الآونة الأخيرة تتحرك وتستدعي ـعضاء اللجنة التاسيسية إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية. فُهم من هذا الاستدعاء على أنه مجرد تحذير من خطورة هذا النشاط، باعتبار أن وراءه نشاط حزبي يتخذه كواجهة".
طوال الشهور الخمسة التي تخفّى فيها، ضاعف الشهيد محمد بونفور نشاطه التنظيمي، رغم المطاردات التي عانى منها والإغراءات التي عُرضت على من يقدم عنه معلومات وعن أماكن تواجده وتخفيه. فقد كان حذرا وحدقا، يتنقل في أحياء القرى والمنامة والمحرق كنسمة عابرة لاتصطادها الأعين المتربصة، وحريصا على تنظيم اللقاءات مع قيادات العمل السياسي وترتيب أوضاع رفاقه وكأنه شعر بأن النهاية اقتربت.
لكن، في مساء الثاني من يوليو 1973 دوّى انفجار في المخبأ فتراكض الأهالي ليجدوا جسدًا وقد تفحم وتشظى، ومخبأً دمرت حيطانه وسقفه. كان ذاك الجسد لمحمد بونفور، الذي مضى وترك وراءه إرثا، وفجّر أسئلة لاتزال بحاجة إلى أجوبة شافية ليشفى الوطن.
أسئلة من طراز الحاجة للعدالة الانتقالية وتحقيق متطلبات الإنصاف والمصالحة وجبر الضرر للضحايا والإقرار بمعاناتهم، لطي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة عنوانها الانفتاح والتسامح وكشف الحقيقة وتسوية القضايا العالقة وفق الشرعة الدولية وخصوصا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لتنعم بلادنا بحقبة جديدة من إعادة علاقة الثقة بين أطراف العمل السياسي وردم الهوّة المجتمعية التي أحدثتها الأزمات السياسية المتناسلة، وإضاءة شمعة لوهج مقبل.
**
على شاهد قبر الشهيد، حُفر بيت للشاعر البحريني علي عبدالله خليفة:
"وتظل دربك بالخطى مزحومةً
وتظل أنت كهذه الأرض التي في حضنها الدامي ارتميت".
هذا العمل الذي بادر بالقيام به المناضل عبدالله مطيويع، (أبو راشد)، رفيق درب الشهيد محمد بونفور، فبنى قبر الشهيد ووضع شاهد عليه حفر فيه بيت الشعر أعلاه. كان يهتم بالقبر المسجّى في مقبرة المحرق. وفي ذكراه كل عام، يحرص مطيويع على تغطية القبر بالمشموم وعلى قبور الراحل عبدالرحمن النعيمي بالقرب منه والمرحومة ليلى فخرو وقبر المرحوم محمد جابر صباح.
**
في عام 1982، أصدرت الشاعرة البحرينية فوزية السندي ديوان "استفاقات" ضمّنته قصيدة بعنوان "احتفالات الجسد"، جاء في مقطع منها:
"كشهيد ترجل من حافة الموت
مختالا بسروج الريح
في هيئة نسر ينقض
والمقابر تتسع ولا تبطئ
جراحك صارت تاريخا مشدوها
أو خوذة للسبي
فأس تحلم وتستوفي النذور.
لا.. لست لاجئا كالدم
أنت الطريد الظامئ
صديقا لشغف النخل
كم نافذة ستطرق في رؤاك
وكم حلم سيحتمل".
**
لاتزال أوراقه وكتبه المتناثرة في المخبأ وحوله شاخصة في أذهان من حضر ليشاهد أشلاء الشهيد محمد بونفور بينما كان الصمت يخيم على المكان وخيوط الدم تدل على مسار من كان معه.
"الشهداء أكرم من في الدنيا وأنبل بني البشر"..
لهم المجد والخلود.