الذهاب إلى مدارس الثورة (1971-1980) وماما هدى تمنعنا الكلام بالشحرية بالمدارس
غادرت دار أبي إلى حيث مقر الملتقى وانطلاق القافلة الذي يقع في موقع يدعى عين أمحاد؛ شمال منطقة الباحة في الطرف الغربي لمنطقة (ليجأنجر) في بيت زربيج. وفي الطريق قابلنا مجموعة أخرى من الشباب متجهين إلى الموقع نفسه. وعند وصولي إلى المقر وجدت مجموعة من الفتيان والفتيات يتراوح عددهم بين 50 إلى 70 فرداً، وكان من ضمنهم مجموعة ممن يحظون الآن بمكانة اجتماعية وأكاديمية، وتبوؤوا مناصب إدارية في مختلف دوائر ومؤسسات الدولة.
وكانت أعمار الأطفال الموجودين تتراوح بين 10 -15 سنة، وهم من مختلف مناطق ريف ظفار. وكان ذلك المقر بمثابة نقطة التجمع للقافلة التي ستنطلق إلى منطقة حوف اليمنية. وكانت القافلة تتكون من التلاميذ الذين سيُحمَلون للمدرسة، ومجموعة من المقاتلين الذين يعملون على حماية القافلة طوال الطريق، والجمال التي تحمل الزاد والمؤن. وكانت القافلة تحت قيادة محمد بن علي بن سعيد النوبي الكثيري (أبو كف)، وقد أعلن أبو كف انطلاق الرحلة وبداية المسير عصر ذلك اليوم الذي غادرتُ فيه دار أبي صباحاً، متجهة غرباً، متخذة طريق القطن مسلكاً مروراً بمنطقة (حيصا).
وكانت الطريق محفوفة بالمخاطر وشديدة الوعورة والمنحدرات والوديان، ناهيك عن طولها وعدم الأمان فيها، فقد كانت الطائرات الحربية تقوم بالاستطلاع ومراقبة جميع الطرق المؤدية من أقصى جبال ظفار شرقاً وصولاً إلى الحدود الغربية لليمن. وكان الصبية في الوسط وبعدهم الجمال التي تحمل الزاد، والحماية في المقدمة للاستطلاع وكذلك على جانبي الطريق ومن الخلف.
ولم أكن أعرف أسماء الوديان والمنحدرات التي مررنا بها كي أسرد أسماءها هنا، لكن كل ما أعرفه أن الرحلة كانت شاقة ومتعبة، مع ما كان يرافقها من الشعور بالخوف والترقب حتى لا تعترضها الطائرات والجيوش المرتزقة التي قد تكون متربصة في أي وادٍ في الطريق، بالإضافة إلى الوعورة والمنحدرات الضيقة بين الجبال والشعاب.
وقد استغرقت الرحلة بحسب تقديري بين الأسبوع والعشرة أيام سيراً على الأقدام، وكانت القافلة تسير وفق مخطط استراتيجي محكم وفقاً للمؤشرات الأمنية والمعطيات التي يرسمها خبراء الطريق من خلال تجاربهم، فتارة تأتي التعليمات بالمبيت حتى الصباح الباكر، وتارة تقتضي الظروف والاحتياطات الأمنية أن يكون الذهاب ليلاً تحسباً لأي ظرف طارئ قد يباغت القافلة صباحاً في مكان المبيت، ليفوتوا الفرصة على المتربصين من التمكن من إلحاق الأذى بالقافلة بمن فيها. وبما أن الذين يتم حمايتهم جميعهم من الأطفال والجمال التي تحمل الزاد والمؤن، فلا بد من الحرص الشديد لتمكين القافلة من الوصول إلى حيث كان مقرراً لها بسلام.
وكان (أبو كف) الخبير والعسكري الذي لا يعرف الكلل أو الملل، الذي اعتاد تمرير القوافل الآتية من غرب ظفار إلى شرقها والعكس من الشرق إلى الغرب، ويستطيع العبور بها في أضيق وأحلك الأحوال والظروف، والوصول بها آمنة سالمة إلى حيث كان مقرراً لها الوصول. وكان أبو كف شجاعاً صعب المراس قليل الكلام ثاقب النظر، لا يغمض له جفن إلا وقد تحقق من أن كل شيء آمن ومستتب، وكانت لا تتحرك القافلة إلا بأمره، وهو من يحدد الانطلاق والمكوث والسير ليلاً أو المبيت.
وفي أحد الأيام وبينما نأخذ استراحة للغداء، لاحظ أبو كف بنباهته وحدسه أثناء الرحلة أنني الأصغر والأضعف جسماً بين كل الأطفال، عدا عن كوني فاقداً لبصر العين اليمنى، فاستدعاني جانباً وقال لي: ولدي عندما نتجهز للانطلاق تعال إليَّ وسوف أجعلك تركب على ظهر الجمل؛ فالطريق أمامنا صعب وشديد الوعورة والمنحدرات، وربما لا تقوى على مواصلة الطريق سيراً على قدميك. وقد وافقت حينها على أن أركب على ظهر الجمل، ولكن عندما أعلنت القافلة المسير نسيت العرض الذي عرضه علي أبو كف، وتسابقتُ مع الصبية لنزول المنحدر، وظللت معهم ماشياً حتى وصلت القافلة بعد أيام إلى المنطقة الغربية.
وفي المنطقة الغربية بعد أن تجاوزنا عقبة (اقيشان)، أصبحت المنطقة آمنة نسبياً، واستراح الجميع هناك وجهز الغداء. وكانت المرة الأولى التي يتذوق فيها الأطفال، ومنهم أنا، الكبسة. وهي عبارة عن رز محمر بالصلصة (معجون الطماطم). ومن هناك واصلنا المسير عبر هضاب وجبال المنطقة الغربية حتى وصلنا إلى منطقة حوف اليمنية حيث مقر المدرسة التي سوف يدرس فيها الأطفال الذين وصلوا للتو من المنطقة الوسطى، وقد وجدنا الدفعات الأولى بانتظارنا، وجُهّزت لنا الخيام، وقامت الأستاذة هدى (ماما هدى) بالترحيب بنا وتوزيعنا على الخيام حيث السكنى، وسلمت لنا ملابسنا.
وبعد الاستراحة من مشقة الطريق وبعد الغداء والاستراحة، استدعينا للاجتماع، فاجتمعت بنا الأستاذة هدى لتخبرنا بأنظمة المدرسة وقوانينها، والممنوع والمسموح فيها، على اعتبار أننا وصلنا من مجتمع رعوي لا يربط أفراده نظام ولم يسبق لهم أن عرفوا مدارس أو سمعوا عنها. ورحبت بنا وبإطراء وتحفيز لطيف بأننا سوف نكون نموذجاً يعتمد عليه في قادم الأيام، من حيث الانضباط والتفاني والالتزام. وقد استرسلت في سرد المحظورات والمسموحات، وكيفية النقد والنقد الذاتي؛ وهو أن تبادر بنقد ذاتك قبل أن ينتقدك الآخرون، وذلك في حال أحسست بأنك قد أخطأت على أحد من رفاقك أو تصرفت تصرفاً شعرت معه بتأنيب الضمير، مهما كان ذلك الخطأ في نظرك بسيطاً، فاستسهال الخطأ البسيط يجر الفرد إلى أخطاء كبيرة.
ومما ركزت عليه الأستاذة هدى تركيزاً شديدا عدم التحدث بالشحرية بتاتاً، وذلك حتى نتمكن من التعلم والتحدث بالعربية ليتقن الطلاب تعليمهم جيداً ويتمكنوا من إتقان اللغة العربية التي لم يتحدثوها من قبل، ففرض علينا حظر التحدث باللغة الشحرية التي كانت لغتنا الوحيدة التي نعرف. وقد وُضعت عقوبات لكل من يغلط أو يتفوه بكلمة شحرية حتى ولو عن غير قصد، ومن يخالِفْ يُعاقَبْ. ولأن الطبخ يتم بالحطب فقد كان يتم تكليف كل من تتم معاقبته بجلب وجمع الحطب، فقد كان نظام الطبخ بالتناوب من قبل الطلاب، فكانت كل خيمة تكلف بعملية الطبخ ليوم كامل، وكل يوم تتولى خيمة أخرى عملية الحراسات الأمنية ومتابعة النواقص التموينية واحتياجات المدرسة وإبلاغ الإدارة عنها، وهكذا يتم التناوب بين المفارز فكل خيمة تعتبر مفرزة.
وكان نظام التدريس حينها مقتصراً على الكتابة والحساب فقط، إذ كانت تعليمات قيادة الثورة آنذاك تأهيل الطلاب لمحو أميتهم حتى يقرؤوا ويكتبوا جيداً، ومن يصل إلى سن يمكّنه من حمل السلاح، يلتحق بمعسكر تدريب المقاتلين على السلاح وتعلم فنون الحرب لمدة عام أو عامين، ثم ينضم إلى صفوف الثوار في الخطوط الأمامية للجبهة ليصبح مقاتلاً مؤهلاً. ونظراً لقلة الكادر التدريسي في المدرسة المقتصر على أ. هدى، فقد قامت بتأهيل مجموعة من الطلاب من الدفعات السابقة فأوكلت إليهم عملية تدريس الدفعات الجديدة، وذلك حتى تتم تغطية الاحتياجات التعليمية للطلاب.
وكانت الدفعة الأولى من الطلاب التي وصلت إلى المعسكر عام 1971 بعد وصولنا للمدرسة، والثانية في العام 1972، قبل قصف الطائرات الحربية لمقرات الجبهة ومكاتبها ومدارسها ومعسكرات التدريب العسكرية التابعة للثورة في حوف، مما جعل الثورة تفكر في حل لإيجاد موقع آمن للمدرسة التي أصبح عدد طلابها القادمين من مناطق ظفار يتزايد، ولا بد لهم من الاستقرار والتعلم دون الشعور بالخوف والهلع جراء القصف والتهديد الذي يداهمهم ويقض مضاجعهم بين الفينة والأخرى. وبعد أن وُجد المكان الآمن وموافقة السلطات اليمنية التي تستضيف الوجود العماني التابع للثورة على أراضيها، وتعيين المكان الذي سوف تنقل إليه المدرسة، قررت الثورة نقل الطلاب إلى الغيضة. وفي هذه الأثناء، وبينما كان يتجهز الطلاب للانتقال إلى الغيضة حيث المقر الجديد الآمن للمدرسة، وصل والدي وعائلته إلى حوف مع النازحين من المناطق الداخلية لظفار، مخلِّفين وراءهم جدتي وأخي أحمد بمعية والدتي وأجدادي لأمي، فزرتهم هناك وكان قد زاد عليهم ولد اسمه عدنان، وكان بينه وبين أخيه حامد عام واحد. ولم أمكث طويلاً بينهم بالرغم من شوقي للبقاء معهم، وقد ودعتهم فقد كنا في المدرسة نتجهز للذهاب إلى الغيضة.
وما هي إلا أيام حتى بدأ ترحيل الطلاب تباعاً، وكان علينا قطع المسافة من حوف إلى دمقوت سيراً على الأقدام لنهار كامل، والدفعة التي تصل أولاً تقلها سيارة نقل تدعى «قلاب»، فهي وسيلة النقل الوحيدة التي تستطيع حمل عدد كبير من الطلاب، بالرغم من أن اللوري القلاب ليس لحمل البشر ولكنها كانت وسيلة النقل الوحيدة لحملنا من دمقوت إلى الغيضة حيث مقر مدرستنا الجديد. وما هي إلا أيام حتى اكتمل العدد ووصل الجميع بسلام رغم وعورة الطريق ووسيلة النقل الاستثنائية التي لم تكن بأي حال من الأحوال مجهزة لنقل البشر. وعند وصولنا إلى الغيضة وجدنا الخيام مجهزة، ونزلت كل مفرزة في خيمتها بالآلية نفسها التي كنا عليها في حوف، وظلت المدرسة على هذا النظام الدراسي، وكان ذلك في سنة 1972م.
وقد بقيت ضمن هذه المدرسة حتى حلت سنة 1973م، وفي تلك الأثناء كان إرسال آخر دفعة إلى معسكر التدريب التابع للجبهة للالتحاق بقوات الجبهة الشعبية. وحين ذاك ارتأت إدارة المدرسة إرسالي إلى مدينة عدن اليمنية على أمل إيجاد علاج لعيني اليمنى المصابة منذ الصغر، والتي كانت متورمة تورماً شديداً بحيث يتراءى للناس أنها سوف تنفجر قيحاً أو دماً، مما جعل موضوع السفر لتلقي العلاج أمراً لا بد منه. وفي عدن وبعد تشخيص الطبيب لحالتي أفاد بأنه لا بد من قلع العين، وأنه لا سبيل لعلاجها أو إعادة البصر إليها، ولم يكن بوسعي إلا الموافقة على عملية الاستئصال، وذلك حتى لا تتسبب بانتقال المرض للعين الأخرى المبصرة بحسب ما قال الطبيب الروسي.
وقد كانت العملية الجراحية لقلع العين في المستشفى الجمهوري بعدن، ومكثت ثلاثة أيام منوماً في المستشفى، وبعدها خرجت إلى حيث السكن المخصص لمرضى الجبهة في معسكر جمال بخور مكسر. وانتظرت هناك لأسبوع أو أسبوعين حتى يلتئم الجرح ويبرأ كلياً. وبعد أن انتهيت من المراجعات، أخبرني الأطباء بأنه يمكنني تركيب عين صناعية؛ وهي عين زجاجية تُركَّب مكان العين المخلوعة فرفضت عدت أدراجي إلى الغيضة، وقد أصبحت بلا عين يمنى. وكان هذا الأمر صعبا وله وقع كبير علي، ولكنها الأقدار.
وعند وصولي إلى المدرسة استكملت الدراسة لمدة بسيطة كانت في ختامها إجازة صيفية للطلاب في تلك السنة، فالتحقت بأسرتي في حوف،
وقد بقيت مع الأهل يوماً أو يومين، وسمعت أن إدارة المدرسة قررت أن تقوم بختان من لم يسعفهم الوقت في الختان قبل أن يصلوا إلى المدرسة، فقد خُصِّص يوم لتجمعهم في مستشفى الجبهة الذي كان عبارة عن مستوصف صغير مبني من الصفيح، وقليل الكادر والمعدات نتيجة لظروف الحرب. وكان الطبيب المعالج الوحيد -الذي كان ممرضا بالأحرى- الفاضل/جامع الصومالي. وبما أنني كنت لم أختن بعد فقد ذهبت إلى المستوصف ووجدت مجموعة من الطلاب ينتظرون دورهم للختانة، وقد ختننا جميعا الدكتور جامع تباعاً.
وقد بقيت هناك فترة لا أذكر مدتها بالضبط، وأذكر أنني ذهبت إلى المعسكر أو المخيم الذي خُصِّص لعطلة طلاب الثورة الصيفية في منطقة «ميرورت» خلف جادب غرباً. وميرورت هي عين ماء تقع في أعلى الوادي وسُمِّيت المنطقة باسمها. وكان موقع المعسكر في دلتا الوادي الذي يسيل إلى البحر، ولم نمكث طويلاً حتى عدنا أدراجنا إلى المدارس سالكين الطريق الوعر الذي سلكناه في قدومنا الأول من ظفار عند ترحيلنا للغيضة. وعند وصولنا إلى دمقوت ركبنا اللوري القلاب، ولا أدري إن كان الذي حملنا في المرة الأولى أم آخر غيره، متجهين إلى موقع المدرسة في الغيضة إيذانا ببدء عام دراسي جديد.
وكانت المدرسة لم تزل على الوضع السابق نفسه، فقد كانت في الخيام نفسها، ولم يتم بناء أو تشييد أيّ مبانٍ جديدة، في حين كان العمل جارياً على بناء مقر جديد للمدرسة في منطقة في ضواحي الغيضة في الجهة الشرقية منها. لذلك حينما وصلنا لم نتأخر كثيراً في الموقع السابق حتى نُقلنا إلى الموقع الجديد الذي يتم إنشاؤه، وهناك ظللنا في الخيام فترة وجيزة حتى تمَّ البناء الجديد.
وبدأ بعدها العام الدراسي الجديد للعام 1974م، وقد خُصِّصَت للمدرسة أرض بعيدة عن المدينة وبُنيت فيها مساكن أشبه بالبركسات العسكرية. وكان كل بركس يسمى سرية، وسميت السرايا بأسماء شهداء الثورة، مثل سرية الشهيد بدر علي هبيس، وسرية الشهيد مبارك إيزميم عكعاك، وغيرهما من السرايا التي كانت في حدود 8 سرايا، وسرية الإدارة في مدرسة 9 يونيو، وأكثر من 10 سرايا في مدرسة الشعب. وقُسمت المدرسة إلى مدرستين: إعدادية اسمها 9 يونيو، وابتدائية اسمها مدرسة الشعب، وكان حينها قد وصل عدد الطلاب إلى ما يزيد على الألف (1000) طالب تقريباً.
وكان هناك مبنى آخر منفصل للطالبات، وكان بعيداً عن سكن الطلاب، إذ كانت بين السكنين ساحة مخصصة للألعاب وكرة القدم والأنشطة. وقد تغيَّر النظام التعليمي إلى نظام دراسي منظم ومكتمل التدريس بجميع المواد، وتوسعت الهيئة التدريسية لتغطي جميع المواد. وكانت الهيئة التدريسية الجديدة عبارة عن مجموعة مدرسين من القوى السياسية الداعمة للثورة؛ مثل القوى الفلسطينية كمنظمة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والقوى المعارضة في البحرين، وبعض المدرسين العمانيين الذين أكملوا دراساتهم في بعض البلدان العربية مثل سورية والعراق. في حين كانت الهيئة الإدارية عمانية خالصة. وكان مدير المدرسة يُعيَّن من قِبل قيادة الجبهة بين فترة وأخرى. ومن ضمن المدراء الذين أذكرهم: أحمد سالم البريكي أبو سند، وبعده الأستاذ البحريني أحمد العبيدلي (يوسف طاهر)، وعلي سعيد الحاج عتيق.. وكان عدد الكادر التدريسي يقارب 15 شخصاً، ومنهم: الأستاذ أحمد عوض عبيد، والأستاذ عبد الله محسن الصومالي، والأستاذ أحمد سالم البصراوي وغيرهم من الأساتذة.
وكانت المناهج التدريسية قطرية ويمنية، وتنوعت المواد الدراسية فكانت هناك: مادة التربية الإسلامية واللغة العربية والدراسات الاجتماعية واللغة الإنجليزية والرياضيات وغيرها من المواد الأساسية المعروفة. وكان الجو الدراسي بعيداً عن أي أدلجة أو توجيه عقائدي معين، فكانت الأفكار والمبادئ السياسية تُعتبَر جانبا ثقافيا خارجيا، وتأتي من خلال تثقيف الشخص نفسه، أو من خلال بعض الفعاليات والأنشطة المحدودة.
مرض العين .. والخوف من العمى
وخلال تلك السنة، ولأن موقع المدرسة كان شبه صحراوي ودائم الغبار، وأحيانا لا تبصر شيئاً عندما تخرج من موقع سكناك أو صفك الدراسي من كثرة الغبار والرمال، أُصبتُ بالتهاب حادٍّ في عيني اليسرى بفعل الغبار والرطوبة وشحِّ الماء، فقمت بمراجعة المستوصف المتواضع الملحق بالمدرسة لعلي أجد علاجاً لحالتي تلك. ووجدت مدير المدرسة آنذاك أحمد سالم البريكي أبا سند في المستوصف وسألني عن حالتي، فأجبته بأنه ربما أصابني شيء من الرمل أو الغبار في عيني. ولما رأى حالتي تعاطف معي كوني بعين واحدة وهي الوحيدة المتبقية لي، ولكون الوقت مساء فقد أشار عليَّ بأن أراجعه صباحاً؛ وذلك حتى ينهي إجراء مخاطبة القيادة بضرورة سفري إلى عدن لتلقي العلاج. وهذا ما كان، فأتيته صباحاً على موعدنا ووجدته قد أعدَّ خطابا وأمرني بتسليمه للقيادة في مدينة الغيضة.
وأخذت الخطاب، ونظراً لعدم توفر مواصلات فقد ذهبت راجلاً إلى مدينة الغيضة التي تبعد حوالي 4 كيلومتر. وهناك قمت بتسليمها لإدارة مكتب القيادة في الغيضة لاتخاذ الإجراء، وأخبروني بأنهم سيقومون باتخاذ الإجراء اللازم، وأشاروا عليَّ بأن أعود للمدرسة وأبدأ بحزم حقيبتي استعداداً للسفر لأكون في اليوم التالي عندهم في المكتب لإيصالي إلى المطار. وتم سفري في اليوم نفسه. وفي عدن تعالجت بالمستشفى الجمهوري لفترة، ثم ما لبثنا وقتاً حتى قامت الجماهيرية الليبية بتقديم مِنح علاجية للجبهة، فقررت القيادة استغلال تلك المنحة وتمَّ استدعاء مجموعة من المرضى الذين رأت القيادة إنهم يجب أن يستفيدوا منها، بصرف النظر عن اختلاف أمراضهم. وكانت المجموعة المختارة تعاني من أمراض مختلفة مثل: أمراض العيون، والقلب وأمراض باطنية مختلفة.
وقد جُهّزنا للسفر ورُتّبت لنا جوازات سفر ومبالغ مالية لشراء ملابس. وفي فترة التجهيزات هذه، وبينما كنت واقفاً في محطة سيارات الأجرة لاستقلَّ سيارة أجرة تقلني إلى مكتب الجبهة في عدن لإنهاء إجراءات السفر، ركب معي راكب يريد الوجهة نفسها بعد أن سأل السائق عن الوجهة قائلا: «المعلا؟»، حيث وجهتي، وقال السائق: نعم. وركبنا معا للوجهة نفسها. نظر إليَّ، وربما سمعني أتمتم بكلمات عرف من خلالها أني ظفاري ولست من عدن، وقال: ابني أنت من وين؟ قلت: أنا من ظفار، التفت باهتمام سائلاً ولد من أنت؟ قلت أنا ابن مسلم العايل، فرد بالشحرية: افيدا بري -أي أنا فداء ابني- واستدار وسلَّم عليَّ بحرارة، واستطرد قائلاً: أنا عمك سعيد حصرور الرواس أبو نضال، وقال وين ذاهب؟ فأجبته: المكتب، وقال: أنا بعد. وعاد ليسأل هل ستسافر مكانا؟ قلت نعم ليبيا، قال بفرح: لا تهتم أنا سأكون معكم. وقال مازحاً بدعابة والبسمة تطل من محياه: «نحن هؤلاء أصحاب العيون بيشوفون لنا علاج في ليبيا على الله»، وقال: «نحن أهل، والدك صديق ولد حمد بن سيلمون، ونعم الرجل أبو علي».
وصلنا إلى وجهتنا ونزلنا معاً وطلعنا درج البناية حيث مكتب الجبهة الذي يمثل الثورة لدى اليمن الجنوبي. ووجدنا كل شيء صار جاهزاً، الجوازات والتذاكر. وأخبرونا أننا سوف نغادر عدن بعد أيام قليلة، وستمرُّ السيارات علينا كل واحد حيث يسكن، وسنخبركم قبل الإقلاع بيوم لتكونوا جاهزين عند السفر. وتفرقنا بعدها من هناك كل واحد يجهّز ما تبقى من احتياجات سفره، والمجموعة المسافرة كانت من المناضلين الذين يعانون من أمراض مختلفة، مثل: أحمد محاد محادوت عكعاك، وأحمد حسن رييت العمري، ومسعود كبس المعشني وغيرهم. وفي يوم سفرنا نقلتنا السيارات إلى مطار عدن الدولي، وقد أقلتنا طائرة تابعة لطيران اليمن الديمقراطي(اليمدا). ولم تكن من الطائرات النفاثة الحديثة، بل كانت طائرة كبيرة بأربعة محركات مراوح. وكان علينا أن نمر بميناء القاهرة الجوي ترانزيت، وكانت تلك السفرية الأولى لأغلبنا إذ لم نسافر جوّا قبلها لأي مكان قط. ومن مطار القاهرة تغيرت الطائرة التي ستقلّنا إلى طرابلس الغرب العاصمة الليبية.