DELMON POST LOGO

رواية " رصاصـة الماكاروف.. "وما تبقّى من فصول الحكاية للعماني علي الكثيري حول العلاج في ليبيا والقاهرة  - 5

فترة ما بعد التراجع العسكري للعمل المسلح  بعد الحملة العسكرية الإيرانية البريطانية  ودك المواقع العسكرية للثورة

 

يواصل الكاتب العماني علي الكثيري سيرته منذ دخوله مدارس الثورة حتى تخرجه منها (1971-1980) يقول عند وصولنا إلى مطار طرابلس الدولي كان في استقبالنا ممثل الجبهة في ليبيا: سعيد أحمد سالم الغساني (ثابت أحمد) ، وبقينا هناك لمدة ما يقارب الشهرين حتى أكملنا العلاج المقرر، وبينما كنا نجهز أنفسنا للسفر ونحن عائدون من مكتب الجبهة إلى الفندق سيراً على الأقدام، وقع حادث سير مؤسف مات احد المرضى من الظفاريين ، قبل عودتنا لعدن.

وقد ظللت في عدن لأيام لأنهي بعض الأوراق الرسمية الخاصة بسفري من مكتب عدن، وترتيب وضع عودتي إلى الغيضة حيث مدارس الثورة. وعدت إلى الغيضة وبقيت في المدرسة أياماً أخذت بعدها إجازة لزيارة الأهل في حوف.

ومضت الأيام التي أمضيتها بين اهلي والتي لم تزد على الأسبوع قضيته ضيفاً محمولاً على كفوف الراحة ، وعندما هممت بالمغادرة لأعود أدراجي حاملاً حقيبة ملابسي الصغيرة، قال أبي: سوف أرافقك إلى جادب حتى تركب القارب الذي سيُقلُّك إلى دمقوت، حيث الوجهة التي درجنا على العبور خلالها للسفر إلى الغيضة.

ودعت أبي وذهبت مع عامر إلى القارب، وركب من معنا من الركاب، وعاد الإسكندر أدراجه إلى الشاطئ، وربما تنتظره رحلة أخرى إلى دمقوت.

وصلت إلى المدرسة متعبا وذهبت إلى بير العسيلة، وهي الماء الأحلى والوحيدة في تلك المنطقة، لأشرب منها واغتسل. وفي المدرسة ذهبت إلى سرية بدر علي حيث أسكن قبل أن أسافر، ودخلت إلى غرفة مرشد السرية وأغلقت على نفسي الباب من الداخل ونمت حتى الليل.

وعند قيامي ليلا وجدت بعض الطلاب يتبادلون الحديث في باحة السرية (الدكة) وكانوا لا يعرفون عن وصولي شيئا. وسلَّمت عليهم وتبادلنا الأخبار  .

وفي الصباح وبعد أن قمنا للإفطار في مطعم المدرسة قالوا لي : ابقَ في غرفة المرشد حتى ننظر في أمرك ونرتب لك الصف الدراسي، ونلحقك بالفصل الدراسي الذي قرب أن ينتهي وقربت معه الامتحانات النهائية.

ومنذ تلك الفترة قل انتظامي في الدراسة، ولم يعد يعجبني ذاك الأسلوب في الحياة التي اتضح لي مدى بدائيتها، بعد أن اعتدت على سفراتي الماضية إلى عدن وليبيا، وبان لي فيها الفرق واتضح لي مقدار التحضر والتطور الكبير الذي وصلت إليه الحياة في هذه الأماكن واختلافها عن المدرسة التي عدت إليها. وعاد بي الشوق إلى حيث السيارات والشوارع والحياة ودور السينما، والعمران والنظافة والحياة العصرية المختلفة تماماً عن بدائية الحياة في محافظة المهرة ذات الطبيعة الصحراوية والريفية، وعدم توفر أبسط الخدمات الحياتية بها.

ولأنني انقطعت عن الدراسة كثيرا بسبب السفر والعلاج، وكانت الامتحانات النهائية على الأبواب، فقد قررت أن أقوم بتلخيص ما فاتني من دروس السنة الدراسية التي شارفت على الانقضاء، لأستعد للمذاكرة وتقديم اختبار الصف الأول الإعدادي. وكانت الإدارة تراهن على رسوبي نظراً لكمية التحضير الكبيرة التي كان عليّ تداركها منذ بداية السنة. ولكنني حاولت جاهدا أن أغيّر ظنهم بي، وفعلا قدَّمتُ الاختبار ونجحت ونُقلت للصف الثاني الإعدادي وحصلت على العلامة النهائية في جميع المواد. وانتهت الدراسة، والطلاب بعضهم بقي في المدرسة فشُكِّل لهم معسكر صيفي هناك، وذهب من لديه أهل إلى ذويه في حوف ومرتفعاتها.

وذهبت أنا لأقضي إجازتي مع الأهل في مرتفعات «ثور»، وثور هذا وادٍ يقع بين دمقوت ومريروت غرب جادب، وقد نقلت بعضَنا سيارةٌ إلى دمقوت.

وكان مكوثي بين أهلي هذه المرة مدة أطول، إذ مكثت شهرا، فقد أعجبتني الطبيعة وكنت مشتاقا للجلوس أكثر الوقت مع الإخوان الصغار، ومع خالتي التي غمرتني بحبها وحنانها الجم الذي لا يضاهيه حنان أم، وبرعاية والدي الذي يغيب أحيانا لأيام في مهام لا أعرف نوعيها. وأثناء بقائي في الدار تارة أذهب مع الغنم، وتارة أذهب للماء وأغتسل وأعود ببعض الماء للدار. وكانت تلك من أجمل العطل التي قضيتها مع الأهل حتى عدت إلى المدرسة.

وبعد تلك العطلة عدت للمدرسة في السنة الدراسية للعام 1974/1975م، ولكنني في هذه السنة الدراسية لم أنتظم دراسيا، فقد أُصبت بدوخة وتشنجات عصبية كنت أفقد معها الوعي لفترة بين الربع الساعة ونصف الساعة. ولم نكن نعرف وقتها ماذا تُسمّى مثل هذه النوبة التي تصيبني بين الفترة والأخرى، مما اضطرني في حدود العام 1975م إلى قطع الدراسة والسفر إلى عدن للعلاج من نوبات فقد الوعي هذه، وهناك عرفنا أن هذا المرض يسمّى الصرع.

وفي فترة ما بعد التراجع العسكري للعمل المسلح، بعد الحملة العسكرية الإيرانية البريطانية والجيوش المرتزقة التي تكالبت بكل قوتها الجوية والبرية على المواقع العسكرية للثورة، والمناطق الآهلة بالسكان في المنطقة الغربية التي على إثرها تراجعت العمليات المسلحة، وانسحب ما تبقى من الثوار وقياداتهم إلى الحدود اليمنية القريبة من عُمان، بينما عاد بعضهم إلى صفوف النظام في السلطنة.

وعند انسحاب المقاتلين إلى الأراضي اليمنية عملت قيادة الثورة على تأسيس معسكر للمناضلين؛ ليتلقّوا بعض التدريبات العسكرية، ولتأهيلهم ثقافيا وعلميا طيلة وجودهم في هذه المناطق الآمنة، وحتى لا يبقوا متسكعين بين المدن اليمنية دون عمل. ومن هذا المعسكر تم ابتعاث الكثير منهم في دورات عسكرية في الكليات العسكرية في عدن وبعض الدول الصديقة والداعمة للثورة مثل كوبا والاتحاد السوفييتي، وإلحاق بعضهم بالورش والمعاهد المهنية داخل اليمن حتى يكون لديهم تأهيل مهني للاستفادة منه فيما لو عادوا للوطن. وبعضهم التحق بالمدارس لاستكمال تحصيله العلمي، كما أُرسل الكثير من المرضى ومصابي الحرب الذين تعذر علاجهم في مستشفيات اليمن الديموقراطي إلى الخارج، مثل مصر وليبيا وسورية والعراق وجمهورية الهند.

وفيما يخص مدارس الثورة، وخوفا على الطلاب من أن يطالهم تأثير الانتكاسة العسكرية، وللخوف عليهم من دعايات المغرضين من أن تؤثر على تحصيلهم العلمي، فقد رفدت قيادة الثورة إدارة المدارس الرئيسية بعناصر من الإدارات المحلية والشخصيات ذات الوجاهة الاجتماعية، والذين يُسمَع لهم ليساعدوا إدارة المدرسة في توعية الطلاب لاستكمال تحصيلهم العلمي، وبث روح المواظبة والالتزام. وبالرغم من التراجع على الجانب العسكري للثورة إلا أن عطاءها في الجانب التعليمي يجب أن يتواصل ويتطور، وفعلا كان لهذه الإدارة المحلية دور كبير في استقرار الطلاب نفسياً، فاستكملوا تعليمهم على اعتبار أنه سلاحهم الأخير في مواجهة التحديات المستقبلية.

وقد استمرت هذه الإدارة المحلية في الفترة بين العامين 1975 و1977 تقريبا. وفيما يخص الابتعاث لمن أنهى المرحلة الثانوية من طلاب الثورة فقد ابتُعثوا إلى كثير من الدول العربية والأجنبية الصديقة مثل ليبيا والجزائر وسورية وكوبا والاتحاد السوفييتي، فاستكملوا هناك دراساتهم الأكاديمية، وعادوا بعدها إلى الوطن وأصبحوا في مناصب ومراكز إدارية ومهنية مختلفة في الجهاز الإداري للدولة. ولا يزال العديد منهم على رأس عمله إلى الآن.

وقد قمت بمراجعة مستشفيات عدن للعلاج من مرض الصرع، لكن دون جدوى. وظللت متنقلاً من عدن إلى المكلا والغيضة، وكنت آتي المدرسة فقط للزيارة، إذ لم أكن في وضع ملائم يمكّنني من الدراسة. وخلال هذا العام، وفي الفترة التي كنت أعود فيها زائرا للمدارس، كانت الطائرات الإيرانية الداعمة للسلطنة تحوم في أجواء محافظة المهرة، وهو ما تسبب في توقف رحلات الطيران من وإلى مطار الغيضة، وأصبح طلاب المدارس يتخذون من المزارع القريبة من مدارسهم ملاذاً وملاجئ لهم خوفاً من قصف الطائرات لمدارسهم.

وأذكر في هذه الأثناء، وخلال توقف الرحلات إلى الغيضة حين كنت في عدن وأردت العودة إلى الغيضة، كانت هناك مجموعة من الناقلات التي تقل المعدات إليها.