بقلم : الشيخ حميد المبارك
لا يمكن في المنظور الشيعي الفصل بين حركة الامام الحسين (ع) وبين مقام الامامة والاقتداء: "وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ .." (الأنبياء ٧٣). فإنه لو فُصِل سلوك الامام عن إمكان الاقتداء به وفق ملاكات ظاهرة وواضحة للزم تفريغ الامامة عن معناها وجوهرها.
وبناء على هذا المعنى، يجب أن تكون سياقات حركة الامام من المدينة إلى مكة ومنها إلى العراق منسجمة مع الملاكات العقلائية والشرعية، والتي هي مناط التبعية والاقتداء.
ولا يتعارض هذا مع افتراض علمه الواقعي بمقتله في آخر المطاف، فإن العلم الحاصل بالطرق فوق الطبيعية، لا يُسقط التكليف الناشئ عن المُعطيات الطبيعية.
ويمكن الاستشهاد لذلك بقصة موسى والعبد الصالح (الكهف: ٦٠-٨٢). فإن فعل العبد الصالح صحيح، لكن من حيث علمه الباطني وليس من حيث كونه إماماً ظاهراً للناس، كما إن إنكار موسى عليه صحيح أيضاً، لكن لا من حيث علمه الباطني بل من حيث ضوابط التكليف الظاهري والتي هي قوام إمامته في الناس.
وهذان مساران لا يتداخلان ولا يتعارضان، فحتى لو افترض علم موسى بصحة سلوك العبد الصالح في نفسه، فهو مأمور بالانكار عليه من جهة كونه إماماً ومحل اقتداء، إذ لابد أن يكون فعله وتقريره مبنياً على الضوابط والمناطات الظاهرة في سياق التكليف العام.
إذن، لابد أن يكون تصورنا لحركة الامام (ع) على وفق ضابطة الاقتداء والتكليف العام، والتي تقضي بملاحظة موازين القوى في قصد التغيير خارجاً. وهذا التصور ممكن من خلال المقولات التاريخية المرتبطة بالنهضة الحسينية، والتي سوف أستشهد ببعضها لا على سبيل الاستدلال، وإنما كأنموذج على إمكان قراءة حركة الامام وفق الضابطة المتقدمة:
1- قول الامام لمعاوية: "وما أريد لك حرباً ولا عليك خلافاً، وأيم الله إني لخائف لله في ترك ذلك، وما أظن الله راضيا بترك ذلك ..". انتهى. وهو شاهد أن الامام (ع) يراعي الظروف الواقعية وموازنة المصالح والمفاسد. وشدة التعبير في كلامه عليه السلام لبيان أن تركه الخروج على معاوية هو من باب الاضطرار وعدم مؤاتية الظروف، ووجوب دفع المفسدة الأشد.
2- توثُّق الامام من وضع الكوفة: وقد بعثت إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أنْ يكتب إليَّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإنْ كتب أنّه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قَدِمت عليَّ به رُسُلكم وقرأتُ في كتبكم، أقدِم عليكم وشيكاً إنْ شاء الله. انتهى.
3- رسالة مسلم من الكوفة: الرائد لا يكذب أهله، وقد بايعني من أهل الكوفة ثمانية عشر ألفاً، فعجّل الإقبال حين يأتيك كتابي. وكان ذلك قبل مقتل مسلم بسبع وعشرين ليلة.
4- جواب الامام لأهل الكوفة: أما بعد: فإن كتاب مسلم بن عقيل جاءني يخبر فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم على نصرنا والطلب بحقنا، فسألت الله أن يحسن لنا الصنيع، وأن يثيبكم على ذلك أعظم الأجر، وقد شخصتُ إليكم من مكّة يوم الثلاثاء لثمان مضين من ذي الحِجّة، فإذا قدم عليكم رسولي، فانكمشوا في أمركم ، فإنّي قادم في أيّامي هذه.
5- همّ الامام بالانصراف عند لقاء الحُر الرّياحي: أيّها النّاس إنّكم إنْ تتّقوا الله وتعرفوا الحقّ لأهله يكن أرضى لله، ونحن أهل بيت محمّد (ص) أولى بولاية هذا الأمر من هؤلاء المدّعين ما ليس لهم والسائرين بالجور والعدوان، وإنْ أبَيتم إلاّ الكراهيّة لنا والجهل بحقّنا، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم، انصرفتُ عنكم. انتهى.
6- ظهور معطى جديد: وقد ظهر إلى العلن سوء نية سوء ابن زياد وحقده الشديد على آل علي الذي رفض استلحاق معاوية لوالده زياد. وكان واضحاً عزم ابن زياد على إذلال الحسين والتنكيل به، بالرغم من إعلام الامام استعداده الرجوع. وقد ظهر ذلك في مكاتباته:
ا) في كتابه لعمر بن سعد: أمّا بعد، فاعرض على الحسين وأصحابه البيعة ليزيد، فإنْ فعل رأينا رأينا. انتهى. فلاحظ ما يبطنه قول ابن زياد: فإن فعل، أي بايع يزيد، رأيْنا رأيَنا!.
ب) وفي كتابه لعمر بن سعد أيضاً: أمّا بعد، إنّي لَم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه، ولا لتطاوله، ولا لتمنيه السّلامة، ولا لتكون له عندي شفيعاً. اُنظر فإنْ نزل حسين وأصحابه على حكمي، فابعث بهم إليَّ سِلماً. وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم؛ فإنّهم لذلك مستحقّون، فإنْ قُتل حسين فأوطئ الخيل صدره وظهره، ولستُ أرى أنّه يضرّ بعد الموت، ولكن على قول قلته: لو قتلتُه لفعلتُ هذا به!. انتهى. فقد ظهر جلّياً حقده وعزمه على إذلال الحسين والتنكيل به حيّاً أو ميّتاً.
ج) وفي كتابه إلى الامام: أمّا بعد، يا حسين فقد بلغني نزولك كربلاء، وقد كتب إليّ أمير المؤمنين يزيد أنْ لا أتوسّد الوثير، ولا أشبع من الخمير أو اُلحقك باللطيف الخبير، أو تنزل على حكمي وحكم يزيد. انتهى.
وقوله: أو تنزل على حكمي وحكم يزيد، هو مصطلح سياسي يعني استسلام الامام لابن زياد، وأن له أن يحكم فيه مايشاء. وبناء عليه، لم تعُد بيعة الحسين بيعة وإنما استسلاماً، وأن للطرف أن يقتله وأن يضعه تحت الاذلال حتى لو هادن أو بايع.
خاتمة: مع إنه لابد من ملاحظة المسار الطبيعي لأحداث عاشوراء، ولكن لاينبغي إغفال الآثار المعنوية لتلك الأحداث، بل يجب ملاحظة الأمرين معاً. فالذين يقتصرون على محض القراءة التاريخية للأحداث يقعون في خطر الوهم بهزيمة الإمام.
والذين يُغفلون التسلسل الطبيعي لتلك الأحداث وسيَر أئمة أهل البيت بعدها، يقعون في المحاكاة الخاطئة للنهضة، فيرفعون شعارها لكنهم يغفلون عن دوافعها ومنطلقاتها الحقيقية.
وأخيراً: مما لا ريب فيه أن تلك النهضة ابتنت على التقوى الخالصة، وتقديم إرادة الله على إيثار العافية. ولذلك كان لها ما نشاهده من الأثر العظيم على النفوس والقلوب، ليس لدى المسلمين فقط، بل لكل من قرأ تلك السيرة وتأمل في رسائلها. وهذا نصر عظيم ومستدام يفوق النصر العسكري الذي قد تخبو آثاره بعد حين، ".. أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ..". (المجادلة ٢٢).