DELMON POST LOGO

قاسم حداد رمز للإبداع الوطني.. ويستحق المزيد من التقدير والتكريم

بقلم : عبد النبي الشعلة

لا أدري إن كان الصديق الأخ الشاعر الأديب تقي البحارنة يتذكر أنني قرأت عليه في إحدى مكالماتنا الهاتفية في ثمانينيات القرن الماضي، لأخذ رأيه، أبياتا قليلة نظمتها في أول وآخر محاولة لي لاقتحام ميدان الشعر، وبعد سماعه تلك الأبيات، قال إن هناك العديد من المدارس الشعرية، وهناك الشعر المقفى والشعر الحر والنبطي والعمودي وغيره؛ ولكل منها أحكامه وضوابطه، وأوزانه وأثقاله، وتفعيلاته وبحوره وبراريه، وما شابه من المعايير والمقاييس، وربما لا يزال ثمة مجال لابتكار مدارس أخرى جديدة، ثم انتقل بالحديث إلى موضوع آخر متعلق بغرفة تجارة وصناعة البحرين.

لقد فهمت بكل وضوح ما كان يقصده أبو أسامة؛ ولم أحاول مرة أخرى كتابة سطر واحد من الشعر، لكنني بقيت متعلقًا ومحبًا ومتذوقًا للشعر، معجبا بالشعراء، أسعى إلى اقتناء دواوينهم وأحرص على قراءة أي أبيات أو قصائد تصل إلى يدي.

والبحرين تزهو وتزخر بثروة شعرية وافرة متنوعة بمختلف تلاوين الشعر ومدارسه وتجلياته، ويمتد عطاء البحرين ومساهماتها في ميدان الشعر العربي إلى أعماق العصر الجاهلي في شخص الشاعر البحريني المعروف طرفة بن العبد، الذي ولد في قرية المالكية، وهو من بين شعراء الطبقة الأولى وشعراء المعلقات؛ ومن أشهر معلقاته قصيدة: سائلوا عنا الذي يعرفنا، قالها مفتخرًا بيوم “تحلاق اللمم” الذي انتصرت فيه بكر على تغلب في حرب البسوس، منها هذه الأبيات:

نَزَعُ الجاهِلَ في مَجلِسِنا.. فَتَرى المَجلِسَ فينا كَالحَرَم

وَتَفَرَّعنا مِنِ اِبنَي وائِلٍ.. هامَةَ العِزِّ وَخُرطومَ الكَرَم

مِن بَني بَكرٍ إِذا ما نُسِبوا.. وَبَني تَغلِبَ ضَرّابي البُهَم

‎وفي خبر أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراث الخبر تمثل ببيت طرفة.

‎ سَتُبدي لَكَ الأَيّامُ ما كُنتَ جاهِلاً.. وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تُزَوِّدِ

‎ واستمر عطاء البحرين ومساهماتها الشعرية في التدفق مع تعاقب السنين والقرون والأجيال إلى أن وصلنا إلى القرن العشرين ومشارف القرن الواحد والعشرين الميلادي لنرى الساحة الشعرية البحرينية مكتظة بالعشرات من فطاحل الشعراء يتعاقبون على اعتلاء قمة الشعر البحريني، يأتي في مقدمتهم من بين من اختارهم الله إلى جواره إبراهيم العريض وعبدالرحمن المعاودة وعبدالله الزايد والشيخ أحمد بن محمد آل خليفة وعبدالرحمن رفيع والملا عطية بن علي الجمري والشيخ عيسى بن راشد آل خليفة وغيرهم ممن لا يقلون عنهم شأنًا ومقامًا ولكن لا يسع المجال لذكرهم.

‎ وظل الأحياء منهم يواصلون مسيرة العطاء في مختلف الحقب وحتى اليوم؛ منهم على سبيل المثال لا الحصر قاسم حداد وعلوي الهاشمي وتقي محمد البحارنة وإبراهيم بوهندي وعلي عبدالله خليفة وحسن سلمان كمال ومحمد حسن كمال الدين ومحمد الحلواجي وعبدالله منصور وغيرهم.

وأود أن أشير في هذه الوقفة بشكل خاص إلى ظاهرة قاسم حداد العصامية؛ الذي أعتبره بكل صدق قامة فنية شامخة ورمزا بارزا للإبداع الوطني في مختلف المجالات الأدبية والفنية في أيامنا هذه.

ومثل الكثير من النوابغ والفنانين والمفكرين فقد تخطى قاسم حداد الحاجة إلى التعليم الأكاديمي المتقدم واكتفى، راغبًا أو صاغرًا بالتعليم حتى السنة الثانية من المرحلة الثانوية فقط، وانتقل بعدها إلى مرحلة التعلم والتطوير الذاتي بتكثيف القراءة والاطلاع لسبع سنوات متتالية ينهل فيها من الآداب والمعارف بين كتب ورفوف المكتبة العامة عندما التحق بها كموظف في العام 1968 بما أهله للانتقال بعدها للعمل في إدارة الثقافة والفنون بوزارة الإعلام.

قاسم حداد هو أيضًا أحد مؤسسي أسرة الأدباء والكتاب البحرينية، وتولى رئاسة تحرير “مجلة كلمات” التي صدرت في العام 1987، وكان عضوا مؤسسًا في فرقة مسرح أوال التي أسست في العام 1970.

إن ما استوقفني في هذا المقال أمام هذا الرمز اللامع الجلسة الحوارية التي نظمها الأسبوع الماضي مركز كانو الثقافي لتسليط الضوء على علاقات قاسم حداد وخصائصه الإنسانية والعاطفية، وعلى تميزه في إنجاز الأعمال المشتركة مع غيره من الأدباء والفنانين، وهو تميز حققه حداد على الرغم من حساسيته وصعوبته بسبب النزعات الطبيعية الناتجة عن تباين الأمزجة والأهواء والاتجاهات بين كل فنان وآخر وبين كل أديب وآخر، وإن أي أديب أو فنان يتمكن من ترويض جماح هذه النزعات والتغلب عليها لا بد أن يكون إنسانًا متحليًا بمكارم الإيثار والأريحية، قاسم حداد هو واحد منهم بشهادة كل من يعرفه عن قرب وكل من حضر وشارك في الجلسة الحوارية.

حضر الجلسة وتحدث فيها وشارك في النقاش عدد من مثقفي وأدباء البحرين، ومن أصدقاء وأقرباء قاسم حداد؛ كلهم شهدوا وأشادوا بمكارمه، وخصاله الإنسانية الحميدة، وعلاقاته الحميمة بأصدقائه وأفراد أسرته، وبقدراته ومهاراته الفنية والأدبية المتميزة، وما حققه من إنجازات في ميادين الشعر والأدب والثقافة حازت على اهتمام وتقدير وتكريم مختلف الهيئات الخارجية المتخصصة والمرموقة.

ولم أكن من بين الحاضرين أو المشاركين في الجلسة، لكنني سمعت وقرأت عما طرح فيها من آراء وما دار فيها من نقاش، والذي أود أن أضيفه هو أن قاسم حداد يستحق أكثر بكثير مما قيل فيه وعنه في الجلسة وفي كل ما قبلها من جلسات وندوات ولقاءات، أقول ذلك وأنا لا تربطني به سوى مقتضيات وأصول الكياسة وواجب التحية والاحترام المتبادل عند أي مناسبة ألتقيه فيها، وهي مناسبات نادرة على كل حال، أي لا تربطني به صداقة حميمة أو صلة قرابة متينة تؤثر على رأيي فيه، لكن الحق والواجب يفرضان ويحتمان عليَّ وعلى كل مخلص أمين أن يعتز ويفخر ويتباهى به وبغيره من أعلام العطاء والإنجاز في وطننا الغالي، وأن يضم صوته إلى الأصوات التي تلتمس من قيادتنا الحكيمة وحكومتنا الموقرة أن تتبنى المزيد من خطوات وبرامج ومبادرات التقدير والتكريم لهذه الوجوه والأعلام المعطاءة؛ فالشعوب والأمم الحية الواعية تعتز وتقدر وتحتفي وتكرم رجالها وقاماتها ورموزها وأعلامها بمختلف طرق وأوجه التقدير والتكريم المعروفة؛ فعطاء هؤلاء الرجال والأعلام وإنجازاتهم تشكل قواعد وأعمدة ومكونات حضارتنا وثقافتنا وتاريخنا وتراثنا وهويتنا الوطنية التي نفخر بها، إلى جانب أن الاعتزاز بهم وتقديرهم وتكريمهم ستقرع الأجراس التي تستنهض همم الآخرين، وتحفز الناشئة والشباب وأجيال المستقبل على العطاء، وتساهم في ترسيخ قيم الوطنية والانتماء والولاء.