DELMON POST LOGO

الشعائر الحسينية في منظور الغايات

بقلم : الشيخ حميد المبارك

في ذكرى عاشوراء، يمكن النظر إلى النهضة الحسينية من جهات عديدة، ومن ذلك النظر إلى الجوانب الأخلاقية في شخصية الامام الحسين (ع). ومن أمثلة ذلك:

١- الانصاف في عدم تحميل الآخرين مسؤولية اختياره للطريق: "فقام الحسين (ع) في أصحابه خطيباً فقال: أللهم إني لا أعرف أهل بيت أبر ولا أزكى ولا أطهر من أهل بيتي، ولا أصحاباً هم خير من أصحابي، وقد نزل بي ما قد ترون وأنتم في حل من بيعتي، ليست لي في أعناقكم بيعة، ولا لي عليكم ذمة، وهذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا وتفرقوا في سواده فإن القوم إنما يطلبوني، ولو ظفروا بي لذهلوا عن طلب غيري" (أمالي الصدوق). فهذا أنموذج أخلاقي رفيع في إخلاء مسؤولية أصحابه تجاه نصرته وعدم تحميلهم تبعات الطريق، في حال أنه كان في أشد الحاجة إلى النصير.

٢- التواضع في الاستماع إلى النصيحة: "لما سار الإمام الحسين (ع) إلى مكة استقبله عبد الله بن مطيع العدوي، فقال: أين تريد أبا عبد الله جعلني الله فداك؟! قال: أما في وقتي هذا أريد مكة، فإذا صرت إليها استخرتُ الله تعالى في أمري بعد ذلك.

فقال له عبد الله بن مطيع: خار الله لك يا ابن بنت رسول الله فيما قد عزمتَ عليه، غير أني أشير عليك بمشورة فاقبلها مني.

فقال له الحسين: "وما هي يا ابن مطيع"؟

قال: إذا أتيتَ مكة فاحذر أن يغرّك أهل الكوفة، فيها قُتل أبوك وأخوك بطعنة طعنوه كادت أن تأتي على نفسه، فالزم الحرم، فأنت سيد العرب في دهرك هذا، فوالله لئن هلكتَ ليهلكن أهل بيتك بهلاكك، والسلام.

فودعه الحسين ودعا له بخير" (موقع المكتبة الشيعية، موسوعة كلمات الإمام الحسين، لجنة الحديث في معهد باقر العلوم).

وفي خبر آخر عن عمر عمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي: "لما قدمتْ كتبُ أهل العراق إلى الحسين (ع) تهيأ للمسير إلى العراق، أتيتُه فدخلت عليه وهو بمكة، فحمدت الله وأثنيت عليه ثم قلت: أما بعد، فاني أتيتك يا ابن عم لحاجة أريد ذكرها لك نصيحة، فإن كنت ترى أنك تستنصحني، وإلا كففتُ عما أريد أن أقول.

فقال الحسين : " قل فوالله ما أظنك بسيء الرأي، ولا هو للقبيح من الأمر والفعل.

قلتُ له : إنه قد بلغني أنك تريد المسير إلى العراق وإني مشفق عليك من مسيرك، إنك تأتي بلداً فيه عماله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال، وإنما الناس عبيد لهذا الدرهم والدينار،

فقال الحسين: جزاك الله خيرا يا ابن عم، فقد والله علمتُ أنك مشيتَ بنصح وتكلمتَ بعقل، ومهما يُقضَ من أمر يكن، أخذتُ برأيك أو تركتُه، فأنت عندي أحمدُ مشير وأنصحُ ناصح" (المكتبة الشيعية، كتاب الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي، ج ٥، الصفحة ٦٤).

وهذا أنموذج في التواضع وإعطاء الناصح حق النُّصح، مهما كان. وقد كان من الأمور التي عاب بها الآخرون على النبي (ص) استماعه لمن يتحدث مهما كان : "وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ .." (التوبة ٦١). مع إن ذلك شاهد تواضعه وخُلُقه العظيم (القلم ٤).

والحكماء الحقيقيون لا يرون نقصاً في الاستماع إلى لآخرين، لكنهم يعرضون ما يسمعون على موازين العقل والشّرع: "الَّذِينَ يَسْتَمِعونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنهُ، أُوْلَئِك الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ، وَ أُوْلَئِك هُمْ أُوْلُوا الأَلباب" (الزُّمَر ١٨).

ومن هنا نأتي إلى أهمية المضمون الأخلاقي القِيمي في الدِّين: "جاء رجل إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) من بين يديه، فقال: يا رسول الله ما الدين؟ فقال: حسن الخلق. ثم أتاه عن يمينه، فقال: ما الدين؟ فقال: حسن الخلق. ثم أتاه من قبل شماله، فقال: ما الدين؟ فقال: حسن الخلق. ثم أتاه من ورائه، فقال: ما الدين؟ فالتفت إليه وقال: أما تفقه؟  الدين هو أن لا تغضب" (موقع المكتبة الشيعية، ميزان الحكمة، ١١٠٤).  

وليس المقصود في الحديث إغفال العلاقة بالله تعالى في تعريف الدين، وإنما هو في صدد بيان الثمرة المترتبة على تلك المعرفة.

فالعلاقة بينهما طولية: أصل الدين هو معرفة الله، وثماره تهذيب النفس وحسن الخُلق. ولأن هذا هو الأصل، فإن جميع الطقوس والشعائر تنتهي إليه وإلى ثماره.

ولهذا فقد دَرَجتْ السياقات القرآنية على اقتران الأحكام وقواعد السلوك ببيان غاياتها. فليست العبادات مطلوبة إلا من حيث كونها أدوات لتغيير الفكر والقلب: "الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ" (الرعد ٢٨)، وبالتالي تهذيب السلوك: "اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ .." (العنكبوت ٤٥).

وليست الشعائر عموماً والحسينية خصوصاً استثناء من هذا السياق، بل هي طرق وأدوات تذكير وتأكيد على مضامين حق الله وحق الناس، والتي هي متجسدة في شخصية وسلوك النبي والامام.

ويمكننا تصور بُعد آخر  في ذات الاتجاه، وهو ترغيب الآخرين تجاه تلك المضامين: "كونوا دعاة لنا بغير ألسنتكم" (ميزان الحكمة، ٤١٤٣). وقد يكون هذا المعنى أحد المداخل لفهم قوله تعالى: "وكذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا .." (البقرة ١٤٣). وحيث إن الوسطية هي تناسُب الفكرِ والسلوك مع الغاية المنظورة، فهي تثمر تعميق الغاية في النفوس وتجلّيها في السلوك، فتكون شهادة واضحة أمام الناس وحجة عليهم.

والشعائر ليست استثناء من هذه القاعدة العامة، فلا ينبغي النظر إليها من زاوية تعبدية محضة دون التوقف أمام غاياتها التي هي منشأ قيمتها الأخلاقية والدينية. ولأنه لابد أن تتناسب الوسيلة مع الغاية، فمن الطبيعي أن تكون الشعائر خاضعة كيفية وكمية للغايات القِيمية. ولأن الغايات ثابتة والوسائل متغيرة، فلا مانع أن تتجدد الوسائل وتتطور بحسب الموقف والزمان والمكان. والغاية هي تأكيد المعنى القِيمي في نفوس المشاركين، ومن ثَمّ إيصال رسالة بناءة لغيرهم. وبتعبير آخر: تطوير السلوك بالنسبة إلى من هم في الداخل، والشهادة لصالح الطريق بالنسبة لمن هم في الخارج: ".. لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا .." حيث إن النبي (ص) هو أنموذج الاعتدال ومراقبة الغايات في العبادات وسائر السلوكيات.

وختاماً، لابد من التنبيه على أمرين:

١- إن ترغيب الآخرين تجاه الطريق لا يعني بالضرورة إقناعهم، فإن الذين يختلفون معك في المنهج قد لا يفهمون تلك المظاهر الدينية أو المذهبية بنحو عميق. ولذا فقد تتحقق الغاية بتحفيز ذلك الآخر المختلف على التوقف والسؤال.

٢- إن حصول الأخطاء متوقع في الممارسات الشعائرية العامة، فإن الناس على مراتب ودرجات في الفهم وفي التطبيق. وهذا لا يجرُّ إلى تخطئة الأصل، فإنه يوجد من يُبطل صدقاته بالمن والأذى ويُنفق أمواله رئاء الناس (البقرة ٢٦٤)، فهل يُترَك الانفاق؟ ويوجد من يبني المساجد ضراراً (التوبة ١٠٧)، فهل يُترك بناء المساجد؟ بل الطريق العقلاني هو محاولة التقويم بالتي هي أحسن، فإنه لو تُركت الشعائر والسنن لمجرد وقوع الأخطاء لم تقم لشعيرة قائمة: عن زرارة: قال: حضر أبو جعفر (ع) جنازة رجل من قريش وأنا معه وكان فيها عطاء، فصرختْ صارخةٌ، فقال عطاء: لَتسكن أو لنَرجعن، قال: فلم تسكت فرجع عطاء، قال: فقلت لأبي جعفر: إن عطاء قد رجع، قال: ولم؟ قلت: صرخت هذه الصارخة، فقال لها: لتسكتن أو لنرجعن، فلم تسكت فرجع، فقال: امضِ، فلو أنا إذا رأينا شيئاً من الباطل مع الحق تركنا له الحق لم نقض حق مسلم .." (وسائل الشيعة، أبواب تشييع الجنازة).