هل الدولة الصفوية ساهمت في ترسيخ مسألة النياحة على الإمام الحسين (ع)، وجعلها من أهم مظاهر التشيّع؟
بقلم/ د. محمد حميد السلمان
أمامنا سؤال الذي مازال يبحث عن إجابة شافية وعلمية خالصة: هل الدولة الصفوية ساهمت في ترسيخ مسألة النياحة على الإمام الحسين (ع)، وجعلها من أهم مظاهر التشيّع؟ وأن الفرقة الشيعية كانت موجودة فقط قُبيل أيام الدولة الفاطمية وليس قبلها، وأنهم كانوا يقومون بمراسيم إحياء ذكرى الإمام الحسين (ع) في الخفاء، قبل ظهورها على العلن في مصر. وبالتالي فإن الدولة الفاطمية هي من تسببت في بروز شوكة هذه الفرقة للملأ وممارسة شعائر عاشوراء بهذا الشكل الذي نراه اليوم. إلا أن كل هذا الكلام مجرد افتراض شخصي من أشخاص محددين يحتاج تدليل ودليل واقعي!!
ومداخلة مع هذه الافتراضات نقول، أن عدم وجود مباني مُخصصة للحُسينيات، لم يتم حتى القرن الثامن عشر الميلادي؛ لكن لا يعني هذا، كما كتبنا أكثر من مرة، بأن مجالس الندب والنياحة على مأساة كربلاء التي وقعت عام 61 من الهجرة النبوية الشريفة؛ (بين 9-10 أكتوبر عام 680م)، لم تكن موجودة أساساً قبل تأسيس الدولة الفاطمية، والأدلة على ذلك عديدة لا مجال لذكرها هنا الآن.
كان لابد من هذه المقدمة البسيطة لهذا الأمر قبل الدخول في صلب الموضوع، الذي سيقتصر على وقفة سريعة أمام بعض الحُسينيات والمأتم في منطقة توبلي القديمة والجديدة، التي كانت تضم القرى البائدة منها أيضاً، مثل "كتكان والمرَّي".
بدايةً لابد من الإشارة إلى أن حدود "توبلي" القديمة لم تكن كما هي اليوم.
فقد وصفها الفهرس الجغرافي لـمؤلفه جون گوردن لوريمر ( (John Gordon Lorimer الذي أشتُهر باسم (دليل الخليج) في العقد الأول من القرن العشرين؛ واسمه في الأصل هو: (مُعجم، أو دليل الخليج وعُمان ووسط شبه الجزيرة العربية)، وقد تم الانتهاء تماماً من تدوينه عام 1908م. وللعلم فهو موسوعة تاريخية وجغرافية وإحصائية، مكونة من 14 جزءاً باللغة الإنجليزية، وكان من إصدار حكومة المستعمَرة البريطانية في الهند. وأعتنى بمنطقة الخليج العربي والجزيرة العربية والعراق، لهدف الاستعمال البريطاني الرسمي، أو كدليل سهل يُمكَّن موظفي الدولة ودبلوماسييها، بل وجواسيسها المَعنيين بمنطقة الخليج؛ الرجوع إليه للحصول على معلومات مهمة جداً ولازمة للعمل في تلك المنطقة. ولهذا السبب بقيت الموسوعة سرية المحتوى ولم تظهر للعَلن حتى عام 1970، حين صدرت ترجمتان منها باللغة العربية، إحداهما في قطر، والأخرى في عُمان.
عموماً، في القسم الجغرافي لهذه الموسوعة، وفي الجزء الأول منها، يقول (لوريمر): "توبلي" تقع على بُعد 4,5 ميلاً شمال غرب الرفاع الشرقي، وبنصف ميل من خور الكاب. وأن بها فقط 30 كوخاً من البوص [يقصد في مطلع القرن العشرين]، لفقراء البحارنة الذين يعملون في زراعة النخيل. بينما يقول عنها الشيخ إبراهيم المبارك، في كتابه الموسوم بـ (حاضر البحرين) تحقيق د. وسام السبع، الصادر عام 2018؛ أن النسبة إليها "توبلاني"، تأتي على خلاف القياس. وللعلم كانت "توبلي" تقع الى داخل المنطقة بعد حزام النخيل الضخم الذي اختفى الآن. ويوجد بها، أي "توبلي"، عفواً، 22 حماراً، وعدد 4 رؤوس من الماشية (يُقصد بها أبقار عادةً، لمنتجات الألبان)، وعدد 50 شحرة رُمان، و8150 نخلة. بينما يذكر محمد علي التاجر، بنفس المحقق، الصادر عام 2017م، أنه جنوب شرق السهلة "الحدرية"؛ يكون مقطع "توبلي"، وهو خليج داخل في البرّ، وجنوبي المقطع هذا تقع قرية "توبلي". وهي قريبة من الساحل الشرقي. و"توبلي" قرية كبيرة ذات مياه غزيرة وبساتين نضيرة ونخيل باسقة كثيرة. ويعتقد التاجر، بأنها و"البلاد القديم"؛ من مواطن الفينيقيين الأول قبل عصور التاريخ. وربما يكون اسم "توبلي" مُحرفاً عن "توﯧولي"، وهو باللغة الفينيقية القديمة يعني: (القريتين أو المدينتين)، إذ لم نجد لبلاد القديم اسماً خاصاً غير هذه النكرة، مع أنها قديمة وآثارها عظيمة، ولا تُعرف بغير اسم بلاد القديم، فيغلب الظن أن اسم "توبلي" شامل الاثنين ومعناه المدينتين، والله أعلم. بينما يضع عبدالله سيف، في كتابه المأتم في البحرين، مأتم "توبلي" ضمن عنوان الفصل الثاني من كتابه "مأتم قرى مدينة عيسى"، مع أن القرية أسبق من المدينة في وجودها. ويضيف سيف، بأن بعض أهالي "توبلي" قرروا الاستقرار بها بعد أن استخدموها صيفاً "للكشتة" والراحة، وقِسمها المُستحدث، بقرب كراج سيارات (التويوتا) الآن؛ يُسمى بـ"توبلي" الجديدة! وكان يوجد في "توبلي" عيون ماء طبيعية مثل: عين القرائن، وعين الحمِسه، وعين المضربات، وعين شهيرة كبيرة، كما يقول الشيخ إبراهيم المبارك في كتابه، تُسمى عين السيد، وعين مزار، وعين الجوجب في الكورة، وعين الهبطه، عين لكصيبي (القُصيبي)، عين المندبيه، عين الطاووس، عين المالحه في قرية الجبيلات. وقد صحح لي الفنان أحمد شملوه بعض مواقع هذه العيون التي كما يبدو أنها اندثرت حالياً.
ويُقال، ولسنا متأكدين من هذا القول، أن عمر توبلي حوالي 500 سنة، وقبل ذلك كانت مجرد دواليب ونخيل وبحر، كما ذكرها الشاعر أبو جعفر الخطي، عام 1610 م تقريباً. وهو الشاعر أبو البحر شرف الدين جعفر بن محمد حسن بن علي بن ناصر بن عبد الامام، الشهير بالخطي البحراني الشني العبدي بن عبد القيس بن عدنان. وذلك في قصيدته المشهورة عن "سبيطية" البحر التي أراقت دمه عند "توبلي".
وهناك قول بأن ذلك كان عندما قفزت إلى قاربه من بحر "توبلي" وكان في طريقه بحراً إلى قرية سُكناه في قرية "أبو ابهام". بينما هناك قول آخر، يذكر بأن ذلك عندما خرج الشاعر للتنزه على سيف البحر مع ابنه إذ يقول الشاعر: شبلي معي والماء في أول الجزرِ، أي كان في وقت الجزر بين "مِرّي وتوبلي". هناك قفزت عليه سمكة من الماء من نوع (السبيطي) المندثر حالياً، وشجت جبينه. فنَضم الشاعر أبو البحر جعفر قصيدة يهجو فيها السمكة ويستنهض قومه "عبدالقيس"، بل وأولاد عمهم من بني بكر وتغلب أبناء وائل؛ ليساعدوه في الأخذ بثأره من السمكة! لأنها سببت له مشكلة في جسده، لا نريد أن نتبحر فيها الآن. يقول في شعره:
توجهت من مِرّى ضُحىً فكأنما توجهت من مِرّى إلى العَلقمِ المُرِّ
وضمن ما قاله كذلك:
فخيّل لي أن السماوات أطبقت عليّ وأبصرتُ الكواكبَ في الظهرِ
وفي آخر القصيدة يقول:
لعمرُ أبي الخطيّ إن بات ثاره لدى غير كفوءٍ وهو نادرةِ العصرِ
وللعلم أيضاً، ولو أننا اطلنا الحديث عنها؛ أن "توبلي" كانت تضم مزارع كبيرة تزود عموم البحرين، كغيرها، بأفضل أنواع الخضار، والرطب، بل وبعض الفواكه، من مزارع و "داليات" متعددة المُسميات. وأن مدخول "توبلي" السنوي لوحدها، بحسب الوثائق الإنجليزية والعربية، حوالي 7000 روبية في مطلع القرن العشرين، وضمانها 200 "جلة أو قلة تمر". وكان كبار التجار والوجهاء في القرية يعملون في تجارة رطب "السلوك".
أما القريتين البائدتين من قرى "توبلي" فهما: المِرّي، ويُقال، والعهدة على الراوي الملا محمد علي الناصري، أن أصلها يعود لرجل من بني مرّة، وخففت كلمة المرّي فحُذفت الألف واللام وبقيت مرّي هكذا. وكانت تقع قرب قري أخرى مندثرة هي "كتكان"، و"أبوعصاتين". وكانت ذات نخيل ومياه وفيرة دافقة وسكانها من الفلاحين البحارنة، كما يذكر الشيخ محمدعلي التاجر. وقبل عام 1618م، كانت قرية "مِرّي" موجوده ضمن "توبلي"، بناء على ما ذكره الشاعر أبو البحر جعفر الخطي:
وتوجهت من مِرّي ضُحىً فكأنما توجهت من مِرّي إلى العلقمِ المُرِّ
ويُذكر أنه حالياً في قرية "مقابه" توجد أسر من عائلة المِرّي.
قرية كَتَكان: وهي الثانية من قرى "توبلي" البائدة، ويعتقد عبدالله سيف، بأن كلمة"كتكان" أو "تكتكان" نسبة إلى رجل دين كبير يحمل هذا الاسم، ثم تحول الاسم بعد ذلك إلى "توبلي". وكما قال الشيخ إبراهيم المبارك في كتابه الموسوم بـ (حاضر البحرين)، هي خراب، وفيها مزار السيد هاشم التوبلاني، صاحب تفسير البرهان للقرآن الكريم. وهو السيد هاشم بن سليمان بن إسماعيل الحُسيني البحراني الكتكاني التوبلي، المُتوفى عام 1696م. ويُذكر أن هذه القرية، كانت مأهولة بالسكان وبها عشرون مسجداً، منها مسجد العلامة السيد هاشم، ومسجد "ماثنا" الذي، كما يقول الناصري، أنه من المساجد السبعة التي وضَع قِبلتها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في عهد حكومته. ويُضيف، التاجر، بأن "كتكان" من قرى "توبلي" وهي ذات نخيل وعيون جارية (يقصد الشروب والسيبان من العيون)، وأهلها فلاحون.
أما الآن فتضم "توبلي" كل من مناطق توبلي القديمة، وما يُسمى بـ"توبلي" الجديدة، أو"البر"، كما كانت تُعرف سابقا، وقرى: الجبيلات، الهجير، والكورة، ومنطقة خليج توبلي الكبيرة. أما جدعلي فهي خارج هذه المجموعة.
أما المأتم والحُسينيات في توبلي وضواحيها، وهي مربط الفرس هنا، فهي متعددة، أهمها: حُسينية أو مأتم توبلي الشرقي الرئيسي، كما يذكره عبدالله سيف. وكان يُسمى سابقاً مأتم السيد شبر، إذ كان السيد من أكابر وجهاء وتجار توبلي السابقين كما تدل على هذا تلك الوثيقة التي كُتبت في 27 من شهر شعبان لعام 1331هـ، (شهر يوليو عام 1913)، وهي بتوقيع السيد شبر بن السيد محمد يقول فيها: " أقول وأنا يا سيد شبر سيد محمد التوبلي، بأني قد بعت على الرجل المُكرم علي كاظم العجمي [هكذا وردت] 700 من "سلوك"، المن عن روبيتين ونصف [ربما المجموع 1750 روبية] واصل العماره وقد قبظت [هكذا كُتبت] من عنده عربون ثمانمائة روبية كيلا لا يخفى، والله خير شاهد ووكيل. جرا وحُرر وصحة على الأشهاد باليوم السابع والعشرين من شهر شعبان 1331".
والمهم، أن عائلة السيد شُبّر كانت تُقيم مجالس الخطابة على الإمام الحُسين عليه السلام في المساجد أو في بيوتها شتاءً، وفي أحد بساتين "توبلي" الغناء في خلال فصول الصيف، وتم تجديد بناء هذا المأتم حوالي ثلاث مرات حتى الآن. ويخرج من هذه الحُسينية موكب عزاء موحد لكل توبلي، ويشارك هذا الموكب في عزاء موكب مأتم أهالي مدينة عيسى، وعالي، والسنابس، في الأيام المحددة من شهر محرم.
أما مأتم توبلي الغربي، فله حكاية طويلة في التأسيس مع تاجر اللؤلؤ حسن مديفع من المنامة، إلا أن البناء الأول فيه تم عن طريق فزعة الأهالي... وللموضوع تتمة..