قُرِّر للطلاب أن يصيّفوا في ليبيا، وفعلا تم تجهيز الطلاب للسفر إلى عدن وكنت معهم
يواصل الكاتب العماني علي الكثيري سيرته منذ دخوله مدارس الثورة حتى تخرجه منها (1971-1980) ، هذه المرة يشرح تخرجه من الاعدادي والالتحاق بمدارس اليمن الثانوية ومن ثم سفره للعراق للعلاج.
وقد جلست في حدود الشهر في عدن، ثم أخطرتُ المكتب برغبتي في العودة إلى الغيضة، فجُهّز لي ما وعد من تذكرة سفر ومصروفات السفر ومصروفات الشهر وخطابات لإدارة المدرسة ومكتب الجبهة في الغيضة. وغادرت عدن إلى الغيضة، ومن المطار ذهبتُ مباشرة إلى المدرسة بسيارة المكتب التي وجدتُّها في المطار تستقبل أعضاء الجبهة القادمين من عدن. وعند وصولي إلى المدرسة ذهبت مباشرة إلى سرية بدر علي وهي السرية التي أرتاح للسكن فيها، ولاسمها مكانة في قلبي، فكنت أرتاح لكل شيء فيها نفسياً.
وفتحت غرفة مرشد السرية، ووضعت أمتعتي في الغرفة وكان الوقت عصراً قبيل المغرب، وذهبت أستطلع المدرسة وأسلم على من وجدته من الزملاء الطلاب. وجاء وقت العشاء وذهبت للميز لتناول وجبة العشاء مع الطلبة، وبعدها رجعت كالعادة وعدت إلى السرية، وعلى بهو السرية التقيت بالطلاب وتبادلنا أطراف الحديث وأخذنا أخبار بعضنا بعضا. وفي الليل قمت بزيارة للزملاء في سراياهم وخاصة السرايا المجاورة لسرية بدر علي، ثم عدت إلى غرفة المرشد وأغلقت على نفسي الباب من الداخل ونمت.
وفي الصباح الباكر ذهبت إلى سرية الإدارة لأعطيهم رسالة مكتب الجبهة في عدن، وعندما قرؤوها استغربوا الأمر لكوني طالبا غائبا عن المدرسة سنوات، وكل سنة يأتي لمدة شهر أو شهرين ويقدم الاختبار، ويختفي وما نسمع به إلا وقد سافر دولة. ويجب علينا الآن أن نقيده في الصف الثالث الإعدادي، بل نعامله كمناضل ونخصِّص له غرفة مرشد السرية، وله مطلق الحرية في الحركة وألّا يُقيَّد بنظام وقيود الطلاب النظاميين!
طبعا لم تكن الإدارة راضية عن الإجراء لأنه استثنائي ولم يعمل به من قبل، ولكن لم يكن أمامهم سوى التنفيذ والتسليم، وغاية ما كان منهم كان عبارة عن تمتمات عدم الرضا. ثم سألوني: وين سكنت عندما وصلت ليلة البارحة؟ قلت: في سرية بدر علي ونمت في غرفة المرشد، فضحكوا وقالوا: ما هي حكايتك مع غرفة المرشد كلما جئت من السفر تحتلّها! قلت وجدتها فارغة وليس فيها أحد، قالوا: إذن اذهب أنت الآن وسنوافيك بما يتوافق ووضعك الجديد رفيق علي.
وفي المساء استدعتني الإدارة وقالوا نحن بحثنا أمرك رفيق علي، وقلنا نستفيد من وضعك الجديد كمناضل وطالب سابق لك حضورك واحترام الجميع لك نتيجة لهدوئك وانضباطك، بالرغم من أن السنوات الأخيرة لم تعد كالسابق. ولكن نعزو ذلك إلى وضعك الصحي وما مررت به من أزمة نفسية نتيجة الصرع والنوبات التي صاحبت تلك الحالة. كل ذلك نقدره، ولكن نأسف فقط أنك كنت متفوقاً ومن الأوائل في المدرسة، وربما تكون الآن في المراحل الأخيرة من الثانوية لولا الغياب المتقطع لسنوات، ولكن خيرها في غيرها، والآن سوف نثبتك في غرفة مرشد سرية بدر علي وستكون مرشد السرية من الآن، وسوف نوكل إليك مهمة الإذاعة المدرسية والنشاط الثقافي للمدارس، ففي فترات حضورك المتقطع في الثلاث سنوات الماضية، كنت تبلي بلاء حسنا في النشاط الإذاعي، والآن أنت مقيَّد في الصف الثالث الإعدادي، ولا نستطيع إلزامك بالحضور بانتظام، لأنك أصبحت رفيقا في إدارة المدرسة بحسب تعليمات القيادة، ولدينا ثقة من تجارب سابقة بأنك سوف تنجح بتفوق متى ما قدمت الاختبار النهائي. قلت لهم قبلت المهمة، ولكنني أريد إعادة ترتيب غرفة المرشد، تنظيفا وتأثيثا. قالوا ستجدها غدا جاهزة وكل شيء فيها جديد، وسوف نحضر لك شولة وورق الشاي وسكر، فشكرت الإدارة وذهبت مع الطلاب لتناول العشاء، ولم أخبر أحداً بوضعي الجديد.
وعندما عدت من العشاء وجدت أحد الرفاق في الإدارة ينتظرني في سرية بدر علي، وقال: رفيق علي هذا مفتاح غرفة الإذاعة المدرسية وفيها ميكروفونات وستيريو كبير يحمل 12 بطارية، والبرنامج في الحالات العادية يبدأ من الصباح الباكر قبل الطابور الصباحي. ويبدأ بأغنية للثورة ثم فقرة صباحية تختارها من تعبيرك أو نقلك، وتكون هادفة وتصب في منهاج العمل الثوري. وبعد الإفطار وعند اصطفاف الطلاب للطابور الصباحي، تختم بنشيد ثوري حماسي وهنا ينتهي البرنامج. وفي الاستراحة المدرسية عملية فتح البث تكون بحسب الظرف أو ما تراه مناسبا ليُذاع، أما في المناسبات والفعاليات التي تقيمها المدرسة أو حدث يحتاج منا موقفا أو مشاركة أو دعما، فهذه ستكون مادتها استثنائية وفق نوع المناسبة وحاجتها.
تسلمت المفتاح وذهبت لغرفة المرشد، وأعددت ما سأقوله في الصباح عبر الإذاعة المدرسية، وكنت أريد أن أسجل سبقاً مفاجئاً للإدارة والطلاب. وفي الصباح الباكر فتحتُ ميكروفونات ومكبرات الصوت التي ينزعج منها الذين لا يحبون القيام مبكرا للدراسة، وفتحتُ نشيدا ثوريا وطنيا من أغاني الثورة:
لبيك سمحان المنادي نـحـن أبـطال الجـهـادِ
كــلنا حـــضر وبـــوادي ثــــورتـي ســتنتصــــر
عندها قام الطلاب على صوت النشيد الذي سُمعَ صداه في أرجاء الحرم المدرسي، وربَّما يسمعه من في مدينة الغيضة. وبعد النشيد قرأت خطابا صباحيا حماسيا يحث على العمل الثوري والمهام المستقبلية الملقاة على عاتق جيل الثورة الواعد، الذي سيتحمل المهام الوطنية للعمل الثوري، وغيرها من هذه الكلمات والشعارات التي نستخدمها في تحفيز الأجيال للنظر إلى العملية الثورية بمسؤولية ووضع عملية النضال الوطني نصب أعين الجيل القادم.
ومن هنا استمرَّ نشاطي الثقافي والإعلامي في المدرسة حيث وجدت ضالتي. وعلى الرغم من صغر سني توليت المجال الإعلامي المدرسي وإدارة المناشط الثقافية والأمسيات الثقافية التي نقيمها في المناسبات الوطنية لأعياد الثورة، مثل احتفالات 9 يونيو ذكرى انطلاق الثورة، ومناسبة تكريم الطلاب التي نقيمها في الأول من أبريل من كل عام؛ يوماً للطالب العماني، إذ أقرت قيادة الثورة اقتراحاً من إدارة المدرسة بأن يكون الأول من أبريل من كل عام هو يوم الطالب العماني.
ولكنني لم أدم طويلاً على هذا النشاط، فقد دب الخلاف بيني وبين بعض أفراد الإدارة التي ترى أنني لست مؤهلا لحمل المسؤولية وأنا في هذه السن، وأنه لا بد من مخاطبة القيادة بأن يكون الطالب المشرف على الإذاعة مجداً في التحصيل الدراسي، له ما للطلاب وعليه ما عليهم، أو ترى له مجالا آخر غير المدارس، وربما أجمعوا على أن يخاطبوا القيادة للنظر في ترحيلي إلى أهلي في ظفار. وفعلا أعدّوا خطابا إلى القيادة واستدعوني وقالوا سلّم هذا الخطاب للقيادة.
حملت الخطاب، لكنني على الطريق فتحت المظروف وقرأت المضمون، ووجدت أن إدارة المدرسة كتبت في الخطاب أن حامل الخطاب يعاني من حالة جنان (جنون) ويجب ترحيله إلى أهله في ظفار، فما كان مني إلا إعادة الظرف كما كان، وتسليمه للقيادة.
فذهبت إلى القيادة وكأن شيئا لم يكن، وسلمت الخطاب إلى عبد العزيز القاضي أمين عام الجبهة، وقرأ الخطاب وكان ينظر إلي باستغراب، فلم يرى عليّ أي علامات جنون، ثم سألني: هل تريد أن تعود إلى عمان وتلتحق بأهلك في ظفار؟ فقلت له: ليش أعود مثلا؟ قال: فقط أسألك إذا كانت لديك رغبة في العودة، قلت له: ونحن الآن وين؟ قال: في اليمن، قلت: إذن عندما أريد أن أعود لن آخذ الإذن منك من اليمن للعودة إلى وطني، قال: أنت ابن العايل؟ قلت: نعم، قال: تريد تروح عدن؟ قلت: نعم، قال: إذن سأكتب خطابا لمكتبنا هنا في الغيضة لتسهيل سفرك إلى عدن.
حملت خطاب الأمين العام إلى مكتب الغيضة ولم يكن بعيدا من المكان حيث يقع مكتب الأمين العام. وسلمت المكتب خطاب الأمين العام، وجهَّزَ لي أوراق سفري إلى عدن وتذكرتي. وقال: متى تريد أن تغادر إلى عدن؟ قلتُ: متى طائرة اليوم؟ قال: بعد ظهر اليوم.
قلت: إذا تتوفّر سيارة أريد أخذ أغراضي من المدرسة، فنادى أحد الرفاق وقال: أوصلوا علي للمدرسة ليأخذ أغراضه وأوصلوه للمطار بعد الظهر. عدنا بسيارة المكتب إلى المدرسة وأخذت حقيبتي وحزمت أغراضي وبندقيتي ومسدسي وركبت السيارة التي تنتظرني أمام سرية بدر علي.
وأتاني بعض الطلاب وقالوا: إلى أين؟ قلت: إلى عدن، حملت أغراضي داخل السيارة وقلت للرفيق: أريد أن أسلّم البندقية للمكتب إلى أن أعود، قال: حسنا. ووضعت المسدس في حقيبتي لأنني سأحمله معي وذخيرته الحية. وكان لا يزال هناك وقت على موعد الطائرة. مررنا بالمكتب وسلمت بندقية الكلاشنكوف كعهدة حتى أعود. وأوصلني الرفيق إلى المطار ونزلت قبل مجي الطائرة، وكان المكتب قد زوَّدني بخطاب بناء على تعليمات الأمين العام للجبهة. وانتظرت في مطار الغيضة المتواضع حيث لا جمارك ولا مبنى ما عدا بركسا وفيه شرطي أو رجل أمن يتأكد من تذكرتك قبل طلوع الطائرة. وصلت الطائرة، وتأكد من التذكرة وصعدنا، وكانت الرحلة تستغرق ساعتين لأن الطائرة ليست نفاثة وإنما بمحركات مراوح.
وعند وصولي إلى عدن سكنت كالعادة في بيت باهارون.. وفي الصباح ذهبت لمكتب الجبهة في عدن وسلَّمته خطاب مكتب الغيضة، وقلت لهم: عندما تقترب الامتحانات أريد أن أعود إلى الغيضة لأختبر امتحانات الإعدادية. قالوا: حسنا، هل تسلمت صرفياتك من مكتب الغيضة؟ قلت لهم: لا، قالوا: إذن اذهب للمالية في المكتب الآخر وتسلّم مصروفاتك لشهرين، وعدت إلى بيت باهارون وجلست تقريبا شهرين. ولما اقترب موعد الاختبارات عدتُ للمكتب في عدن ليحجز لي إلى الغيضة، فحجز لي المكتب لليوم التالي ظهراً، وسلَّمني مصروفات السفر وصرفيات للشهر القادم.
سافرت إلى الغيضة ومن المطار إلى المدرسة وسرية بدر علي، ووضعت حقيبتي في غرفة مرشد السرية، وذهبت العصر إلى غرفة الإذاعة، ووجدت أحد الطلاب في الغرفة وقال: «هلا علي زين جيت أنا ما أقدر أجلس هنا أريد أن ألعب الكرة». قلت له: «ما عليك لا تهتم للأمر، هل كل شيء صالح والبطاريات متوفرة»، قال: «كل شيء على ما يرام»، وذهب ليلعب الكرة وكنت أنا أقصد بهذا التصرف أن أتحدى الإدارة وأعرف أنها أقل من أن تتعرض لي ثانية، وفتحت الميكروفون وعلّيت مكبرات الصوت وفتحت لبيك يا سمحان المنادي وأعددت خطابا ثوريا. وألقيته قبل أن أذهب للعشاء قبل المغرب، وبعدها أغلقت البث وذهبت للعشاء. وكانت تلك رسالة إعلان عودتي للمدرسة منتصرا.
لخصت ما أريد تلخيصه من منهاج الثالث الإعدادي ووضعته في ملزمة ليسهل علي مذاكرته، وبقيت على نشاطي الإعلامي والإدارة لم أقابلها ولم تتحدث معي ولم تعترض طريقي في شيء قط. وجاء يوم الامتحان ، وأنهينا الاختبارات، وكان قد قُرِّر للطلاب أن يصيّفوا في ليبيا، وفعلا تم تجهيز الطلاب للسفر إلى عدن وكنت معهم، فقد حملتنا الطائرات إلى عدن، ونُقلنا إلى لحج وعسكرنا في مدرسة البروليتاريا التابعة لليمن الديموقراطي آنذاك، لفترة مؤقتة حتى تتم إجراءات سفرنا إلى طرابلس، وكانت عطلة العام الدراسي 1978.
وبينما نحن في المعسكر الصيفي المؤقت، استقللنا سيارة المدرسة لنُحضر بعض النواقص للمطبخ. وفي طريقنا إلى عدن من لحج وجدنا نقاط تفتيش وجيشا وحراسات مشددة على غير العادة ومنعونا من الدخول، ولكن عرّفنا بأنفسنا وأننا نريد مؤنا لطلاب الجبهة المعسكرين في مدرسة البروليتاريا بلحج. مررنا وتجاوبت معنا النقطة العسكرية الأولى والثانية للمبرر نفسه، ولم نكن نعرف ماذا جرى. وعندما وصلنا إلى نقطة الشيخ عثمان، كان الأمر أكثر صرامة، ولم يكن شيء ليشفع لأحد بالعبور، وانتظرنا ما يقارب الساعة على أمل أن تنفرج الأمور، وكل مرة يأتي ضابط نكلمه، وأخيرا أخبرونا أن لديهم تعميما مشددا بأن الذي داخل عدن ما يخرج منها، والذي خارجها ما يدخلها، ولو جاء رئيس الجمهورية ما يدخل ولا يخرج.
عندها قلنا ما معنا إلا العودة إلى المعسكر الطلابي، فربما حدث أمر جلل داخل عدن لم يتضح لأحد ما هو إلى الآن. وعدنا أدراجنا إلى المعسكر في لحج، وأخبرنا الرفاق أن هناك حالة طوارئ لا يستطيع أحد الدخول أو الخروج من عدن، ولا أحد يعرف ما يحدث داخل عدن، إذ لا إذاعة فَتَحت ولا خبرَ تسرَّب من محطات إذاعية خارجية. ترقب الجميع إذاعة عدن فربما يصدر بيان عمّا يجري في الداخل. وبقينا في معسكرنا في صورة ترقب وذهول لما يجري والصمت المطبق يخيّم على كل شيء. وبما أن معسكرنا في منطقة بعيدة عن عدن، فإننا لا نستطيع السماع إذا ما كانت هناك حرب أو تبادل إطلاق نار.
وانتهى هذا البيان المقتضب الذي وقع كالصاعقة على الجميع، فلم يكن أحد ليصدق الأمر، وعاد بث النشيد «رددي أيتها الدنيا نشيدي». وهكذا وطيلة ثلاثة أيام لا حراك ولا صوت إلا البيان ورددي أيتها الدنيا نشيدي.
بقينا في المعسكر الصيفي حتى تأتي التعليمات بالمغادرة إلى ليبيا، وكان التأخير بسبب الأحداث المؤلمة التي حدثت في عدن. وبعد أسبوعين من الأحداث غادرنا مطار عدن إلى طرابلس الغرب العاصمة الليبية. وقد نقلتنا طائرتان من عدن نتيجةً لكثرة عدد الطلاب الذين سيصيّفون في ليبيا. وفي الطائرة كنت أنا الخبير بحكم سفرياتي السابقة. وكان الكل يسألني، هذا أيش، وأيش أسوي في هذا؟ وأنا أتنقل من كرسي إلى آخر داخل الطائرة أشرح لهذا وأكلم ذاك، كنت أستمتع بالأمر وأنا خبير السفر بينهم.
وصلنا إلى ليبيا وحُجز لنا سكن داخلي في إحدى الكليات. كان نظيفا ومرتبا وأنيقا، فيه دور سكن يسع الجميع، ومطعم لجميع الوجبات خمسة نجوم، وصالات لجميع الألعاب الرياضية ودور سينما، ومسرح وقاعات لإقامة المناسبات، وقاعة كبير لمشاهدة التلفزيون، فالمكان كان مجهزاً بكل وسائل الترفيه. وقمنا بزيارة كل المعالم التاريخية والمصانع والصحراء والمدن القريبة من طرابلس، وفق برنامج زيارات منسق ومبرمج ومرتب.
و بقينا في ليبيا من يوليو حتى منتصف سبتمبر، وحضرنا احتفالات ليبيا بالفاتح من سبتمبر، عدنا بعدها الى الغيضة .
وبدأ الجميع يتوافد إلى المدرسة استعداداً لبدء السنة الدراسية الجديدة 1978/1979، وأصبحت نتائج امتحانات السنة الماضية معلقة على حائط الإعلانات في سرية الإدارة. وأتى الجميع يبشرني بالنتيجة وكنت الأول على الصف الثالث الإعدادي، وأنا الذي لم أدرس ولم أنتظم في المدرسة. وبما أني انتقلت إلى الصف الأول الثانوي، كان عليّ أدرس في ثانوية حسّان التابعة لليمن. وبما أنني أصبحت في الإدارة بقرار سابق من القيادة، فإن الدراسة لم تعد تشكل لي شيئا في حساباتي، وبما أن الإدارة تعتبرني مجنونا وتريد إزالتي من المدرسة فأنا سأظل كابوسا على صدرها وسأثبت لقيادة الثورة أنني المتفوق في كل شيء؛ دراسيا وثقافيا وإداريا.
وقد اخترت الالتحاق بالسلك الإعلامي للجبهة والمتمثل في اللجنة الإعلامية، حيث كانت تصدر مجلة ٩ يونيو الشهرية، وصحيفة صوت الثورة التي تصدر كل أسبوع، بالإضافة إلى برنامج صوت الثورة الإذاعي الذي يُذاع يومياً لمدة ساعة من إذاعة عدن. وقد اخترت أن أبقى في عدن، وعملت مع الفريق الإذاعي المكلف بتقديم برنامج صوت الثورة الذي يذاع كل مساء يومياً من إذاعة عدن التابعة لليمن الجنوبي والمسمى حينها جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. وعملت بالإضافة إلى تقديم بعض فقرات برنامج صوت الثورة مقرراً للجنة الإعلامية في اجتماعاتها.
وفي هذه الأثناء، وبينما كنت أعمل في اللجنة الإعلامية للثورة، وفي أحد أيام شهر مايو أو يونيو من عام 1979م، كنت جالسا صباحا في أحد مقاهي منطقة المعلا مع مجموعة من المناضلين بالقرب من مكتب اللجنة الإعلامية حيث أعمل، وبينما نحن نرتشف الشاي، إذا بأحد الرفاق المناضلين يخبرنا بوصول خبر اليوم مفاده أن الرفيق عدنان النوبي الكثيري قد استُشهد مع رفيقه أبوي ناصر سالم ازيرهوت العوائد.
وكانا عضوين في قيادة الثورة. وقد وقع هذا الخبر كالصاعقة عليّ لدرجة أن كوب الشاي سقط من يدي على الأرض، ولم أتمالك نفسي حينها فسقط الدمع، ولاحظ الجالسون ذلك مما جعلني أترك المكان وأغادر إلى مكتب الجبهة لاستطلع مدى صحة الخبر.
وعندما وصلت إلى المكتب وجدتهم يبحثون عن صورة لعدنان النوبي حتى يصدروا بيانا بوفاته ويرفقوها مع الخبر، ولم يجدوا له صورة. عند ذلك تأكد لدي صحة هذا الخبر الحزين. وكنت احتفظ بصورة له كنت قد أخذتها من أقاربه الطلاب الذين كانوا معنا في المدرسة، فذهبت إلى مقر سكني مستقلا سيارة أجرة وبحثت عن الصورة حتى وجدتها، ومنها توجهت إلى أستوديو تصوير قريب لينسخ لي الصورة حتى احتفظ بنسخة منها، وأعطي المكتب الصورة المطلوبة.
وقد ظللت على هذه الحال مع اللجنة الإعلامية إلى منتصف عام 1980م، وكان معي فيها رئيس اللجنة الإعلامية سالم غريب مظفر، وعضوية كل من: محمد عوض السرج المرهون نائبا للرئيس ورئيس تحرير صحيفة صوت الثورة، وشعبان أحمد وغيرهم. وفي عام 1980م أُصبت بمرض كان عبارة عن حمى شديدة تأتيني ليلا، فتقرر لذلك سفري إلى العراق للعلاج. وأثناء وجودي في بغداد اكتشفت من خلال الفحوصات الطبية أن ذاك المرض كان عبارة عن أنيميا، وأثناء تنويمي في المستشفى شكَّ الأطباء بأنه قد أكون أعاني من مرض الملاريا مما جعلهم يكثفون فحوصاتهم واهتمامهم. ولما سألتهم عن ذلك قالوا هذا بسبب انعدام وجود الملاريا آنذاك في العراق وخوفهم من وجود عدوى هذا المرض.