DELMON POST LOGO

رواية " رصاصـة الماكاروف.. "وما تبقّى من فصول الحكاية للعماني علي الكثيري ..  الاعتقال وسؤ المعاملة  - 8

قامت الثورة وعملت وفق إمكانياتها المتاحة وحققت نجاحات ميدانية، وقدمت شهداء ومعتقلين .. ولولاها لما اصبح التغيير حقيقة

يواصل الكاتب العماني علي الكثيري سيرته ، بعد عودته الى الوطن العماني وقصة ممارسة نشاطه الثوري واعتقاله بظفار .. وكيف التحق بأحد العناصر الثورية بالجبل والعائدة من اليمن الجنوبي وبدء توزيع المنشورات لكن اختاراقات المخابرات تفسد خطط التنظيم وتم اعتقال المجموعة .

مما تمَّ الاتفاق عليه عمل منشورات وبيانات باسم الجبهة، ويتم توجيهها عبر البريد لبعض الجهات والدوائر الحكومية في داخل الوطن. وكان محتواها عبارة عن لفت أنظارهم إلى أن العمل الثوري ما زال قائما ومستمرا، والتنديد ببعض التجاوزات والوضع الحاصل. وعلى كل الأحوال لم نكن نستهدف من خلال تلك المنشورات إحداث تغيير جاد وقلب الأوضاع العامة، إذ كنا نعلم في قرارة أنفسنا أن ذلك شيء صعب وغير متاح، وغاية ما كان الأمر لفت انتباه فقط، وإرسال رسائل ضغط نستهدف من خلالها كسب أكبر قدر من الإصلاحات للشعب والوطن.

واستمر ذلك التواصل حتى تم اعتقال أول مجموعة من الرفاق في أواخر 1985م، بعد أيام من وصول مجموعة من القيادة سرا، وربما كان خط سيرهم مراقبا من قبل الأجهزة الأمنية للنظام منذ انطلاقهم من الأراضي اليمنية حتى وصولهم إلى جبال ظفار.

توالت الاعتقالات للأعضاء النشطين والفاعلين في تنظيم الداخل، بينما ظلت المهمة التي أتى من أجلها الرفاق في القيادة حبيسة حقائبهم وفي ذاكرة عقولهم إلى هذا اليوم حتى تم اعتقالي في بداية 1986 ، وأول مكان سجن رزات ، ثم نقلت الى سجن الرميس بالطائرة .

بعدها بدأ التحقيق والتعذيب لاسبوع ثم التحقيق لمدة سبعة اشهر قبل المحاكمة التي حكمت خمس سنوات سجن.

وعندما دخلنا السجن السياسي وجدنا رفاقا لنا قد اعتُقلوا قبلنا لأكثر من عشر سنوات، فبعضهم أكمل 14 عاماً وآخرون 12، وهؤلاء جميعا من شمال الوطن، وأقلهم مدة 10 سنوات كانوا من ظفار، ما عدا واحدا كان قد اعتُقل في الإمارات ومضى له هناك ما يقارب عشر سنوات، ثم رحِّل إلى سجون عمان وأمضى ما يقارب عشر سنوات أخرى، فأكمل ما يقارب العشرين عاما. وفي آخر العام 1986 أُفرج عن المعتقلين الذين وجدناهم في السجن عدا ثلاثة، اثنين من ظفار وواحدا من الشمال، أُفرج عن اثنين في العام المقبل، وأُبقي على الذي أكمل أكثر من عشرين عاما.

بعد أربع سنوات، وفي آخر عام 1989م وتزامنا مع العيد الوطني للبلاد،  صدر العفو الذي يصدره السلطان في كل عيد وطني، فأُفرج عن مجموعة من الزملاء، وكنت ضمن المجموعة المفرج عنها.

وهنا لا بد من ذكر ماذا كانت تعني لي الثورة،  ولماذا أنا متعلق بها إلى حد يجعلني أخاطر بنفسي وقد وصلت بسلام إلى الوطن وعشت بين أهلي. وعليه سوف ألخص هنا ماهيّة هذه الثورة، وماذا تعني لي ولغالبية هذا الشعب من منظوري الخاص،  ولماذا نحبها.

الجواب: لأن هذه الثورة أوجدت فارقا وطنيا في التاريخ العماني المعاصر، وأحدثت النتائج التي صاحبتها تحولاً جذريا في المسار السياسي العام، ليس في عمان فحسب، وإنما في كل منطقة الخليج والجزيرة العربية، إذ برز دور هذه الثورة الوطنية، وغيّرت المفهوم الذي طبعته القوى الاستعمارية آنذاك في أذهان الحكومات والأسر الحاكمة في المنطقة؛ من أن الثورة سوف تكون رأس الحربة الممهد لدخول الاتحاد السوفييتي والاستيلاء على مناطقكم المليئة بالنفط. وستكون امتدادا للمد الشيوعي في المنطقة، وسارعت الدوائر الاستعمارية حينها، بفصل ساحل عمان المطل على الخليج وجعلت منه دولة أخرى أسمتها الإمارات العربية المتحدة؛ خوفا من المد الثوري أن يجتاح كل عمان وتصبح عمان جمهورية تدين بالولاء للشيوعية، مثلها مثل اليمن الجنوبي؛ لأن هذه الدوائر الاستعمارية، شرقية كانت أو غربية، لا تدرك ثقافة الشعب العماني المتأصلة الجذور بالوطن، وحبها له، وحرصها على وحدته. فهذا الشعب العماني الأبيّ يطالب بحقوقه ولا يستكين للذل ويطالب بالتغيير والإصلاح، ويقوم بالثورة إن رأى ذلك ضروريا لتصحيح المسار، وإحداث تغير يلمسه الكل بإيجابية، مهما كلفه ذلك من خسائر وجهد في سبيل المطالبة بحياة كريمة واستقرار وأمن يكفل المنجزات والمكتسبات التي حققها على أرضه، والعمل على النهوض بها على أكمل وجه.

ومن هنا، وتجسيدا للروح الوطنية والحفاظ على الوطن من أي تدخل خارجي قد يخلُّ بالوحدة الوطنية، رفضت الجبهة الشعبية لتحرير عمان كل مساعي القوى الداعمة عربية كانت أو أجنبية للتدخل عسكريا، وذلك لدعم العمل المسلح آنذاك وتمكين الثورة من إمساك زمام السلطة، وتحويل السلطنة إلى جمهورية شعبية ديمقراطية بدعم وحماية سوفييتية.

لكن الروح والوازع الوطني لدى العمانيين الذين يقودون العمل الثوري حينها جعلا الوطن ووحدته وشعبه نصب أعينهم، وعندما تكالبت على ثورتهم القوات الأجنبية من بريطانية وإيرانية وغيرها، بقواتها وطيرانها الحربي الذي أحرق الأخضر واليابس في جبال ظفار، في عملية تطهير كبرى لما تبقّى من الثوّار، ونزحت بعض قياداتهم إلى اليمن الداعم للعمل الثوري، وعاد أغلبهم إلى الوطن الأم، أعادت القوى الداعمة للثورة طلب التدخل بالقوة، وجوبه بالرفض التام، فقد قامت الثورة ضد الاستعمار، ولن يسجل التاريخ للثورة أبدا أنها دمّرت شعب عمان وأرضه بآلة حرب أجنبية أخرى تحت دواعي التحرير، كي تتسلم السلطة على دبابة أجنبية.

فقد قامت الثورة وعملت وفق إمكانياتها المتاحة وحققت نجاحات ميدانية، وقدمت شهداء ومعتقلين، منهم من أُعدم ومنهم من لم يزل في المعتقلات. وإذا ارتكبت الجبهة بعض الأخطاء فإن الخطأ وارد في كل عمل ثوري في مجتمعات قبلية وأنظمة كهذه. وفوق ذلك، عملت الثورة على تسريع عملية النهضة والتغيير الذي أصبح ملموسا لدى الناس من قِبل النظام الحاكم.

وهذه خطوات إيجابية نثمّنها، ونرجو لها التطوير والتغيير للأمثل الذي ينشده الشعب العماني بأسره. وعليه، عندما وجد الشعب ضالته في العيش الكريم والاستقرار والضمان لحقوقه المشروعة في ممارسة أنشطته في إطار مؤسسات المجتمع المدني، والشعور بكيانه الوطني والديني، كانت الثورة من ضمن الحراك الوطني العام الداعم للنهضة التي يقودها السلطان قابوس، فرفضت التدخل العسكري من قِبل القوى الداعمة لها، لأنها تدرك الأطماع الأجنبية في المنطقة فرفضت العرض. وكان هذا الرد مثالا للإيثار ونكران الذات وتقديم الوطن على كل الرغبات والأهواء والأفكار وحب السلطة. وهذا هو النموذج الوطني الذي يجسّده كل عمّاني أينما كان وكيفما كان، ولهذا نرى دائما عمان هي النموذج الذي يُحتذى به في كل الحقب والأزمنة، ففي عمان الوطن قبل كل شيء، نختلف فكرا لكن يوحّدنا الوطن، تختلف مذاهبنا ونصلّي معا، ونصهر الاختلاف في حب الوطن.

وهناك نقطة خطرت ببالي، وهي تخص فترة الاعتقالات وما سبقها من التحضير من قِبل أجهزة النظام الأمنية، إذ قد يتبادر إلى ذهن أي مشاهد للأحداث أو من كان حاضرا لها أو له اهتمامات أمنية أو سياسية، أسئلة شتى. منها مثلا: هل كانت المجاميع التي تحمل السلاح وتتخذ من الجبال ملجأ لها مخترقة من قبل أجهزة أمن الدولة؟ وهل كان التنظيم السري الذي يعمل أغلب أعضائه في أجهزة الدولة العسكرية منها والأمنية والمدنية مخترقاً أيضاً؟ وهل كانت الأسر المتعاطفة مع الثوار التي تمدّهم بالمؤن والمعلومات مخترقة أمنيا هي أيضا؟ ولماذا كانت هذه الاعتقالات جماعية ومتزامنة أغلبها؟ ولماذا فتحت الدولة باب التسليم أو الاستسلام لمن أراد أن ينجو من الاعتقال، وأشاعت ذلك بين أفراد المجتمع؟

كل هذه الأسئلة تبدو منطقية وجائزة أن تحدث في هكذا مجتمعات متداخلة المعرفة والتعايش، وفي كل التنظيمات السرية وفي أي عمل ثوري مسلح يحدث في بقعة من العالم. ومن منظوري الخاص، لا أستبعد أمر الاختراق الأمني للعمل السري الذي أنتمي له، واعتقلت بسببه، حتى في الأوساط الاجتماعية المتعاطفة مع العمل الثوري. وما يدعم شكي هذا أنه قبيل الاعتقالات بأشهر، وخاصة في العام 1985، بدأت اللجان الأمنية في المناطق بإشاعة الخوف في المجتمع، وتحذير الناس من أن هناك تنظيماً سرياًّ للثورة، وعلى الجميع أن ينتبه لأبنائه من مغبة الانتماء إلى العمل الثوري الذي بدأ ينشط بشكل كبير في الأوساط الشبابية. وكانت هذه اللجان الأمنية تجتمع بين فترة وأخرى بحسب ما يرد إليها من تعليمات أو معلومات، وتقوم بإشاعة الدعاية حول بعض الأسماء على سبيل المناورة، وإيهام الناس أن لديهم معلومات دقيقة؛ ليقوم الأهالي بتحذير أبنائهم من الاقتراب من الأسماء التي أشيع عنها خبر الانتماء للعمل الثوري السري.

هذا ما أحببت إضافته فيما يتعلق بموقفي من الثورة وإرثها التاريخي. وأعود إلى استكمال كلامنا فنقول: إلى هنا انتهت فترة الاعتقال والحكم بالسجن، وبعد كل هذا العناء كان عَليّ أن ابحث عن عمل أستقر فيه ويكون مصدر عيش لي وربما أُكوِّن أسرة وبيتا. ولكن بعد فترة من خروجي من السجن اتصل بي أحد أفراد الأمن الداخلي وكان أحد الذين حققوا معي أثناء وجودي في المعتقل، وأخذني بسيارته الخاصة حتى لا يثير الانتباه أثناء وجودي معه ربما، وأبلغني بأنه مُرسَل من قيادة الجهاز ليعرض عليّ التعاون مع جهاز الأمن، ولكنني لم أبحث معه آلية التعاون أو كيفيّتها، ولا ماهيّة المجالات التي أتعاون فيها مع الأمن الداخلي (المخابرات)، إذ أخبرته باعتذاري دون أن أبحث في التفاصيل التي أراد أن يعرضها عليّ، وقلت له حرفيا: أنا تركت السياسة والعمل السياسي لا مع الثورة ولا مع جهازكم، فأنتم في نظري تنظيم سياسي آخر، فليس بوسعي أن أنخرط كل مرة في تنظيم، فشكرا لثقة الجهاز بي وأشكر لك اهتمامك وحسن تعاملك معي في المعتقل وخارج المعتقل. وأراد أن يضيف كلاما ليقنعني فقاطعته وأخبرته أنْ لا يحاول معي في الأمر هذا أبدا؛ لأنني لست مقتنعا، وليست لدي الرغبة البتة، فأوصلني وقال: شاور نفسك ونحن جاهزون لأي طلب تريد.. رددت عليه بالشكر وإلى لقاء ما دام في العمر بقية.

وفيما يخص اختلافي الفكري ورؤاي السياسية مع رؤى النظام الحاكم في البلاد، فلم يكن يتعارض مع مناداتي بضرورة التعايش الوطني، وضرورة الحفاظ على وحدة الوطن وأمنه واستقراره، وعدم العبث بمكتسبات شعبه ومنجزات أبنائه. وقد وضحت ذلك في كل ما أكتب من مقالات ورؤى دعوت فيها للإصلاح والتغيير، ومنح الكثير من الصلاحيات للمجالس المنتخبة من قِبل الشُّعَب البلدية منها والبرلمانية، والإنصات بعمق وأهمية لمطالب المجتمع المشروعة في العيش الكريم، وضمان أمنه الاجتماعي في الرفاه والحياة الكريمة، وإتاحة المزيد من الحرية لإبداء الرأي فيما يخص الشأن العام، وذلك ضمانا لاستقرار البلاد، وتحديث آليات التطوير التنموي، والوقوف على مكامن الخلل في الجهاز الإداري للدولة، وتعاطي أجهزته التنفيذية مع الخطط التنموية الطموحة، وتصحيح المسار التنموي العام لمواكبة طموح واستحقاقات الوطن التي يتطلَّع إليها النَّاس.

وقد كنت أوضّح رؤيتي هذه لكل من أقابله من المسؤولين الذي يمثلون أجهزة الدولة المختلفة، وكانت رؤاي تلك واضحة وجلية مع الأجهزة الأمنية التي لا بد وأن تستدعيني بين فترة وأخرى للاستيضاح أو تقديم النصح أو التحذير أحيانا ممّا أكتب من رؤى ومقالات تخص الشأن العام، أو أحيانا الكتابة عن حدث تاريخي مرت به البلاد وعمل على تغيير واقعها، والإسراع في تغيير نمط مسار نظام الحكم والنهوض بها ممّا كانت عليه إلى ما يجب أن تكون عليه في ظل التغييرات والظروف السياسية المتلاحقة التي يمر بها العالم من حولنا، والتي لم تكن لتحدث لو لم يَثُر الناس وتُقدَّم تضحيات تعمل على الإسراع بالنهضة التنموية رغم بطئها، ولكنها كانت نتاج أحداث جعلت الأسرة الحاكمة تقوم بتغيير مسار حكمها ونظامه السياسي ليتواكب مع ما يتطلبه العصر والمنطق، لضمان استقرار الحكم واستمراره في هذه البلاد.