DELMON POST LOGO

دول مجلس التعاون.. من اقتصادات ريعية إلى اقتصادات رائدة ومحركة للاقتصاد العالمي

بقلم : عبدالنبي الشعلة

الأجيال التي ستأتي لاحقًا، أو ربما الجيل القادم من شعوب منطقتنا العربية الخليجية، لن تتذوق بالتأكيد طعم الاقتصاد الريعي، أو تعرف معناه، جيلنا ولله الحمد تمتع وتمرغ، وما يزال بدرجات متفاوتة، في نعيم هذا النمط من الاقتصاد، مع أن استدامته ليست مضمونة أو ممكنة أو صحية.

حكوماتنا في دول مجلس التعاون، تحت ظل ذلك النمط من الاقتصاد، وفرت لنا كلّ شيء تقريبًا، مجانًا؛ التعليم، الرعاية الصحية، الدواء، الخدمات البلدية، الإسكان لذوي الدخل المحدود، بعثات تعليمية للمتفوقين لأفضل الجامعات في أرقى دول العالم، أسعارا ورسوما رمزية مدعومة للماء والكهرباء والمواد الغذائية الأساسية، يتمتع بها الغني والفقير والمواطن والسائح والمقيم، على حد سواء.

في البحرين وحتى عهد قريب، كان سعر الكيلوجرام من لحم الضأن المستورد من أستراليا يباع بدينار واحد فقط، وهو سعر أقل من سعر بيعه في أستراليا؛ فقد كانت حكومة البحرين تشتريه بسعر أعلى من ثلاثة دنانير للكيلوجرام الواحد، وتوفره في الأسواق بسعر دينار واحد فقط، وهي حالة فريدة من نوعها، ولم يوجد شبيه لها من قبل أو من بعد في أي مكان في العالم، بما في ذلك دول الخليج العربية الأخرى، وحتى هذه اللحظة فإن الدولة في البحرين ما تزال تدعم سعر الدقيق، فيباع الكيس منه، زنة 50 كيلوجراما، بدينارين، بينما سعره الحقيقي 9 دنانير، والأهم أو الأحلى من كل ذلك هو أن الدولة لا تجبي أو تستحصل منا أي نوع من أنواع الضرائب! فالاحتياجات المالية للحكومات يتم الحصول عليها من باطن الأرض دون الحاجة لاستخراجها من جيوب المواطنين أو الشركات، فأصبحنا حتى الآن نرتجف ونقلق ونعترض أو نتحفظ عندما نسمع عن نية الدولة فرض ضرائب أيا كان نوعها أو نسبتها، رغم أن نظام الضرائب هو من الأدوات التي استخدمت وتستخدم لإدارة الدول والمجتمعات، والضرائب هي مبالغ نقدية تتقاضاها الدولة من دخل أو أرباح الأشخاص والمؤسسات؛ بهدف تمويل نفقاتها، وقد عرفها العالم الإسلامي منذ عهد الخليفة عمر بن الخطاب، الذي أمر بضرب “الخراج” على العراق بعد فتحها واستمر ضربها من بعد على كل الأمصار التي فتحها المسلمون وأداروها. وصار المغرضون والمشككون هذه الأيام يتهمون حكوماتنا بأنها في حقيقة الأمر ترشونا بعدم جباية الضرائب منا، مقابل سكوتنا عن المطالبة بالديمقراطية.

ولكن في الواقع، فإن العملية أو المعادلة بسيطة؛ اقتصاداتنا كانت تعتمد بشكل أساسي على النفط والغاز كمصدر للدخل، وهو مصدر تملكه وتحتكره الدولة ويتم استخراجه وبيعه؛ وتستلم الدولة مداخيله وتنفقها، فتصبح ميزانية الدولة مجرد برنامج إنفاق.

وعلى الرغم من وجود بعض التجاوزات والأخطاء إلا أن أنظمتنا الحاكمة في الخليج كانت ومازالت تتصرف بقدر كبير من الحكمة والروية والكفاءة في إدارة مواردها الطبيعية ضمن النظام الريعي، على خلاف دول نفطية أو غير نفطية أخرى من دول العالم الثالث التي بددت ثرواتها وعجزت عن إرساء قواعد إنتاجية أخرى، ولم توفر المتطلبات الأساسية للحياة وفرص العيش الكريم لشعوبها.

إن خطورة نظام الاقتصاد الريعي تكمن في العديد من الأوجه، أخطرها، في حالة دول المجلس، اعتمادها الشديد على النفط وهو مصدر آيل للنضوب ومهدد بالاستبدال، كما أن أسعاره تتذبذب صعودًا وهبوطًا، ما يعرض الاقتصاد إلى عدم الاستقرار.

والاقتصاد الريعي أيضًا يحرم الدولة من تنوع القطاعات الاقتصادية الأخرى، مثل الصناعة والزراعة والتكنولوجيا، ما يؤدي إلى هشاشة الاقتصاد أمام الصدمات الخارجية، وفي ظل الاقتصاد الريعي يختفي الحافز للابتكار والإبداع وتنتفي الحاجة إلى التنافس لتطوير قطاعات إنتاجية جديدة، بما يؤدي بدوره إلى خلق بيئة غير مواتية للنمو الاقتصادي، وغير مولدة لفرص العمل المجزية، وتعوق تحقيق التنمية المستدامة المنشودة التي تعتمد على الابتكار وتنوع القطاعات الإنتاجية.

لقد أدركت دول المجلس هذه المخاطر والمحاذير؛ ومنذ بداية الحقبة النفطية بدأت رحلة الانتقال، ولو ببطء، من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي المتنوع القطاعات، والتحول بتدرج من دول مستهلكة إلى دول منتجة؛ وكانت البداية عندما بادرت هذه الدول باقتحام الصناعة النفطية التحويلية مثل التكرير وصناعة البتروكيماويات.

ورغم أنني أتجنب استخدام عبارات أن البحرين كانت الأولى أو الرائدة أو السباقة، إلا أنني مضطر هنا إلى التأكيد أن البحرين كانت بالفعل رائدة في اقتحام الصناعة التحويلية عندما أسست شركة ألمنيوم البحرين (البا) في العام 1971م للاستفادة من مصادر الغاز الطبيعي، وبعد 4 أعوام أسست مكانتها كمركز مالي ومصرفي في المنطقة، واستمرت عجلة الدوران فيها نحو مزيد من التوسع والتنوع الاقتصادي.

ولم تتخلف باقي دول المجلس عن هذا التوجه؛ وقد نجحت جميعها في ركوب قاطرة الانطلاق نحو مختلف آفاق التنوع الاقتصادي واستقطاب الاستثمارات وتوظيفها في تطوير البنية التحتية لتمكين بيئة اقتصادية أكثر جذبًا للاستثمارات، مثل تطوير المناطق الصناعية والمناطق الحرة، وتحسين الموانئ والمطارات وشبكات النقل والاتصالات وتوسيع وتنويع قاعدتها الصناعية غير النفطية، مثل السياحة والخدمات المالية والتكنولوجيا المتقدمة والابتكار، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي والروبوتات والطاقة المتجددة.

واهتمت هذه الدول بالتعليم والتدريب لتنمية الكوادر البشرية وتأهيل قواها العاملة وإعدادها للتنافس والتفوق.

ومنذ انضمامها للأسرة الدولية بعد نيلها للاستقلال شرعت دول مجلس التعاون في تطوير وتعزيز علاقاتها وشراكاتها مع مختلف الدول والمنظمات والتجمعات الاقتصادية، وكان تأسيس منظومة دول مجلس التعاون الخليجي في العام 1981م أهم خطوة على طريق تحقيق المزيد من التعاون والتكامل والشراكات الإقليمية بين دوله.

وتأطيرًا لكل تلك الجهود والمبادرات، فقد أقر قادة دول المجلس “الرؤية الإستراتيجية الشاملة للتنوع الاقتصادي” في قمة الرياض في العام 2015م؛ بهدف تعزيز الاقتصادات الوطنية لدول المجلس وتقليل الاعتماد على النفط كمصدر رئيسي للدخل. وتحقيق التنمية المستدامة والتكامل الاقتصادي.

في قمة الرياض تم تبني “رؤية السعودية 2030” كجزء من المبادرات الاقتصادية الشاملة لدول المجلس. كما تم تعزيز هذه الرؤية في القمم اللاحقة، بما في ذلك القمة التي عُقدت في البحرين في ديسمبر 2016، والقمة التي عُقدت في الكويت في ديسمبر 2017.

مع كل ما ذكرنا، فإننا لا نختلف مع من يرى أن بالإمكان تحقيق الأكثر والأكبر وبخطى أسرع، وأن ما تم تحقيقه على الرغم من أهميته هو أقل من الطموحات والتطلعات والإمكانات، إلا أننا لا يمكن أن ننكر أو نتنكر لحقيقة أن دول مجلس التعاون، تتصدرها الرافعة الكبرى المملكة العربية السعودية، قد حققت وأنجزت الكثير، وأصبحت اليوم أكثر قدرة وتأهيلًا للاضطلاع بدور أكبر في تحريك الاقتصاد العالمي، تأسيسًا على كونها ما تزال المصدر الأكبر للطاقة اللازمة لدفع عجلات النمو الاقتصادي في العالم، وانطلاقًا من تبوئها مكانة متقدمة على مسرح الاستثمار والتجارة العالمية، وتمكنها كما رأينا من قطع أشواط واسعة وبناء صروح شامخة على طريق تعزيز اقتصاداتها الإنتاجية المتنوعة.