DELMON POST LOGO

من عنيزة بالقصيم إلى قمة الأدب والفن الهندي.. وذكريات من الهند

بقلم :عبدالنبي الشعلة

وصلتُ مدينة بومباي، أو مومباي كما أصبح اسمها الآن، لأول مرة في شهر أكتوبر من العام 1969م، وزرت في ثاني يوم من وصولي “بوابة الهند” The Gateway of India ، هذا الصرح من بين أهم معالم المدينة، ويقع على شاطئ بحر العرب، وقد شيد في العام 1924 تخليدًا لزيارة الملك البريطاني جورج الخامس للهند لتتويجه إمبراطورًا عليها، قبالة هذا المبنى يقع معلم تراثي آخر، وهو مبنى “فندق تاج محل” أو “قصر تاج محل” الذي بني بجانب فندق بريطاني مشهور في ذلك الوقت كان اسمه فندق واتسون Watson’s  Hotel  ، وعندما زرت المنطقة كان قد تم هدم فندق واتسون ويجري وقتها ترسية الأساسات لبناء برج فندقي جديد يلحق بفندق “تاج محل”.

ولفندق “تاج محل” هذا قصة أو أسطورة عميقة الدلالات؛ تقول إن جمشيدجي تاتا رجل الأعمال الهندي المعروف، مؤسس مجموعة أو إمبراطورية “تاتا” التجارية الصناعية العملاقة والمتربعة على قمة الشركات الكبرى في الهند حتى الآن، ذات مساء في العام 1895 كان يريد أن يستأجر غرفة في فندق واتسون، لكن المدير البريطاني المناوب رفض أن يلبي طلبه وأمره بالمغادرة؛ لأن هذا الفندق مخصص للبريطانيين والأوروبيين فقط، فأحس جمشيدجي بالإهانة وقال للمدير إنه سيشتري الفندق ويهدمه ويقيم مكانه فندقًا يضاهي في جماله وروعته تحفة “تاج محل” في مدينة أجرا الهندية، إحدى عجائب الدنيا السع.

وهذا ما حدث بالفعل، فقد اشترى جمشيدجي الفندق وقطعة الأرض المحاذية له، وبنى فوقها “فندق تاج محل” الرائع، الذي أصبح واحدا من أبرز المعالم التاريخية والمعمارية في مومباي.

ثم بعد سنوات طويلة هدم فندق واتسون وشيد مكانه برجًا فندقيًا ألحقه بالفندق، والقصة لا تنتهي هنا، فقد أوكل جمشيدجي إلى أمهر وأشهر المهندسين المعماريين تصميم فندق تاج محل، وأوكلت مهمة إتمام تصميم المشروع إلى المهندس البريطاني المعروف دبليو ايه تشامبرز، وبدأ العمل في تشييد المبنى في العام 1898 وانتهى بعد سبع سنوات، وحدد يوم 16 ديسمبر 1903 لافتتاحه، ودعي من لندن لحفل الافتتاح بالطبع مهندسه السيد/‏‏‏‏‏ تشامبرز، وخُصص لإقامته أفخم جناح في الطابق الأخير من الفندق، ولما وصل في اليوم المحدد للافتتاح أصيب بالدهشة والغضب والإحباط والانفعال؛ فقد وجد أن الفندق بني باتجاه عكسي، فصعد إلى الجناح المخصص له وانتحر بإلقاء نفسه من بلكونة الجناح.

في نوفمبر 2017 دعيت للمشاركة في “اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي حول الهند” الذي نظمته في مدينة نيو دلهي الجهة المنظمة لمؤتمر دافوس السنوي بالشراكة مع اتحاد الصناعات الهندية، والتقيت في المنتدى السيد/‏‏‏‏‏ رتان تاتا رئيس مجموعة “تاتا” الذي لا يزال يتقلد المنصب نفسه، وسألته عن مدى صحة القصة أو القصتين فأجاب ضاحكًا بأنهما أصبحتا الآن حقيقتين لكثرة ترديدهما.

ومن المفارقات اللافتة أن مهندس مسجد أو ضريح تاج محل في أجرا، الموصوف بإحدى عجائب الدنيا السبع، لقي الحتف نفسه الذي لقيه مهندس الفندق، ولكن بطريقة أخرى، فالقصة أو الأسطورة تقول إن الإمبراطور المغولي شاه جهان بهدف تخليد ذكرى زوجته الجميلة المفضّلة “ممتاز محل” كلف المهندس الإيطالي جيرونيمو فيرونيو بتصميمه والإشراف على تنفيذه، وأغدق عليه العطاء، ولما اكتمل البناء في العام 1648 أمر الإمبراطور بفقء عيني المهندس وقطع يديه حتى لا يتمكن مرة أخرى من تصميم تحفة فنية تنافس تاج محل، كما أمر بسجنه في قلعة لاهور التي أعدم فيها.

إن كل تلك الأحداث والوقائع قد لا يكون لها نصيب من الصحة أو أنها من نسج الخيال، لكن وصول إبراهيم القاضي من عنيزة بالقصيم إلى قمة الثقافة والأدب والفن الهندي بكل جدارة هي حقيقة مؤكدة وموثقة؛ لكنها تبقى أعجب وأغرب من الخيال.

فأثناء سنوات دراستي الجامعية في مومباي وزياراتي المتكررة لها بعد ذلك، كان المرحوم أحمد بن عبدالله القاضي، يدعوني دائمًا، ويدعو غيري من أصدقائه وأقربائه لتناول “شاي بعد الظهيرة”، في “قاعة الشاي” الفاخرة المطلة على شاطئ بحر العرب بالطابق الأول من فندق “تاج محل”، في هذه القاعة يلتقي علية القوم وصفوة المجتمع الهندي من رجال أعمال وفنانين وسياسيين وما شابه.

أحمد القاضي رحمه الله سعودي الجنسية، كان يقيم في بومباي منذ نعومة أظفاره، وكان يمارس فيها التجارة من مكتبه الواقع قرب شارع “محمد علي رود”.

مثل شقيقيه المرحوم محمد، وسليمان أطال الله في عمره، كان أحمد القاضي، بدون مبالغة أو إطناب؛ إنسانا عزيز النفس، دمث الخلق، رجلا كريما سخيا، طيب المعشر، بشوش الوجه، بهي الطلعة، دائم الابتسامة، صادقا أمينا في معاملاته، يتحلى بالتواضع ويتمتع بحب واحترام الجميع؛ عرفته وعرفت إخوانه وأبناء عمومته فوجدتهم جميعًا كالأغصان الخيِّرة من شجرة طيبة ومعدن أصيل.

في إحدى جلسات الشاي تلك انضم إلى الطاولة الفنان القدير والأديب اللامع إبراهيم القاضي؛ الذي توجهتْ معه إلى طاولتنا أنظار وتحيات جميع الحاضرين في القاعة من الهنود، فهو قامة فنية معروفة وواحد من أهم وألمع الشخصيات الثقافية والفكرية في الهند الحديث بإجماع النقاد، في تلك الجلسة التقيته لأول مرة، تلتها مرات عديدة في مناسبات مختلفة في مومباي ودلهي، كان يتكلم الهندية والإنجليزية بطلاقة إلى جانب العربية.

إبراهيم القاضي باختصار هو عربي سعودي، غادر والده حمد العلي القاضي في ريعان شبابه من مسقط رأسه في عنيزة بالقصيم في مطلع القرن الماضي إلى الهند لمزاولة التجارة في بلد لم يكن يعرف عنها أو فيها أي شيء. وهو في الهند رزق بابنه إبراهيم الذي ولد في مدينة بونا في العام 1925، وقد حرص والده على تعليمه اللغة العربية والدين الإسلامي وهو في سن مبكرة، ثم التحق بالمدارس الهندية وأكمل تعليمه الجامعي في كلية “سانت زيفير” بمدينة مومباي؛ وهي الكلية نفسها التي تخرجتُ منها.

وعلى مختلف مراحل دراسته أظهر إبراهيم نبوغًا وولعًا بمختلف أشكال الفنون والآداب، وبدأ اهتمامه بالفنون يظهر بوضوح أثناء دراسته في المدرسة، حيث كان شغوفًا بالمسرح والرسم والأدب. هذا الشغف قاده لاحقًا، وبتشجيع من والده إلى الأكاديمية الملكية للفنون المسرحية بالمملكة المتحدة، حيث تلقى تعليمًا في أصول المسرح وقواعده على يد أبرز المخرجين والأساتذة.

وفي إحدى الزيارات الرسمية لرئيس الوزراء الهندي جواهر لال نهرو إلى بريطانيا التقى إبراهيم القاضي في لندن وأعجب بقدراته وإمكاناته، فدعاه للعودة للهند لتشكيل فرقة مسرحية هندية، ومكتبة للفنون والمسرح، وتأسيس “أكاديمية الدراما الوطنية الهندية” التي أشرف عليها لأكثر من 15 عامًا؛ تدرب على يديه فيها غالبية الصف الأول من الممثلين الهنود ومجموعة من ألمع نجوم بوليوود، فلا غرو إذًا أن أسبغ عليه لقب “مؤسس الدراما في الهند”.

وفي العام 2006 أسس إبراهيم “مؤسسة القاضي للفنون” للاهتمام بتاريخ وثقافة الهند والعناية بتراثها، وقد ألف وأخرج 50 مسرحية ما زال الجمهور يطلب مشاهدتها.

وقد كرمت الهند عملاق أدبها وفنها إبراهيم القاضي، وأسبغت عليه أرفع الألقاب والرتب، وقلدته أعلى الأوسمة والنياشين، بما في ذلك وسام “بادما شري” والأعلى منه “بادما بوشان” الذي يُمنح اعترافًا بإنجازات الأفراد وجهودهم في خدمة المجتمع والدولة. وانتقل إبراهيم القاضي إلى جوار ربه في شهر أغسطس 2020، ودفن في مومباي بين تراب الأرض التي أحبها وأحبته.