العاهل بدأ عهده بتوسيع هامش الحقوق والحريات المدنية، حيث تم إلغاء قانون ومحكمة أمن الدولة، والإفراج عن المعتقلين السياسيين
بقلم : د. شرف محمد علي المزعل
كشفت نتائج الدراسة التي أعدتها الدكتورة شرف المزعل ونشرتها في الدورية " مطبوعات دراسات الخليج والجزيرة العربية " واسعة الانتشار، أن الخطاب الإصلاحي للملك حمد يعكس السمات الشخصية والفكر الاستراتيجي للملك، ودوره المحوري في التحديث والإصلاح، وأنه يستند أساسا إلى ثلاثة أعمدة هامة، وهي: تأسيس دولة القانون، وترسيخ الأمن والاستقرار، وتنمية الولاء والانتماء الوطني.
كما أن أسلوب الخطاب قد شهد تطوّرا نتيجة تفاعل القوى والعوامل الداخلية والخارجية في سياق العملية الإصلاحية.
وخلصت الدراسة إلى أن الخطاب الإصلاحي للملك حمد في الفترة من (1999 – 2011) كان صريحا في طرح مرئيات الإصلاح، وأن القيادة قد اتخذت إجراءات هامة باتجاه الإصلاح، لكن نجاح العملية الإصلاحية يتوقف على مدى تماسك القوى الداخلية الداعمة للمشروع الإصلاحي.
إن الخطاب هو استراتيجية اتصال تقوم على التفاعل الشفهي المباشر بين الخطيب (المُتحدث) والمُتلقي (الجمهور) في إطار العملية الاتصالية. وبهذا المعنى، فإن الخطاب السياسي هو سلسلة من الأحداث السياسية التي يعرض فيها المشاركون نصوصا بوصفها أفعالا خطابية، ويجعل كل منها الاتصال من خلال الخطاب حالة من التخطيط التفاعلي؛ فالخطاب السياسي هو في جوهره «حوار طويل أو مُبادلة كلامية مُمتدة تُمكن الخطيب من التفاعل مع الجمهور للتعبير عن وجهات النظر والمواقف المختلفة حول القضية موضوع الخطبة».
وفي البحرين، برز الخطاب الإصلاحي إلى الواجهة بعد أن تولّى الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة مقاليد الحكم في البحرين عام 1999، وبادر بإرساء قواعد المشروع الإصلاحي، ووضع البلاد في مصاف الممالك الدستورية؛ وبذلك منح العملية السياسية مضمونا جديدا، حيث لم يعدّ الإصلاح مجرّد محاولات لتزيين صورة مملكة البحرين في العالم، بل أصبح تغييراً جذرياً في الخطاب الإصلاحي السياسي (المزعل، 2022). ولم تكن الرغبة البحرينية في التغيير والإصلاح السياسي والدستوري بعيدة عن محاولات الإصلاح والتحديث في المنطقة العربية، وذلك بعد أن تعرّضت الأنظمة العربية، بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، لضغوط هائلة عليها من جانب منظمات المجتمع المدني، والولايات المتحدة الأميركية، لتنفيذ إصلاحات سياسية في بلدانها، «وأصبح مطلب الإصلاح الثقافي والسياسي حجر الزاوية في العلاقات الأميركية مع بلدان الشرق الأوسط الكبير، وانعكس حوار الإصلاح بقوة في الأدبيات السياسية والفكرية العربية» .
ونظرا لأن الخطاب هو «اللغة التي يتفاهم من خلالها البشر، فهو وعاء المعنى ورسوله إلى القلوب والعقول، وأداة لإصلاح المجتمع» ، وأن المقاربة التاريخية للخطاب تهتم «بدراسة سياقات إنتاج الخطب السياسية وتفاعل الجماهير معها، ورصد العلاقة بين الظروف التاريخية والاجتماعية والنصوص السياسية» ، فقد ظهرت أهمية دراسة الخطاب الإصلاحي في البحرين من خلال تحليل الخطب الملكية التي رافقت مسيرة المشروع الإصلاحي (2001)، وربطها بسياق التطوّر التاريخي والاجتماعي لمملكة البحرين.
تُعتبر هذه الدراسة، في حدود علم الباحثة، المحاولة الأولى لتحليل الخطاب الإصلاحي في مملكة البحرين في الأعوام الأولى من القرن العشرين من منظورٍ تاريخيٍ نقدي، من خلال تحليل الكلمات السامية التي وجهها ملك البحرين، الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، إلى أبناء الشعب في المناسبات المختلفة، وكذلك الوثائق التاريخية التي تعكس مضمون تلك الفترة في تاريخ البحرين السياسي. كما تتجلّى أهمية الدراسة في سعيها إلى تحليل أثر تفاعل الُمتغيِّرات الداخلية والخارجية في تطوّر الخطاب الإصلاحي الملكي، ودورها في تطوّر حركة الإصلاح الشامل في مملكة البحرين.
تسعى الدراسة الحالية إلى الكشف عن ركائز الخطاب المُعبِّر عن جوهر الحركة الإصلاحية بالبحرين في أوائل القرن الواحد والعشرين، وذلك استنادا إلى خطابات الملك حمد بن عيسى كوثيقة أوليّة. وتهدف الدراسة إلى الكشف عن الأعمدة والمبادئ والقيم المؤسسة للخطاب الإصلاحي للملك حمد، وربط مفردات الخطاب بالمتغيِّرات والمستجدات الداخلية والخارجية، وتركِّز في نطاقها الزمني (1999-2011) على رصد أثر تلك المتغيّرات على الخطاب الإصلاحي في تلك الفترة التاريخية.
تعتمد هذه الدراسة أساسا على المنهج الوصفي، وهو من أنسب مناهج البحث العلمي لتحليل الخطابات السياسية، حيث يهدف إلى وصف الظاهرة التاريخية وصفا منهجيا منظما ودقيقا في إطارها الزمني من خلال النصوص المكتوبة، وجمع الحقائق والمعلومات عنها، كما يسمح بدراسة المُتغيّرات الداخلية والخارجية، ورصد تأثيرها في الظاهرة.
وبدأت المزعل في المبحث الأول بسرد التأسيس الأكاديمي والعسكري للشيخ حمد بن عيسى (1999- 1961) ، حيث تميز عهد الأمير الراحل، الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة (1999-1961)، بإعلان استقلال البحرين عام 1971. ويذكر الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة، ولي العهد حينئذ، في كتابه بعنوان «الضوء الأول»، خمس مزايا لمرحلة الاستقلال، وتمثلت في «دخول البحرين في تجربة لاختيار نظام سياسي للمشاركة في اتخاذ القرار، تمخّضت عن دستور للبحرين عام 1973، والذي أقّره مجلس وطني قائم على مبدأيّ الانتخاب والتعيين عام 1972، واتسام تلك المرحلة بازدهار اقتصادي فريد، حيث أصبحت البحرين مركزا متقدما لخدمات النفط والخدمات المالية والطيران وصناعة السفن، والاهتمام بالنواحي الاجتماعية للسكان، والعناية بالشباب والرياضة، وتطوير التعليم».
وُلد الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة في 28 يناير 1950، في مدينة الرفاع، وتولّى ولاية العهد في سن مبكرة، عندما كان في الرابعة عشرة من العمر، وذلك بتاريخ 27 يونيو 1964، وبذلك «أصبح الرجل الثاني في سلم الحكم في البحرين بعد والده الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة؛ مما جعله يبني رؤية استراتيجية للمرحلة التي سوف يستلم الحكم فيها».
وكانت حياة الشيخ حمد مثقلة بالأحداث الجسام والانعطافات الحادة؛ مما أوجد لديه وعيا بحقائق الأشياء في سن مبكرة، وكانت العائلة الخليفية، كأحد أبرز العائلات القيادية التاريخية في الخليج والعالم العربي، تحمل ذاكرة مفعمة بالأحداث الحلوة والمرة، والمرتبطة بالوجود البريطاني، وكيف عمل بثبات على تقليص مقومات استقلال الوطن، و«إبعاد» كبار القادة الذين تمسكوا بالاستقلال الى خارج البلاد مثلما أُبعد معهم الوطنيون المخلصون الذين كانوا يعملون في سبيله، وبالتعاون مع الحكم الشرعي في وطنهم. وتركت فترة الخمسينيات من القرن العشرين بصمة واضحة في وعي الشيخ حمد بالأحداث السياسية الدولية وتبعاتها على السلم العالمي، حيث شهد العالم أول ضربة نووية لليابان عام 1945. ومع أن شعوب المنطقة العربية قد شهدت نكبة فلسطين بكل أبعادها عام 1948، إلاّ أن الشيخ حمد كان يجد أن «جامعة الدول العربية قد تأسسّت أيضا عام 1945 أملا في تعاون عربي أوثق، وأن هيئة الامم المتحدة قد أعلنت شريعة حقوق الانسان عام 1948، بما يجدد الأمل في مستقبل إنساني أفضل للعالم وللبحرين».
ولعبت البيئة الأسرية والإقليمية الحاضنة للشيخ حمد بن عيسى دورا كبيرا في تنشئته الاجتماعية، وتشكيل فكره السياسي والعسكري، وتحفيزه لارتياد دروب العلم والمعرفة، حيث كتب قائلا: «كنت أسمع في مجالسنا القصص والروايات التي تتعلق بتاريخنا، وكانت مجالسنا مدارسنا، حيث تدور فيها الأحاديث عن الأبطال والوقائع، وسير القادة العظام والمعارك العسكرية»، كما كنت «أسمع من زملائي تاريخ الأجداد بشجاعتهم، حتى إذا ما سمعنا الأخبار من الإذاعات أو الوفود الزائرة حول مجريات أمتنا ونكساتها وتخلفها عن الركب الحضاري الشامل في البنية الأساسية وفي القوة العسكرية الرادعة، وقعنا في حيرة بين استرداد حقوقنا المغتصبة وبين الواقع المؤلم الذي تعيشه أمتنا العربية، ونحن جزء منها، ومن هنا بدأنا بتهيئة أنفسنا بالعلم والمعرفة، للحفاظ على أمجادنا وتراثنا، وأيقنتُ أن الجهاد في سبيل الله والوطن واجب مقدس».
وقد ساهمت تلك البيئة بقوة في تهيئة الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة لمستقبل «جعلني أشعر وأنا وليّ العهد بالمسئولية المُلقاة على عاتقي نحو البحرين وشبابها؛ مما جعلني أبادر بالانضمام لإحدى الكليّات العسكرية لأتمكّن من دراسة العلوم والفنون الحربية الحديثة».
وقد شكلت الأوضاع الإقليمية والدولية حافزا إضافيا للشيخ حمد للالتحاق بالكلية العسكرية في بريطانيا عام 1967، حيث قرّرت بريطانيا عام 1968 الانسحاب من الخليج العربي، وكثُرت المخاوف حول استقرار وأمن المنطقة، فكان على البحرين أن تعدّ نفسها قبل فترة كافية لمواجهة المطامع الأميركية والإيرانية في المنطقة بعد الفراغ الذي سيتركه الانسحاب البريطاني، وتشرع في بناء الدولة الحديثة، وتعدّ الكوادر الوطنية لإدارتها؛ الأمر الذي دعا الشيخ عيسى بن سلمان، إلى تشكيل قوة عسكرية تتولّى حماية البلاد وصيانة أمنها واستقرارها، والاسهام مع الدول الشقيقة لحماية المنطقة، وأوكل هذه المهمّة لإبنه الشيخ حمد ولي العهد (1968)؛ وهذا ما حفّز الشيخ حمد، والذي كان «يدرس في كلية القيادة والأركان في فورت ليفنورث بولاية كنساس الأميركية عام 1971، وحصل على الماجستير في العلوم العسكرية بدرجة الشرف في القيادة ورئاسة الأركان في 1973» ، على البدء بتنفيذ هذه المهمة، وذلك بإنشاء الجهاز الدفاعي بالدولة تحت اسم « قوة دفاع البحرين»، حيث تم تعيين الشيخ حمد قائدا عاما لقوة الدفاع.
وطوال فترة عمل المجلس الوطني في الفترة من (1974-1973)، واظب الشيخ حمد على حضور جميع جلسات المجلس ؛ مما أكسبه خبرة سياسية وإدارية واسعة، وأصبح الشيخ حمد «نائبا لرئيس مجلس العائلة الخليفية عام 1974، ورئيسىا للمجلس الأعلى للشباب والرياضة عام 1975».
وتولي الشيخ حمد مقاليد الحكم بعد وفاة والده، الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، في 6 مارس 1999، مُدشنا بذلك عهدا جديدا وزاهرا في البحرين، حيث استهل بداية حكمه بخطاب يجسد فيه رؤيته وتطلعاته للمستقبل، وكان ذلك في 13 مارس 1999، حيث خاطب أبناء شعبه في كلمته السامية الأولى قائلا: « ففي هذا الموقف التاريخي، توحّدنا مسئولية التطلّع بثقة للمستقبل، مع الاستعداد لمواجهة متطلبات المستقبل ومستجداته في عالم حافل بالتغيّرات، وذلك بما تملكه البحرين من قدرة على التطور والتجديد منذ أن بدأت مسيرة النهضة الحديثة». ولم يغب عن باله ضرورة التشاور مع أبناء الشعب في كيفية تجسيد تطلعاته قائلا: «ويهمنا أن نستطلع ما لديكم من آمال وتطلعات لخير البحرين في ظل ما تعارفنا عليه من تواصل بين القيادة والمواطن».
ونخلص مما سبق إلى أن التأسيس الأكاديمي والعسكري للشيخ حمد بن عيسى آل خليفة في فترة ولاية العهد قد جعل منه شخصية سابقة لعصرها في التفكير في التحديث والتطوير، انطلاقا من أمجاد الأجداد وتراثهم وقيمهم الأصيلة، وفي تشرّب الروح القومية العربية التي ألهمت الشيخ حمد للانخراط في دراسة العلوم العسكرية للدفاع عن الوطن، والذود عن كرامة الأمة العربية.
كما ركز الشيخ حمد على «دراسة تاريخ الشعب البحريني، فأنشأ مركزا للدراسات التاريخية (1978) وجمع الوثائق البحرينية من الدول ذات العلاقات التاريخية مع البحرين، واهتم على الأخص بوثائق أجداده، ونشرها بمجلة الوثيقة الذي يصدرها المركز».
وحيث أن أحد الشروط الأولية لكتابة التاريخ هو «القلق على المستقبل، والإسهام في صناعة المستقبل» ، فإن الوعي المبكر للشيخ حمد بن عيسى بالأحداث الوطنية والدولية، وتفاعله النشط مع الأوضاع العربية والإقليمية، قد أسهم إلى حد كبير في «استيعابه لمعطيات الحاضر، وتشخيصه الدقيق لخصائص المرحلة الراهنة على كافة قطاعات المجتمع، وامتلاكه رؤية شاملة واضحة لبحرين المستقبل، إضافة لسعيه لتهيئة المناخ الملائم للتحديث ضمن أجندة وطنية تُنفذ وفقا للأولويات الوطنية» ، والتي تجسّدت في مشروعه الإصلاحي (2001)، والذي شكّل علامة فارقة في تاريخ البحرين الحديث.
ويمكننا رصد تسلسل الخطوات الهامة التي اتخذها الشيخ حمد منذ استلامه الحكم عام 1999، وتشكل جوهر المشروع الإصلاحي، وهي :
«(1) توسيع هامش الحقوق والحريات المدنية، حيث تم إلغاء قانون ومحكمة أمن الدولة، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، والسماح بعودة المُبعدين في الخارج، وتشكيل الجمعيات السياسية، وإطلاق حرية التعبير وتنظيم الندوات والاعتصامات وما إلى ذلك .
(2) إصدار ميثاق العمل الوطني عام 2002، والذي حظي عند الاستفتاء عليه بموافقة 4,98% من شعب البحرين .
(3) إعمال التعديلات الدستورية، وتتمثل في تفعيل دستور 1973، حيث تقضى الصيغة المُعدّلة للدستور في 14 فبراير 2002 بتكريس النظام الملكي الدستوري الديموقراطي الوراثي، مع اعتماد نظام المجلسيّن في المجال التشريعي: المجلس النيابي المُنتخب شعبيا، ومجلس الشورى المُعيّن من قبل الملك.
(4) تفعيل الحياة النيابية في البحرين .
(5) اتخاذ مبادرات لتأهيل المرأة البحرينية وتحقيق تطلعاتها بالمساواة مع الرجل في الحقوق؛ وذلك بإنشاء المجلس الأعلى للمرأة عام 2001، ودعم مشاركتها في قيادة المجتمع البحريني.
(6) انتهاج سلوك دولي متوازن في السياسة الخارجية للبلاد».