سعي الخطاب الرسمي (الملكي) إلى رفع سقف توقعات المواطنين بالدعوة لبناء «مملكة دستورية في مصاف الممالك الدستورية»
بقلم : د. شرف محمد علي المزعل
تختتم المزعل دراستها بنتائج أعمدة الخطاب الإصلاحي للملك حمد بن عيسى آل خليفة، والمفاهيم والمبادئ والقيم التي تضمّنتها الكلمات السامية في الفترة من (1999 – 2011)، قد رسمت الخطوط العريضة للمشروع الإصلاحي للبُنى المؤسّسية لنظام الحكم بالبحرين، وهي بذلك أصبحت تجسيدا فعليا للمطالب الإصلاحية التي طُرحت منذ العشرينيات من القرن العشرين، والتي استمرت في الظهور والتبلور بشكل أوضح في فترات تاريخية متباينة. كما أبرزت الدراسة تفاعلاً بين المتغيِّرات الداخلية والخارجية في تطوّر الحركة الإصلاحية بمملكة البحرين في تلك الفترة التاريخية.
ورغم أن الخطاب الإصلاحي الملكي تميّز بالوضوح والتحديد والحزم في طرح مطالب الإصلاح السياسي، واستخدم أساليب منطقية ومصادر مرجعية لتسويغها، إلاّ أن نتائج تحليل محتوى الخطاب تشير إلى أن هذا الخطاب كان الخطاب الإصلاحي للملك حمد في تلك الفترة التاريخية كان صريحا في طرح مرئيات الإصلاح، لكنه لم يكن حازما بما يكفي لاتخاذ إجراءات حاسمة باتجاه الإصلاح والتحديث، بل اختار التريّث لتأمين تماسك القوى الداخلية الداعمة للمشروع الإصلاحي.
ويمكن تفسير ذلك بعدّة أسباب، أبرزها غياب النموذج الإصلاحي في منطقة الخليج العربي، والذي يمكن توظيف إيجابياته ومزاياه لإنجاح المشروع الإصلاحي للملك حمد بن عيسى، وسعي الخطاب الرسمي (الملكي) إلى رفع سقف توقعات المواطنين بالدعوة لبناء «مملكة دستورية في مصاف الممالك الدستورية» في الدول الشقيقة، حيث رأى الأنصاري أن «المملكة الدستورية في البحرين قد وجدت توأمها في المملكة الدستورية في المغرب». وكان يجب أيضا مراعاة التدرّج في عملية الإصلاح؛ ويعني ذلك «إحداث تعديل جزئي في شكل الحكم أو الدولة بصورة مدروسة ومنتظمة خطوة بخطوة، وليس دفعة واحدة»، مع مراجعة النتائج في كل مرحلة من مراحل المشروع الإصلاحي، والتحقق من سلامة الإجراءات المتخذة، وبما يؤدي إلى «تطوير كفاءة النظام السياسي وفاعليته في بيئته المحيطة، داخليا وخارجيا».
غير أن الركائز والمفاهيم والمبادئ والقيم الأساسية المُتضمنة في الخطاب الإصلاحي الملكي لا تزال تشكل مُلهما وحافزا لجيل الشباب الصاعد في مملكة البحرين بالمشاركة النشطة في بناء دولة القانون والمؤسسات والحريات الديموقراطية وحقوق الإنسان، والتي تضمن حقوق المواطنة المتساوية لجميع المواطنين. وحيث أن المشروع الإصلاحي يلقى تأييدا عارما من قبل أبناء الشعب، والقوى السياسية والاجتماعية الداخلية والخارجية الداعمة للإصلاح في البحرين، فإن هذا يمثل حافزا للحكم «للدخول مع القوى السياسية المؤيدة لميثاق العمل الوطني في حوار جدِّي لا يهدف إلى وضع حلول لخلافات شكلية أو قضايا إجرائية، بل إلى تأسيس مصالحة وطنية مُستدامة»
وبالنسبة الى المبحث الثالث المتعلق بأثر العوامل الداخلية والخارجية في تغيّر أسلوب الخطاب الإصلاحي الملكي ، يشير الباحث محمد عز العرب إلى أن التفاعل بين العوامل الداخلية والخارجية قد ساهم بقوة في الدفع باتجاه الإصلاح السياسي في البحرين.
فهناك مجموعة من العوامل الداخلية (المحلية)، وأبرزها الحاجة إلى صياغة عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمواطنين، بحيث يتم إدارة شئون الحكم في البلاد علي أساس إعلاء رابطة «المواطنة» بين الفرد ودولته، وليس بين الفرد والعائلة التي ينحدر منها؛ وكذلك الحاجة إلي مواجهة مشكلة تراكمت لسنوات طويلة، وهي عدم تمثيل النظام السياسي لمصالح بعض شرائح المجتمع.
وثمة عوامل أخرى ساهمت في الإسراع بعملية الإصلاح السياسي، ومن ضمنها انكماش حجم العائدات النفطية للبلاد (1998) وقوة المعارضة السياسية، واتساع تأثير الطبقة الوسطى الجديدة بفضل ارتفاع مستوى التعليم؛ حيث أنبرى أفراد هذه الطبقة للمطالبة بإحداث إصلاحات دستورية، وتكريس مبدأ الفصل بين السلطات، وتفعيل المشاركة السياسية، وتمكين المرأة، وتكريس مبدأ المواطنة كأساس للعلاقة بين الحاكم والمحكوم.
أما بالنسبة للعوامل الإقليمية، فتتمثل، في تبلور مطالب للاصلاح السياسي في جميع دول مجلس التعاون الخليجي، والتحولات الديموقراطية في البلدان العربية، والسياسة الخارجية الإيرانية التي أعطت دفعة قوية للقوى والتيارات المعارضة في دول الخليج؛ وقد أدي ذلك إلي ردود فعل مضادة من قبل نظام الحكم. أما العوامل الدولية، فقد تمثلت في الثورة في مجال الإعلام والمعلومات والاتصالات، والضغوط الخارجية الأميركية على الدول العربية للقيام بإصلاحات، والتي سبق ذكرها.
ويكشف تحليل الخطاب السياسي الإصلاحي للملك حمد عن تغيّر واضح في أسلوب هذا الخطاب ونبرته، وذلك تبعا لتفاعل المتغيِّرات الداخلية والخارجية المذكورة، وأثر ذلك التفاعل في مسيرة المشروع الإصلاحي للملك حمد. ويتبين من تحليل الخطب أن العوامل الداخلية والخارجية، والمراحل التي مرّ بها المشروع الإصلاحي للملك حمد، تركت أثرا هاما في أسلوب الخطاب الملكي.
فقد مثلت المرحلة الأولى للمشروع الإصلاحي للملك حمد ، بداية التغيير الديموقراطي الفعلي في البلاد، ويمكننا أن نطلق عليها «مرحلة البناء والإنجاز»، حيث شهدت البلاد عددا من الإنجازات والنجاحات سابقة البيان، والتي تحققت في السنوات الخمس الأولى للمشروع الإصلاحي. وامتدت هذه الفترة حتى لحظة اتخاذ قوى المعارضة السياسية القرار بمشاركة بنواب يمثلونها في المجلس النيابي. وأبرزت مفردات الخطاب الإصلاحي في تلك الفترة عزيمة واضحة لدى نظام الحكم لتفعيل عملية الإصلاح والتغيير نحو الأفضل وجعلها أمرا واقعا في حياة الناس، وقدرا كبيرا من الثقة في تعاون المواطنين مع السلطتيّن التشريعية والتنفيذية لإنجاز مهمات الإصلاح السياسي سالفة الذكر، حيث رسم نظام الحكم آمالا كبيرة على تحويل المملكة إلى دولة القانون والمؤسسات، وترسيخ الأمن والاستقرار فيها، وتعزيز الولاء والانتماء الوطني والوحدة الوطنية.
أما المرحلة الثانية ؛ أيّ منذ أن شاركت قوى المعارضة السياسية في البرلمان، وحتى إعلان انسحابها منه، كرد فعل على موقف السلطة تجاه الأحداث المؤسفة التي ألمّت بالبلاد (2011)، وما تلاها من تطورات، فيمكن أن نسمّيها «مرحلة التحديات».
فمع أن نواب البرلمان لا يملكون سوى صلاحيات تشريعية محدودة في ظل النظام البرلماني بسبب اللائحة الداخلية للبرلمان، والتي تم صياغتها بما يحدّ من قدرتهم على ممارسة أدوارهم الرقابية والتشريعية، إلا أنه «كان لمشاركتهم تأثيرات إيجابية على سياسة الحكومة في عدة مجالات، حيث ازدادت الاستثمارات الحكومية في مجال توفير المساكن للمواطنين، وأطلقت الحكومة أول برنامج إعانة للبطالة في تاريخ البلاد». وبفضل التعاون بين السلطة التشريعية والتنفيذية، تم تحقيق بعض الإنجازات، ومنها «تعديل بعض أحكام اللائحة الداخلية للمجلس، وإجراء بعض التعديلات الدستورية، وتطوير السلطة القضائية، ومراجعة التنظيم الدستوري والإداري، وتعديل قانون الجمعيات السياسية، وتوسيع صلاحيات ديوان الرقابة المالية والإدارية، وصيانة موارد الدولة، ومراقبة الدين العام، وتشريع ضمانات قانونية لحقوق الإنسان، وتطوير قانون التجمعات، ودعم الضمان الاجتماعي، وتوظيف الجامعيين، وتحسين الخدمات الجامعية والصحية، ورعاية الشباب» .
غير أن الخلافات التي نشأت داخل المجلس النيابي بخصوص بعض التجاوزات المخالفة للقانون في بعض مؤسسات الدولة، وردود الفعل المتضاربة بشأنها، قد أبرزت تأثير المعوقات الداخلية الأساسية لعملية التحول الديمقراطي في البحرين، والتي تتمثل في طبيعة الدولة الوطنية السائدة فيها، والتي «لم تتمكن من أن تصبح الدولة المؤسّسة القادرة علي توجيه المسار وتطوير المجتمع بالقدر المأمول»، وقد يُعزى ذلك إلى عدم إيلاء قضايا المواطنة والانتماء الوطني اهتماما كافيا. وترافق ذلك مع المعوقات الإقليمية، والتي تتمثل في «التهديدات الخارجية التي جعلت مملكة البحرين تواجه اختيارات صعبة بين أولويات الأمن الداخلي واعتبارات التحول الديمقراطي والانفتاح السياسي»، وكذلك المعوقات الدولية، والتي انعكست في «التهديدات المحتملة للمصالح الأجنبية الضخمة في البحرين، حيث أن بلوغ مرحلة أعلي من التوجه الديمقراطي يحمل خطرا علي هذه المصالح، في ضوء عدم ترحيب بعض القوى بالوجود الأميركي في الخليج» .
وفي مواجهة العوامل الداخلية، والمتمثلة في ازدياد نفوذ التيارات السياسية التي لا تتوافق رؤيتها لكيفية إدارة شئون البلاد بصورة كلية مع مواقف الحكم، والعوامل الإقليمية، والتي انعكست في زيادة وتيرة التدخلات االخارجية في البلاد في أثناء أحداث فبراير 2011، أكّد الملك حمد في اليوم العالمي لحرية الصحافة في 3 مايو 2011 على «عدم استغلال المنابر الإعلامية في التحريض على العنف والتخريب والإرهاب أو الخروج على القوانين والأنظمة وانتهاك كرامة الأشخاص»، وحذر الملك حمد الساعين لإفشال المشروع الإصلاحي في اجتماع مجلس الوزراء في 29 يونيو 2011 قائلا بأن النظام «لن يسمح لأي متشدد يدعو للفوضى باختطاف تجربتنا الإصلاحية، ولا يمكن أن نترك البلد نهبا لمحاصصات تجزيئية تفتته ولا تجمع أهله»، وعندما تسلّم الملك تقرير اللجنة المستقلة لتقصّي الحقائق في 23 نوفمبر 2011، حذّر من التدخل الإيراني في الشأن المحلي قائلا: «لقد رأينا هجمة إعلامية إيرانية شرسة تحرّض أبناء وطننا على التخريب والعنف، وهذا تحدّ مباشر لسيادة وطننا، وتهديد لاستقرار المنطقة، ونأمل من إيران إعادة النظر في مواقفها».
أما المرحلة الثالثة؛ أيّ «مرحلة التقييم»، فتبدأ في يوليو 2011، عندما تم إطلاق الحوار الوطني بهدف المراجعة النقدية للمشروع الإصلاحي، وإجراء تقييم لمسيرته وآفاقه. فعندما تسلّم الملك حمد تقرير اللجنة المستقلة لتقصّي الحقائق في 23 نوفمبر 2011، قال مُخاطبا رئيس اللجنة الدكتور محمود بسيوني: «نحن عاقدون العزم على ضمان ألاّ تتكرر الأحداث المؤسفه والترويع والخراب، وعليه يجب إصلاح قوانيننا لتتماشى مع المعايير الدولية، تم إنشاء صندوق التعويض للمتضررين، ولن نتسامح مع سوء معاملة الموقوفين والسجناء ويؤسفنا ويؤلمنا معرفة أن ذلك قد حدث فعلا كما ورد في تقريركم ولن نضع أي عذر يقوم على خصوصية وطنية تستثنينا عن الغير».
ويمكن القول أنه منذ ذلك الحين، يشهد المرء تباطئا في وتيرة المشروع الإصلاحي، وتراجعا في زخمه المعهود في أيامه الأولى، حيث لم يعد موضوع الإصلاح يتصدر أولوية الاهتمام بالخطاب الرسمي.
وقد يُعزى ذلك إلى سعة صدر الملك حمد، ورغبته في استمزاج آراء الاتجاهات المختلفة داخل نظام الحكم، والتي تدعو إلى التريث وعدم التسرّع، وأخذ المتغيرات الإقليمية والدولية بالحسبان. ففي يوم الاحتفال بالعيد الوطني المجيد وعيد الجلوس في 16 ديسمبر 2011، طمأن الملك حمد أبناء الشعب بأن البلاد تسير في الطريق الصحيح قائلا «إن مملكة البحرين ستبقى بلد القانون والمؤسسات وبلدا للحرية والتعايش السمح بين مختلف الأديان والثقافات، وهذا الانفتاح سيبقى السمة الأساسية لشعبنا ومؤسساتنا، وأننا على ثقة بأن الأيام المقبلة ستعكس الصورة الحقيقية الصحيحة للأوضاع في بلادنا، حيث لا يصحّ إلا الصحيح» (الديوان الملكي، بدون تاريخ، ج، ص. 175».
وبتحليل مضمون الخطاب الإصلاحي الشامل للملك حمد، يبرز عدد من الحقائق، وأهمها:
الحقيقة الأولى: إن الخطاب الإصلاحي للملك حمد بن عيسى آل خليفة يعكس الفكر الاستراتيجي للملك ويعزز دوره المحوري في التحديث والإصلاح، حيث أدرك الملك منذ بداية حكمه أن التغيير هو سنّة الحياة، وأنه يعتبر متطلبا أساسيا لمجتمع أكثر قوة وصلابة من خلال رؤية شاملة يتوافق عليها جميع أفراد الشعب مع الحكومة، ويشارك الجميع في صنعها على أساس المشاركة الديموقراطية والحوار الوطني والوحدة الوطنية. وقد حدد تأسيس دولة القانون والمؤسسات، وضمان الأمن والاستقرار، وتعزيز الولاء والانتماء الوطني كدعائم أساسية للإصلاح السياسي والمجتمعي المنشود.
الحقيقة الثانية: إن الخطاب الإصلاحي للملك حمد يعكس السمات الشخصية للملك، والتي تتمثل، كما سبق ذكره، في التزامه بقيم التسامح والعفو والحزم والإرادة الصلبة للتمسك بمضامين ميثاق العمل الوطني، والتي تتضمن رؤية وطنية متكاملة ومتوازنة لحقوق المواطنين وواجباتهم الوطنية. وقد سعى الملك في خطاباته للتأكيد على التدرّج في عملية التحديث والإصلاح، فمملكة البحرين لها خصوصيتها، وعلى قناعته الراسخة بأن ترسيخ قيم التعاون والتشاور المستمر بين الحكومة والشعب هو صمام الأمان لنجاح المشروع الإصلاحي، وأن التحوّلات الفجائية ليست محمودة العواقب، ولا بدّ من الاتعاظ بتجارب الدول التي فشلت في تحقيق أهدافها بسبب التدخلات والضغوط الخارجية.
الحقيقة الثالثة: إن الملك حمد لم يكن يسعى لأن يفرض على المواطنين أو القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني رؤيته الذاتية للإصلاح والتحديث، والتي آمن بها منذ أن كان وليا للعهد، وحدّد ملامحها وطريقة تنفيذها في مجمل كلماته السامية، واستلهمها من عمق بصيرته وفهمة للبيئة الداخلية للمجتمع البحريني، ومن أجداده الذين أدركوا أهمية المشاركة الشعبية، وحاولوا تجسيدها في الواقع المحلي، كل بأسلوبه الخاص، بل أراد أن تكون هذه الرؤية محل نقاش بين جميع أبناء الشعب، وبذلك أراد الملك حمد أن يكون الإصلاح معبرا عن تطلعات المجتمع البحريني وطموحاته المشروعة، داعيا في أحلك الظروف إلى إجراء الحوار الوطني للتوافق على آليات جديدة لتطوير المشروع، ومناشدا القوى الخارجية بمراعاة مبدأ حسن الجوار، والتوقف عن التدخل في الشئون الداخلية للبلاد.
الحقيقة الرابعة: لقد كان الملك حمد يعلق، في كلماته السامية، أمآلا كثيرة على دور المجلس الوطني في إنجاح المشروع الإصلاحي، وتحقيق الوحدة الوطنية، فقد أكّد الملك في حفل افتتاح دور الانعقاد الثالث من الفصل التشريعي الثاني للمجلس الوطني في 19 أكتوبر 2008، على أن «المجلس الوطني بجناحيّه يمثل كسلطة تشريعية وحدة الوطن والشعب، فهو المظلة الجامعة لمختلف ألوان الطيف الوطني والعاكسة لوحدتها. ففي بلادنا، وعلى أساس التعايش قامت الحضارة، وتأسست الدولة الحديثة ونشأ المجتمع المدني» . لكن هذا لم يتحقق بشكل كامل لاختلاف الرؤى بشأن آليات تطوير الدعائم الأساسية للإصلاح السياسي الشامل بالبلاد.