DELMON POST LOGO

قراءة نقدية لقانون التنفيذ الجديد .. الضرورة التي تبرر إصدار قانون التنفيذ لحماية المدين (1- 3)

بقلم : المحامي حسن علي إسماعيل

بلا شك أن التحول الالكتروني في الخدمات القضائية والعدلية في مملكة البحرين فيما استحدثه من رفع الدعاوى القضائية عبر النظام الالكتروني، وإعلان أطراف الدعوى عبر الرسائل الالكترونية، انعكس إيجابيا على سرعة الفصل في الدعاوى المنظورة أمام محاكم البحرين، ولكن أثبات الحقوق وحمايتها لا تتحقق بمجرد صدور الاحكام القضائية أو التسريع في إصدارها، إذ لابد أن يكون ذلك مقترناً باحترام أحكام القضاء ووجوب تنفيذها، فالحكم القضائي إذا افتقد للتنفيذ الفاعل زالت أهميته، فالحماية القضائية للحقوق لا تكتمل الا بتمام تنفيذ الاحكام مما ينعكس ايجابا على تعزيز سيادة القانون وثقة الافراد بالقضاء، وترسيخ هيبة الدولة ومبدأ سيادة القانون.

ودون شك أن إجراءات تنفيذ الاحكام القضائية في ظل القانون القديم ونقصد به قانون المرافعات المدنية والتجارية رقم (12) الصادر عام 1971، فيما نص عليه في الباب الثامن المتعلق بالتنفيذ قد شابت بعض مواده عيوب ونواقص في النص وفي التطبيق وكانت بحاجة إلى تعديل يعزز من سرعة تنفيذ السندات التنفيذية ويضمن حماية حقيقة لحقوق المنفذ له، وقد تم الغاء هذا الباب بموجب قانون التنفيذ الجديد بأداة المرسوم بقانون في غيبة المجلسين تحت رقم (22) لسنة 2021، الصادر في 9 سبتمبر 2021، نشر في الجريدة الرسمية بتاريخ 16 سبتمبر 2021، وعرض على مجلس النواب الذي اقره في الجلسة العادية العشرين في دور الانعقاد الرابع من الفصل التشريعي الخامس المنعقدة بتاريخ 15فبراير 2022، وأحاله لمجلس الشورى الذي اقره، وبدأ تطبيقه وسريانه في 17 مارس 2022.

فهل حققت أحكام قانون التنفيذ الجديد سرعة تنفيذ السندات التنفيذية وضمنت حماية حقيقة لحقوق الدائن المنفذ له؟

للإجابة على هذا السؤال المركزي يتعين طرح الأسئلة الفرعية ومناقشتها في المحاور التالية:

المحور الأول: هل يصح أن تكون جائحة كورونا سبباً في إصدار قانون التنفيذ الجديد؟

المحور الثاني: هل من داع فيما استحدثه قانون التنفيذ الجديد بوجود شركات المنفذ الخاص لتنفيذ السندات التنفيذية؟

المحور الثالث: إلغاء حبس المدين وتقنين المنع من السفر في قانون التنفيذ الجديد هل يحقق حماية فعلية لحق الدائن المنفذ له؟

أولاً: هل يصح أن تكون جائحة كورونا

الضرورة التي تبرر إصدار قانون التنفيذ لحماية المدين؟

تبرر المذكرة الايضاحية المقدمة من هيئة التشريع والرأي القانوني المرافقة لقانون التنفيذ الجديد صدوره بأداة المرسوم بقانون، يمكن الاطلاع عليها من مضبطة جلسة مجلس النواب العشرين المنعقدة بتاريخ 15 فبراير 2022 من دور الانعقاد الرابع من الفصل التشريعي الخامس، (بما سببته جائحة كورونا من خسائر فادحة للعديد من الناس وتعثر الكثير منهم عن الوفاء بالتزاماتهم وما ترتب على ذلك من أثار اقتصادية على كافة المتعاملين وتعثر العديد منهم عن سداد ديونهم فكان لابد من وجود آلية تساهم في التعجيل بالتعافي عن طريق إيجاد نظام قانوني يساهم في حماية الأطراف من خلال الاتي:

1- سرعة استيفاء الدائن لحقوقه.

2- حماية المنفذ ضده (المدين) من زيادة مديونيته.

3- حماية الدائنين المحتملين من التعامل مع مدين متعثر في السداد.

4- الاستعانة بالقطاع الخاص من منفذين خاصين ومأموري تنفيذ، وكذلك خصخصة الخدمات المساندة للتنفيذ

5- تقسيم مسارات التنفيذ بما يتناسب مع طبيعة المنفذ ضده.

6- وضع نظام لإفصاح المنفذ ضده.

7- الغاء القبض على المنفذ ضده وحبسه.

8- وضع عقوبات جنائية لتهريب واخفاء الأموال والإخلال بواجب الإفصاح).

ويتضح من التبرير سالف البيان الذي وضعته السلطة التنفيذية بأن جوهرة هو حماية من تعثر من المدنيين عن الوفاء بالديون المتخلفة في ذمتهم لصالح الغير بسبب جائحة كورونا، غير ان هذا التبرير يخالف الأسس الذي يتعين أن يبنى عليها صياغة وإصدار التشريع المتعلق بإجراءات تنفيذ الاحكام القضائية والسندات التنفيذية الأخرى التي تحوز حجية الأمر المقضي، ذلك أن هذه السندات التنفيذية بما فيها الاحكام القضائية تتعلق وتستند في وجودها على مصادر الالتزام، وتكون تحت بصر القضاء الموضوعي وهو المختص بالنظر في مدى تأثر أي التزام بجائحة كورونا من عدمه، ولا يصح أن يحصل المدين على حماية من قاضي التنفيذ لأنه تعثر بسبب الجائحة كما بررت ذلك السلطة التنفيذية في مذكرتها الايضاحية لصدور قانون التنفيذ بأداة المرسوم بقانون.

وقد قضت محكمة التمييز بجلسة 16 من مايو سنة 2022، في الطعن رقم (63) لسنة 2021 (إن المقرر-في قضاء هذه المحكمة– أن المادة 130 من القانون المدني قد نصت على أنه اذا طرأت بعد العقد، وقبل تمام تنفيذه ظروف استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها عند ابرامه، وترتب في حدوثها أن تنفيذ الالتزام الناشئ عنه، وإن لم يصبح مستحيلا، فقد صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة جاز للقاضي بعد الموازنة بين مصلحة الطرفين أن يرد الالتزام المرهق الى الحد المعقول، بأن يضيق من مداه أو يزيد في مقابله، ويقع باطلا كل اتفاق خلاف ذلك، لما كان ذلك، وكان الفيروس المعروف باسم كوفيد 19 ـ كورونا ـ قد اجتاح العالم على نحو ينذر بعواقب وخيمة ما لم تتم مواجهته بسلسلة من الإجراءات، والتدابير التي تختلف من دولة لأخرى وفقاً لظروفها، وكان من بين التدابير الاحترازية التي اتخذتها مملكة البحرين اعتباراً من أول شهر مارس 2020 وقف غالبية الأنشطة الجماعية في مختلف المجالات، وغلق الأماكن العامة منها المقاهي ودور الحفلات والمعارض وغيرها، ومنع استخدام برك السباحة وصالات الرياضة ونحوها، بل وامتدت تلك التدابير لتشمل جميع وسائل النقل الدولية البحرية والجوية والبرية، وهو ما ترتب عليه، وبلا شك تأثر جميع المنشآت السياحية، من حيث انخفاض الإيرادات والأرباح، ومن بينها محل التداعي، سيما وان نشاط الطاعنة وفقا للثابت من السجل التجاري نشاط خدمة تقديم الطعام والمشروبات مع الشيشة، ولما كان ما سلف يعد من الحوادث الاستثنائية العامة التي لم يكن في الوسع توقعها من طرفي الطعن، وهو ما يضحى معه تنفيذ الطاعنة التزامها التعاقدي ـوإن لم يصبح مستحيلاًـ مرهقاً لها، ويهددها بخسارة، إلا أن الحكم المطعون فيه قد خالف هذا النظر، وألزمها بالأجرة عن الفترة من شهر يناير، وحتى شهر ديسمبر لعام 2020 تأسيسًا على ما انتهى اليه من عدم قيام القوة القاهرة نتيجة جائحة كورونا، وعدم انطباقها عليها، نتيجة عدم انطباق الشرط الثاني من شرطي تخفيض الأجرة طبقا للعقد، ملتفتًا عن الظرف الاستثنائي المحيط، ومدى تأثيره على نشاط الطاعنة، بما يعيبه بعيب الفساد في الاستدلال، الذى جره الى القصور في التسبيب، بما يوجب نقضه جزئيًا في شأن الاجرة التي قضى بها).

ولعل أبرز ما يستفاد من هذا الحكم أن جائحة كورونا هي ظرف استثناني يخضع تقدير وجوده من عدمه لسلطة قاضي الموضوع وفي مدى قانونيته لرقابة محكمة التمييز، وأن كان هذا الحكم يتعلق بالعقد كمصدر من مصادر الالتزام فانه ينسحب على مصادر الالتزام الأخرى.

وفي ندوة إلكترونية عقدتها هيئة التشريع والرأي القانوني بعنوان (العقود في جائحة كورونا بين الظروف الطارئة والقوة القاهرة) في 14 يوليو 2022، قال فيها عضو هيئة التشريع والرأي القانوني المستشار محمد المهزع

أنه (برؤية من القيادة الحكيمة وتوجيهات من القيادة السامية التي تسطر دروساً في التعامل مع الظروف العصيبة، تم إطلاق حزمات اقتصادية بلغت 4.3 مليار دينار بحريني تركزت في دعم المواطنين والقطاع الخاص، لضمان الاستقرار والاستدامة، واستقرار المراكز القانونية في كافة التعاملات المدنية والتجارية والإدارية، كما تم اتخاذ العديد من القرارات التي ساهمت في تقليل آثار الجائحة سواء على العقود الخاضعة للقانون الخاص أو العقود الخاضعة للقانون العام الإدارية).

أفاد بأنه (وإن كانت جائحة فيروس كورونا تعتبر حالة استثنائية عامة غير متوقعة، ليس للمتعاقد دخل في حدوثها ولا يمكن دفعها، إلا أن ما سبق غير كافٍ لتكييف الجائحة وآثارها بأنها قوة قاهرة أو ظرف طارئ، بل يجب بالإضافة إلى ما سبق دراسة كل عقد على حدة للتأكد من أن الجائحة تحققت بين النطاق الزمني للعقد أي بعد إبرامه وقبل الانتهاء من تنفيذه، كما يجب البحث في ما إذا كانت الجائحة هي السبب المباشر للخسارة غير العادية المرهقة للمتعاقد أو ترتب عليها استحالة تنفيذ العقد، وأن التكييف القانوني لواقعة بعينها ما إذا كانت قوة قاهرة أو ظرفاً طارئاً هو من اختصاص السلطة القضائية ولها وحدها إبداء حكمها بالقسطاس المستقيم، ولا يمكن تطبيق الظروف الطارئة أو القوة القاهرة على العقود ما لم يترتب عن الحادث آثار تستدعي ذلك، فلا يستقيم الاحتجاج بتلك الجائحة والإرهاق الذي تسببت به آثارها بمعزل عن الدعم الممنوح للتخفيف من آثار تلك الجائحة، وسيكون تطبيقها في ظل السياسة الرشيدة على أضيق الحدود).

ولعل أهم ما أشار إليه المستشار محمد المهزع في محاضرته، بانه يجب البحث فيما إذا كانت الجائحة هي السبب المباشر للخسارة غير العادية المرهقة للمتعاقد أو ترتب عليها استحالة تنفيذ العقد، فلا يستقيم الاحتجاج بتلك الجائحة والإرهاق الذي تسببت به آثارها بمعزل عن الدعم الممنوح للتخفيف من آثار تلك الجائحة.

وإذا كان الحال كذلك فانه لا يجوز أن تكون هذه الجائحة الاستثنائية المبرر لصدور قانون التنفيذ الجديد بهدف حماية المدين، فليس كل منفذ ضده كان متعثراً بسبب الجائحة، وأن القانون لم يصدر لفترة استثنائية مؤقته تزول قوته القانونية بزوال الجائحة فهو كان ومازال سارياً وسيظل معمولاً به في المستقبل ما لم يعدل او يلغى من قبل السلطة التشريعية حسب الأوضاع والاحكام التي نص عليها الدستور.

لقد أثبت واقع التطبيق لقانون التنفيذ الجديد خلال أكثر من سنتين أنه لم يؤدي لسرعة استيفاء الدائن لحقوقه على الإطلاق كما جاء في التبرير بل أصبح هذا الدائن الذي يتعين أن يكون الأولى بالحماية هو المتعثر، بل أن هذا التطبيق أكد على أن القانون الجديد بما استند عليه من تبريرات التي اشرنا عليه قد حمى المدين وكرمه، ووجد هذا المدين- سواء كان متعثراً من الجائحة أم لم يكن كذلك- في الإجراءات الجديدة سعه وراحة في أن يزيد من تلاعبه في السوق وصال وجال وأسس من الشركات بكافة أنواعها وأبرزها الشركات ذات المسئولية المحدودة، التي يمكن للأجانب طبقا لتعديلات قانون الشركات تأسيسها منفردين دون مشاركة بحريني بحجة تشجيع الاستثمار، فاشتروا وباعوا واستثمروا وحولوا أموالهم للخارج، وبل حصلوا على دعم من تمكين قبل الجائحة وخلالها وبعدها، ثم يأتي قانون التنفيذ لحمايتهم على حساب الدائنين.

باختصار مختصر ما كان للسلطة التنفيذية أن تستند لهذه المبررات في إصدار هذا القانون وكان عليها أن تركن في أسباب إصداره إلى ما كان يعتري الاجراءات التنفيذية القديمة من بعض القصور والنواقص أما بإجراء تعديلات عليها في قانون المرافعات أو إصدار قانون جديد يعالج فيهما هذه النواقص ويكون ذلك بصيغة مشروع قانون يقدم للمجلسين ويأخذ دوره في النقاش، وأن التبرير الذي ركنت إليه السلطة التنفيذية (جائحة كورنا) في إصدار قانون التنفيذ الجديد ينسف ويثبت عدم صحة كل الأحكام التي جاءت بهدف حماية المدين المتعثر من الجائحة، ومن ثم يكون شرط التدبير الذي لا يحتمل التأخير (حالة الضرورة) التي أوجبته المادة (38) من الدستور لإصدار المراسيم بقوانين غير متوافر فيه، فلا ضرورة هناك ولا تدابير لا يحتمل التأخير حين نص القانون في المادة (6) من الديباجية على أنه، (ويُعمل به بعد مضي ستة أشهر من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية).

وما كان للسلطة التنفيذية أن تستند لهذه المبررات في إصدار هذا القانون وكان عليها أن تركن في أسباب إصداره إلى ما كان يعتري الاجراءات التنفيذية القديمة من بعض القصور والنواقص أما بإجراء تعديلات عليها في قانون المرافعات أو إصدار قانون جديد يعالج فيهما هذه النواقص ويكون ذلك بصيغة مشروع قانون يقدم للمجلسين ويأخذ دوره في النقاش.

 .. يتبع