بقلم : المحامي حسن إسماعيل
ثالثاً: إلغاء حبس المدين لا يحقق حماية فعلية للدائن
وتعديل المنع من السفر نال من أهميته (3)
أولاً: في حبس المدين
كان حبس المحكوم عليه (المنفذ ضده) فعالاً ومهماً ووسيلة ضاغطة لحمله على تنفيذ السندات التنفيذية طبقا للأحكام التي نص عليها الباب الثامن من قانون المرافعات المدنية والتجارية الملغي. إذ يستخلص منها أن المشرع بموجب هذه الاحكام أنه:
1. أخذ بحبس المدين وأجازه (م 256).
2. وأن الحبس يكون بطلب من الدائن المنفذ له ويصدر بموجب قرار من قاضي التنفيذ (المواد 269,271) وهذا يعني أن للمنفذ له الحرية في طلب حبس مدنية من كونه إجراء اختياريا، ويكون للقاضي سلطة تقديرية في قبول طلب الدائن حبس المنفذ ضده من عدمه تبعا لتوافر شروط الحبس الأخرى
3. مدة الحبس ثلاثة أشهر كحد اقصى في ملف الدعوى الواحدة (حسب المادة 272)، ويقدر القاضي المدة تبعا لسلطته التقديرية بالنظر لمقدار الدين ودرجة مماطلة المدين وظروفه الأخرى، ويجوز للدائن المنفذ له إذا كانت مدة الحبس تقل عن ثلاثة أشهر أن يطلب تمديد حبس المدين لاستكمال مدة الثلاثة أشهر.
4. ينقضي الحبس التنفيذي إذا قدم المدين كفيلاً ضامناً بشرط أن يكون الكفيل مقتدرا، وأن يتعهد هذا الكفيل بالوفاء بالدين كاملا مع مصاريفه، وأن توافق عليه المحكمة وتقتنع باقتداره (حسب المواد 258، 270، 272) كما ينقضي الحبس التنفيذي بالوفاء بالدين مع مصاريفه فيخلى سبيل المنفذ ضده فوراً (حسب المادة 268).
غير ان قانون التنفيذ الجديد ألغى حبس المدين كلياً، فهل في هذا الإلغاء حماية لصاحب الحق الدائن في الحصول على حقه وهو الأولى بالحماية؟
نسارع إلى القول من واقع تجربتنا في مهنة المحاماة أن حبس المدين كان فعالاً ووسيلة ضاغطة لحمل المدين على تنفيذ السندات التنفيذية وحصول المنفذ له على حقه، وأكاد أجزم أن هذه التجربة موجودة عند كثير من زملائي في المهنة، كما أن الواقع خلال السنتين ونيف من تطبيق القانون الجديد اثبت أن إلغاء حبس المدين مطلقاً دون تقنينه بحيث يحقق التوازن ما بين الأطراف، أعطى المحكوم عليه الفرصة للتهرب مما ذمته من دين بل وصل الحال به إلى حد السخرية بالأحكام القضائية (روح إلى المحاكم إن حصلت على حقك).
وقد استند المؤيدون لإلغاء حبس المدين على ما يلي:
أولاً: إن حبس المدين يؤدي لتعطيل نشاطه الاقتصادي ويحرمه من العمل، ولا يشجع المستثمرين الأجانب على الاستثمار في داخل البحرين في ظل التشريعات التي تشجع على هذا الاستثمار ومن أبرزها قانون الشركات التجارية الذي أجاز للأجانب بشريك غير بحريني، فأن هذا الأجنبي أن أصبح مديناً فأن وجود القبض يهدده ولا يشجعه على الاستثمار.
غير هذه الحجة مردود عليها بأنها جاءت لحماية التاجر الذي يمارس نشاطاً تجارياً سواء كان يملك مؤسسة فردية أم شريك في شركة وأصبح مثقلا بالديون لغيره من التجار أو الافراد، وقد كشف الواقع منذ تطبيق القانون الجديد أن إلغاء القبض جاء على حساب الدائنين، وشجع مثل هؤلاء التجار رغم تراكم ما عليهم من ديون الاستمرار في نشاطهم التجاري والتلاعب في الأسواق، وأعطي الأجنبي المستثمر الفرصة كي يتعامل مع الغير ويرتب ديون لصالح الدائنين على شركته وهي في الغالب تكون شركة ذات مسئولية محدودة، ويقوم بتحويل أمواله إلى موطنه، ثم يغادر البحرين وليس للدائن سوى أن يردد مقولة فريد شوقي في أحد أفلامه (ضاعت فلوسك يا صابر).
والحقيقة هي أن القبض على المدين التاجر لا يعطل نشاطه التجاري ولا يمنع التاجر الأجنبي من الاستثمار، بل يجعله أكثر حرصاً على نشاطه التجاري واحتراماً لحقوق الغير، ذلك أن القبض باعتباره أكراهاً مدنياً لا يعد غاية في ذاته بل هو وسيلة ضغط على شخص المدين لتحفيزه على التنفيذ الطوعي بما جاء به السند التنفيذي بدلا من إجراءات التنفيذ الجبرية.
ثانياً: يستندون أيضاً على أن حبس المدين يهدر كرامته وادميته ويقيد حريته ويتعارض مع الصكوك والاتفاقيات ومنها العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي انضمت إليه مملكة البحرين بموجب قانون رقم (56) لسنة 2006، وخاصة المادة (11) من هذا العهد التي نصت على أنه (لا يجوز سجن أي إنسان لمجرد عجزه عن الوفاء بالتزام تعاقدي).
وهذه الحجة أيضاً مردود عليها بأنه لا يتعين تفسير المادة (11) من العهد المذكور على إنها لا تجيز حبس المدين مطلقاً كما فعل القانون الجديد، بل تجيزه فقط إذا كان عاجزاً أي معسراً وأن يكون هذا العجز في الالتزام التعاقدي فحسب أي في الالتزامات الناشئة عن العقد، والواقع أنه ليس كل السندات التنفيذية ناشئة عن التزام تعاقدي مثال ذلك أن يكون ملتزماً بموجب الفعل النافع أو الإرادة المنفردة أو الفعل الضار (المسئولية التقصيرية) فهذا المثال وغيره وأن كان يشكل التزاما على عاتق المدين فأن مصدر الالتزام فيها ليس العقد.
إذن بمفهوم المخالفة انه يجوز حبس المدين المماطل والذي يخفي أمواله في حالة مقدرته على الوفاء بالدين وعند يساره ولا يستفيد من حكم المادة (11) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
وبناء عليه فأن إبقاء الحبس في القانون الجديد لا يخالف الصك الدولي المذكور وكان الأجدر بالمشرع أن يقنن القبض دون أن يلغيه على نحو يحدد فيه الحالات التي يجوز فيها، وذلك بالتفريق ما بين أن يكون المدين في يسر أم عسر، ويجيزه في حالة يسره وقدرته على الوفاء بالدين تماماُ كما نصت عليه بعض القوانين العربية التي اشترطت في القبض على المدين أن يكون في يسار وقادراً على الوفاء بالدين كقانون المرافعات الكويتي (م 292) وقانون الإجراءات المدنية الاماراتي (319)، وطبقا لما استقر عليه الفقه الإسلامي وأجمعت عليه المذاهب الإسلامية بجواز حبس المدين الموسر وبعدم حواز حبس المدين المعسر.
ولا ينال من ذلك ما يراه البعض من زملائي في المهنة أو غيرهم بأن قانون التنفيذ الجديد لم يلغي حبس المدين وانما استبدله من الحبس كوسيلة تنفيذية للضغط على المدين وحمله على التنفيذ إلى الحبس كعقوبة جنائية مدة لا تزيد على سنتين وبالغرامة التي لا تقل عن خمسمائة دينار ولا تجاوِز مائة ألف دينار أو بإحدى هاتين العقوبتين إذا ارتكب المنفذ ضده الأفعال المنصوص عليها في المادة (58) منها، إذا امتنع عن الإفصاح عما لديه من أموال، أو حجَب عمْداً عن المحكمة أو المنفذ الخاص أية بيانات أو سجلات أو مستندات كان يتعيَّن عليه تزويد المحكمة بها، أو حال عمْداً من الاطلاع عليها.
ويرون إن الحبس كعقوبة جنائية بموجب قانون التنفيذ الجديد بشكل ضمانة أكيده للمنفذ له، وهو أفضل من الحبس المنصوص عليه بأحكام التنفيذ القدمية كوسيلة تنفيذية للضغط على المدين للوفاء بالدين؛ وذلك لأن مدة الحبس كعقوبة جنائية ستكون كحد اقصى سنتين، بعكس الحبس التنفيذي والذي يدوم مدة 3 أشهر فقط كحد اقصى في ملف التنفيذي الواحد. كما انه في ظل القانون القديم للقاضي سلطة تقديرية في الموافقة على الحبس وفي الغالب لا يوافق عليه ولا يقرره القاضي إلا كإجراء أخير بعد استنفاد كافة الإجراءات التنفيذية.
وانا أرى إن الحبس كوسيلة تنفيذية ضاغطة مهما كانت مدته التي حددها القانون القديم بثلاثة أشهر أو يلجأ إليه القاضي كوسيلة أخيره أفضل بكثير من اعتباره عقوبة جنائية إذ يتطلب في الأفعال التي تحدد المسئولية الجنائية المنصوص عليها في المادة (58) من القانون إثبات أركانها وقد لا يتحقق ذلك، وإجراءاتها طويلة يتعين على المنفذ له تقديم الشكوى الجنائية للنيابة العامة أو مراكز الشرطة مدعومة بالأدلة بما يصاحب ذلك من تحقيق وتوجيه الاتهام، فضلا عن ذلك نسأل ماذا يستفيد المنفذ له من عقوبة الغرامة المنصوص عليها في المادة المذكورة، فالغرامة كعقوبة جنائية تذهب لخزانة الدولة لما لها من حق امتياز على سائر الدائنين العاديين والممتازين، وتؤدي لزيادة إعسار المدين والانتقاص من ذمته المالية على إمكانية اقتضاء المنفذ له حقه من هذه الذمة المثقلة.
ثانياً: في المنع من السفر
أجاز المشرع منع المحكوم عليه في ظل إجراءات التنفيذ الملغية حسب الأحكام التي نصت عليها المادة (268) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، غير ان قانون التنفيذ الجديد لم يلغي المنع ولكن قننه ووضعه في صيغة مختلفة حسب المادة (40).
ولعل من أبرز الاختلافات ما بين منع المنفذ ضده في ظل إجراءات التنفيذ الملغاة وفي ظل قانون التنفيذ الجديد هي:
وفقا للنص القديم فأن المشرع اشترط في المنع من السفر أن يكون المنفذ ضده قادراً على الوفاء ولكنه ممتنع عن هذا الوفاء في حين أن القانون الجديد اشترط بأن لا يكون له أموال ظاهرة كافية لسداد ديونه ويفهم من ذلك ان المشرع يشترط لمنع المدين في القانون الجديد أن يكون غير قادراً على الوفاء لعدم كفاية الأموال.
كما يتضح الفرق بينهما في مدة المنع من السفر، فمدة المنع في النص القديم بانقضاء سنة واحدة من تاريخ إصداره متصلة ومستمرة دون ضرورة تجديدها برسوم واحدة، بل ويستطيع المنفذ له طلب تمديدها إذا ثبت أن المحكوم عليه
• قد أخفى أمواله التي يمكن حجزها أو هربها للخارج.
• أو إذا لم يعرض تسوية مقبولة
• أو لم يقدم كفيلاً مقبولا
• أو كان قد عرض تسوية وأخل بشروطها.
في حين أن مدة المنع في قانون التنفيذ الجديد هي ثلاثة أشهر قابلة للتجديد لمدد أخرى مماثلة، وبحد أقصى ثلاث مرات وذلك من أجل التحقق من عدم وجود أموال يمكن التنفيذ عليها تخص المنفذ ضده، وهذا يعني:
تحميل المنفذ ضده سداد رسوم المنع في كل مرة يقوم فيها بتجديد المنع، وأن يكون يقظا منتبهاً لتاريخ انتهاء مدة الثلاثة الاشهر، ذلك أن المنع من السفر في القانون الجديد يرفع بقوة القانون بفوات مدة الثلاثة الأشهر دون يقوم المنفذ له بتجديدها، فأن نسى أو أغفل المنفذ له هذا التجديد يرفع المنع بقوة القانون وتكون الفرصة سانحة للمدين خاصة أن كان أجنبيا أن يفر مغردا من البلاد ودون حاجة الى تحقق القاضي من عدم وجود أموال يمكن التنفيذ عليها تخص المنفذ ضد.
بل أكثر من هذا يرفع هذا المنع بقوة القانون إذا أنقصت مدة المنع في حدها الأقصى، فلا يجوز للمنفذ له تجديدها مما يعطي الفرصة للمدين المنفذ ضده أن يرفع المنع بانتهاء جميع المدد (12) شهر ويفر من البلاد ، وقد كشف واقع التطبيق لقانون التنفيذ الجديد أنه لا ضير ولا مشكلة عند المدين الأجنبي خاصة، أن يظل ممنوعاً من السفر طوال (12) شهراً بعد أن صدرت في مواجهته احكام قضائية أو سندات تنفيذية نتيجة لتعامله مع الدائنين كان يكون تاجراً متعاملاً مع غيره من التجار بالأجل أو مقترضاً من البنوك ويقوم بتحويل أمواله لبلاده ، ثم يرفع عنه المنع من السفر إذا أنقضت مدد المنع.
من خلال ما تقدم نرى ما يلي:
1. إن المنع من السفر في ظل الإجراءات التنفيذية السابقة يوفر حماية للدائن المنفذ له أكبر وأوسع مما نص عليه قانون التنفيذ الجديد، فبموجب الإجراءات القديمة كما رأينا يملك المنفذ له مدة طويلة تمكنه من منع المنفذ ضده المدين مما يساهم في الحصول على حقه وعدم فرار المدين من البحرين، وان المشرع في قانون التنفيذ الجديد لم يكن موفقاً حين قنن المنع من السفر خلافا لما كان عليه في إجراءات التنفيذ الملغية، إذا يساهم هذا التقنين في إعطاء المدين الفرصة خاصة ان كان أجنبياً مغادرة البحرين دون سداد ديونه.
2. لا صحة على الإطلاق إن المنع من السفر بالطريقة التي نصت عليها أحكام التنفيذ القديمة لم يكن فعالاً كما صرح وزير العدل السابق معالي الشيخ خالد بن علي آل خليفة لصحيفة البلاد في 15 فبراير 2022 قبل تطبيق القانون (بأن المنع من السفر أثبت عدم فعاليته كوسيلة لاستحصال أموال المدين)، ذلك أن واقع تجربتنا في مهنة المحاماة تثبت أن معظم الدعاوى سواء كانت موضوعية أو أمام محكمة التنفيذ قد حسمت وانتهت بسداد المدين ما عليه من دين نتيجة لمنعه من السفر وهناك أمثلة كثيرة ومتعددة على ذلك.
3. إن المنع من السفر بالكيفية التي نصت عليها إجراءات التنفيذ السابقة في المادة (268) من قانون المرافعات المدنية والتجارية، لا تتعارض مع حرية التنقل التي كفلها الدستور في المادة (19/ب) (لا يجوز تقييد حرية الإنسان في الإقامة أو التنقل إلا وفق أحكام القانون وبرقابة من القضاء) ولا يتعارض مع نص المادة (12) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية التي نصت على 1- لكل فرد يوجد على نحو قانوني داخل إقليم دولة ما، حق حرية التنقل فيه وحرية اختيار مكان إقامته 2- كل فرد حرية مغادرة أي بلد، بما في ذلك بلده، ذلك أن الدستور وفق المادة المذكورة وأن لم يجز تقييد حرية الإنسان في الإقامة والتنقل لكنه أجازه طبقا للأحكام القانون الذي يصدره المشرع العادي وتحت رقابة القضاء. وإن المادة (12) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، وأن نصت على عدم تقييد حرية التنقل وحرية اختيار مكان الإقامة ومغادرة أي بلد للأفراد لكنها نصت أيضا على جواز تقييد هذه الحقوق بالنص عليها بالقانون بشرط أن تكون ضرورية لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم، وتكون متمشية مع الحقوق الأخرى المعترف بها في هذا العهد.