DELMON POST LOGO

نهار آخر .. العفو الملكي الذي نُقدِّره

بقلم: رضي الموسوي

في خطوة جديدة مُقدرّة على طريق ترطيب الأجواء الأمنية، واستمرارًا للاحتفاء بمناسبة تقلّد جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة مقاليد الحكم، تم الإفراج يوم الخامس من سبتمبر الجاري عن 457 سجينا بينهم سجناء سياسيون حُكم عليهم بسنوات طويلة على خلفية الأزمة السياسية التي عصفت بالبلاد منذ فبراير 2011 ولا تزال آثارها شاخصة حتى الوقت الراهن.

عمّت الفرحة الكثير من مناطق البلاد، حيث الاحتفالات بالافراج عن الأحبة من زنازينهم التي قضوا فيها سنوات طويلة، فسارع الأهالي يستقبلون أحبتهم وأبناءهم وحملوهم على الأكتاف واصطفّوا طوابير طويلة ليعانقوا من افتقدوهم طوال هذه السنوات.

شباب صغار بعمر الورد ورجال كهول فعلت سنوات السجن فعلتها فيهم ورسمت تضاريسها على أجسادهم النحيلة، لكن أكثر ما أسقط الدموع، ذلك المشهد المؤثر الذي بثّ في فيلم فيديو قصير للمفرج عنه الحاج محمد الرمل وهو جالس على كرسي متحرك لا يستطيع المشي بسبب عملية في الظهر أخضع لها قبل الإفراج عنه. لم يستطع الوقوف لركوب سيارة العائلة التي ستقلّه إلى منزله، فاستعان بمن حوله. كانت دموع الفرح المتساقطة تختلط بالأهازيج الجميلة النابعة من عمق تاريخ هذا الوطن وعبقه. سألت أحد المفرج عنهم وكان شابًّا يافعًا: كم كان عمرك عندما تم اعتقالك؟ أجابني: ستة عشر عامًا.

لا شك أن عملية الإفراج التي تمت قبل يومين وتلك التي حصلت قبل عدة أشهر هي خطوات تستحق الإشادة والتقدير، كونها تأتي على الطريق الصحيح لتبريد الساحة الأمنية وتفتح آفاق العمل على السير نحو حل سياسي للأزمة بالإرادة السياسية وبالنيات الحسنة والجهد الدؤوب. فهذه أزمة فعلت فعلها في الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي وانعكس ذلك سلبا على الاستقرار الاجتماعي والسلم الأهلي الذي ينشده المواطن في مختلف مناطق بلادنا البحرين. أزمة فرّخت أزمات تتناسل من بعضها البعض.

ونحن أمام هذا الاستحقاق المهم، لا بد من تسليط الضوء على بعض القضايا التي لابد من إثارتها، ومنها ضرورة إعادة تأهيل المفرج عنهم لدمجهم في المجتمع عبر خطوات أولى كالفحص الطبي الشامل، وعلاج المصابين بأمراض بمن فيهم المصابين بأمراض مزمنة، وضرورة تدخل الدولة لحل مشكلة الطلبة الذين ما زالوا على مقاعد الدراسة وعدم تداول رمي الكرة بين الجهات الرسمية المسؤولة كي لا يفقد الطلبة، ومنهم طلبة الجامعات، سنوات دراستهم، علما بأن تعليمات سمو ولي العهد رئيس مجلس الوزراء  واضحة في هذا الجانب، لكن الأمر بحاجة إلى قرار جليّ يعيد هؤلاء إلى مقاعدهم الدراسية. كما أن مسألة إيجاد العمل للذين فقدوا أعمالهم أثناء الاعتقال هي الأخرى بحاجة إلى معالجة حاسمة.

المسألة الثانية هي معالجة الملف الأمني-السياسي، واستكمال تبييض السجون بمبادرة رسمية تشمل المنفيين وأولئك الذين أجبرتهم الظروف على العيش في الخارج، وإعادة الجنسية للذين أُسقطت عنهم والسماح لهم بالعودة إلى الوطن، يشكل مقدمة للانفراج السياسي المطلوب في هذه المرحلة أكثر من أي وقت مضى.

المسألة الثالثة تتمثل في البدء بإنهاء حقبة العزل السياسي التي تصحّرت معها الحياة السياسية في البحرين وتم تجريفها؛ فالعمل السياسي، بكافة أشكاله المؤيدة والمعارضة، ليس ترفًا، وليس إنشغالا، بقدر ما هو حاجة لأي مجتمع صحِّي ينزع إلى التنمية الإنسانية الشاملة بكل تفريعاتها، ما يفرض ضرورة التوافق على حلول وطنية جامعة للخروج من واقع الأزمات التي نعاني منها اقتصاديًا وسياسيًا واجتماعيًا، والشروع في مواجهة الأوضاع الضاغطة على المواطنين، ومنها أزمة البطالة والفقر والتجنيس.

إن مواجهة كل هذه القضايا يتطلب إعادة بناء الثقة والوحدة الوطنية التي تعتبر صمام أمان لفكّ طلاسم هذه المعضلات والإقدام عليها بعقل مفتوح على الآخر واحترام رأيه مهما كانت درجة الاختلاف معه، فالبلد يعيش في منطقة ملتهبة ومتوترة في الكثير من جغرافيتها، وتحصين بلادنا من الخضات الكبرى يبدأ بتحصين الجبهة الداخلية وجعلها كالبنيان المرصوص الذي يصعب اختراقه في المنعطفات التي تمر بها المنطقة القابلة للاشتعال في أية لحظة، حيث قوس الأزمات الإقليمية لا يزال مشدودا.

كل التهنئة لكل من خرج من تلك العتمة إلى فضاء الحرية وتمنياتنا الخالصة لهم بحياة جديدة فاعلة تسهم في تنمية بلادنا التي هي بحاجة إلى كل الطاقات والجهود.