DELMON POST LOGO

العلاقات الإسلامية وسؤال المصالحة

بقلم : محمد محفوظ

من المؤكد أن العلاقة التي يعيشها أهل المذاهب الإسلامية اليوم  , من أصعب وأعقد اللحظات . وذلك لبروز الغرائز المذهبية والطائفية , وسعي كل طرف للغلبة على الطرف الآخر . صحيح أن الخلافات الفقهية والمذهبية بين  المسلمين ليست جديدة , وإنما هي ذات عمق تاريخي يمتد إلى مئات السنين . ولكن الأكيد أنها لم تشهد في كل تلك الحقب التاريخية الماضية من توتر واشتعال وتوجس الجميع من الجميع .

فالعلاقة المذهبية بين المسلمين اليوم , تعيش أصعب مراحلها , وتنذر إذا استمرت هذه الحالة على حالها , الكوارث هائلة تصيب البلاد الإسلامية على أكثر الصعد والمستويات . وذلك لأن الاحتقان وصل أقصاه , وازدادت المجموعات العنفية والإرهابية , التي تتبنى خيار الحرب والاستئصال للمختلف المذهبي , ودخلت بعض المجتمعات العربية والإسلامية في أتون الاحتراب المذهبي المفتوح على كل الاحتمالات الكارثية .

ولا ريب أن صمت حكماء الأمة عن هذا الخطر , سيفاقمة , وسيدخله مرحلة جديدة من الاحتراب الصريح , الذي لن يبقي حجرا على حجر . كما أن اشتراك بعض الفعاليات الدينية العليا في تغذية حالة الاحتراب وبعض الجماعات الإسلامية ذات التأثير في مجتمعاتنا , يعني استمرار الغطاء الديني الذي يغذي حالة التوتر والاحتراب , ويبرر للجميع الانخراط في هذا المشروع الخطر والذي يهدد الأمة جمعاء في أمنها واستقرارها , وفي راهنها ومستقبلها .

وكلنا يعلم أنه في هكذا أجواء , يرتفع الصوت الأحمق والممارسة المجنونة وغير المحسوبة من جميع الأطراف والأطياف.

لذلك نتمكن من القول اليوم وللأسف الشديد أنه ثمة حالة من الاحتراب الأهلي الصريح والكامن بين المسلمين .

وبفعل هذه الحالة يسفك يوميا الدم الحرام , ويتم تخريب الكثير من البنى التحتية للبلاد الإسلامية , ويتم إنهاك النسيج الاجتماعي وتفجير التناقضات البينية والفرعية في كل الاجتماع الإسلامي المعاصر . وتحول الإسلام بفعل هذه التوجهات المذهبية الحادة والمتطرفة , من مصدر لبناء الوحدة وتوحيد المجتمعات وخلق حالة من الطمأنينة والثقة بين مختلف تعبيرات ومكونات الأمة . إلى مصدر للحرب والقتل وخلق حواجز العداوة والكراهية بين المسلمين . وبدل أن يعمل الجميع على تحييد تاريخهم المليء بالإحن والأحقاد , تم استدعاء التاريخ بكل حمولته من قبل الجميع , وأصبح ( أي التاريخ  ) هو أحد الروافد الأساسية لإدامة الفرقة والنزاع بين المسلمين . وكأننا كمسلمين معاصرين , نتحمل عبء التاريخ وأحداثه وحروبه .

كل الأمم الحية اليوم , تتجاوز حقب التاريخ السوداء لها , إلا الأمة الإسلامية اليوم , فهي تجتهد لاستدعاء التاريخ وإعادة إحياء حروبه ونزاعاته .

وبدل أن يلتفت الجميع إلى تجارب الأمة في تجاوز حروبها وانقساماتها التاريخية , نحن نبدع كمسلمين في اجترار التاريخ والإضافة على حروبه ونزاعاته المزيد من الحروب والنزاعات التي لا تفضي إلا إلى المزيد من الدماء  والأشلاء .

وإن استمرار المجتمعات الإسلامية في هذا السياق والمسلك , يعني استمرار حالة التدمير الممنهج للذات الإسلامية بكل عناصرها الإيمانية والإنسانية .

لهذا آن الأوان أن يرتفع الصوت عاليا ومن جميع الفعاليات والأطراف لا للاحتراب المذهبي , نعم للمصالحة التاريخية التي تعيد صياغة العلاقة بين المسلمين بعيدا عن أحن التاريخ وإكراهات الواقع .

فمهما أوتي أي طرف من أسباب القوة والمنعة , واستخدام كل أدوات القتل والإرهاب , إلا أنه لن يتمكن من إنهاء الوجود الإسلامي الأخر . فليس بمقدور أي طرف من إلغاء الطرف الآخر , واستمرار حالة الاحتراب المذهبي , تضر الجميع وتفقدهم عناصر قوتهم , كما أنه يساهم في تقديم صورة الإسلام للعالم , وكأنه دين القتل والتصفية الجسدية وصناعة الحروب الأهلية .

آن الأوان أن يلتفت حكماء وعلماء الأمة من السنة والشيعة , إلى ضرورة إطلاق مشروع متكامل للمصالحة الإسلامية الحقيقية , التي تنهي كل أسباب الاحتراب المعاصر بين المسلمين .

لأن كل حروب المسلمين الداخلية , بلا أفق حقيقي , وإن استمرارها سيخرج  الأمة جمعاء من حركة التاريخ , وسيجعلها في سجل الأمم الفاشلة التي لم تتمكن من منع المسلمين من الاقتتال الداخلي .

ونرى أن أهم أسس المصالحة بين المسلمين التي ننشدها وندعو إليها هي العناصر التالية :

1ـ وقف حملات التشويه وحروب الأوراق الصفراء من قبل جميع الأطراف الإسلامية . لأن هذه الحروب لا تقدم المسلم الآخر على نحو حقيقي أو إيجابي , وإنما تقدمه وكأنه متعطش لدم المسلم الآخر .

وجميع المؤسسات الإسلامية والفعاليات الدينية , تتحمل مسؤولية مباشرة في مشروع وقف حروب الشائعات والتشويه التي يتعرض إليها المسلمون من بعضهم البعض . ولو نصتنا قليلا إلى ما يبثه الإرهابيون , لوجدنا أن أحد أهم الأسباب التي دفعتهم إلى الإرهاب وقتل المسلم الآخر , هو طبيعة الثقافة المشوهة المبثوثة , القائمة على تشويه سمعة المسلم الآخر , واتهامه بأقذع  التهم . مما يجعل المسلم يعيش حالة الاحتقان والحقد على الطرف المسلم الآخر .

وقد يتحول هذا الحقد والاحتقان , إلى ممارسة عنفية ضد المسلم الآخر .

لهذا لا يمكن أن ننجز مشروع المصالحة بين المسلمين اليوم , إلا بوقف حقيقي من جميع الأطراف لحملات  التشويه وحروب الشائعات , التي تقدم الطرف المسلم الآخر على النقيض من حقيقته الإسلامية والاجتماعية . لأن الكثير مما يبث في زمن الاحتراب المذهبي , ليس صحيحا أو مشوها أو مجتزأ .

2ـ التمسك بخيار التعايش , المبني على ضمان حق الاختلاف وضرورة المساواة , بحيث لا يكون الانتماء المذهبي في كل المجتمعات الإسلامية حائلا دون تمتعه بحقوقه الوطنية .

كما أن التعايش لا يعني أن يغادر أحد الأطراف موقعه الأيدلوجي لصالح الطرف الآخر . فالمسلم السني يعتز بإسلامه وفق فهم السلف , كما أن المسلم الشيعي يعتز بإسلامه وفق فهم أئمة أهل البيت . والمطلوب من الجميع احترام كل هذه القناعات , حتى لو لم يكن  معتقدا بها . فالاختلاف المذهبي لا يشرع لأي طرف ممارسة الظلم وانتهاك حقوقه من الطرف الآخر . ومقتضى المصالحة الفعلية بين المسلمين هو التزام الجميع بمقتضيات التعايش , بحيث لا نسيء إلى بعضنا البعض , ونرفض جميعا كل أشكال الانتهاك التي يتعرض إليها الإنسان المسلم سواء كان سنيا أو شيعيا .

3ـ تعلمنا تجارب الأمم التي ابتليت بحروب مذهبية بين مكوناتها , أنه لا خروج فعليا وحقيقيا  من هذه الحروب , إلا ببناء دولة جامعة , غير منحازة لأي طرف مذهبي , وتعمل بكل قدراتها إلى  الإعلاء من مبدأ المواطنة كبديل عن مبادئ الانتماء المذهبي . فكل مواطن بصرف النظر عن مذهبه , له كامل الحقوق وعليه كامل الواجبات .

وإن الدولة معنية بتنفيذ كل مواد القانون والدستور التي تجرم التفريق بين المواطنين لأسباب مذهبية .

فالدولة الجامعة اليوم في كل البلدان العربية والإسلامية , هي القادرة على  معالجة كل أسباب الاحتراب المذهبي , وإرساء أسس المصالحة الحقيقية بين المسلمين .

لهذا فإننا نرفض أي شكل من أشكال المحاصصة الطائفية في بناء الدول , و ندعو إلى جعل المواطنة المتساوية هي مصدر الحقوق والواجبات .