نهار آخر .. "وعد" بين التأسيس والعزل السياسي
بقلم: رضي الموسوي
عندما أشهرت جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) في العاشر من سبتمبر 2001 كأول تنظيم سياسي مصرح له في البحرين ودول مجلس التعاون الخليجي، كانت البلاد تمر بحقبة الانفراج الأمني والسياسي الذي عاشه البحرينيون بعد التصويت على ميثاق العمل الوطني في 14 فبراير من نفس العام، والخطوات الجريئة المتمثلة في العفو الملكي الشامل الذي تم بموجبه تبييض السجون والمعتقلات والسماح بعودة المنفيين والذين أجبرتهم الظروف على البقاء في الخارج. كانت الأحلام تعانق السماء والآمال بتنمية إنسانية تشمل كل النواحي تتفاعل في مفاصل المجتمع السياسي وخصوصا في أوساط المعارضة التي وجدت في خطوة الانفراج فرصة للبناء والبدء في تشييد الدولة المدنية القائمة على الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والمؤسسات والقانون والمساواة..دولة المواطنة.
كان التوصل إلى "تسوية" بين الحكم والمعارضة قائم على السماح للعمل السياسي العلني بأشكال أخرى غير التي كانت سائدة إبان حكم الطوارئ ومرحلة قانون تدابير أمن الدولة، وذلك تحت مسمى جمعيات سياسية، بدلا من تسميات فترة العمل السري..وهكذا كان، فتشكلت الجمعيات السياسية تباعا.
اليوم نحتفي بالذكرى الـ23 لتأسيس هذه الجمعية المناضلة "وعد". كانت فكرة تشكيل جمعية سياسية جامعة للتيار الوطني الديمقراطي تضم تنظيمات اليسار والقوميين والبعثيين والشخصيات الوطنية المستقلة قد برزت مع النصف الثاني من عقد التسعينات بين صفوف كادر الجبهة الشعبية في البحرين، وجرى التداول وطرحت المسودة الأولى تحت عنوان "التجمع الوطني الديمقراطي"، وظلت تتنقل بين قيادات الجبهة وكوادرها في الخارج والداخل لفترة ليست قصيرة، وكان المناضل الراحل عبدالرحمن النعيمي المحرك والدينامو في هذا الحراك الفكري والسياسي، وخصوصا بعد طرحه رؤية تتعلق بتعويم الايدلوجيا عندما كان سجينا في دمشق صيف 1990. وعندما نضجت المسودة تم طرحها على قيادات جبهة التحرير، وجرت لقاءات عديدة بين كوادر "الشعبية" وبين كوادر "التحرير" المتواجدين في البحرين ودمشق وبيروت والإمارات، كما طرحت المسودة على بعض الشخصيات الوطنية.
ازدادت القناعة بضرورة تشكيل تجمع وطني ديمقراطي يجمع تياري التنظيمين اليساريين والقوميين والشخصيات الوطنية، وذلك تحت عنوان "حرق السفن"، أي الاتجاه للعمل السياسي العلني وفرضه بتجميع من تبقى من أعضاء وأنصار التنظيمين السياسيين (الشعبية والتحرير) وانصهارهما في بوتقة التجمع العلني الذي كان العمل عليه جاريا لخلق واقع جديد في صفوف المعارضة الديمقراطية.
لكن الرياح لم تجرِ كما اشتهت سفينة الراغبين في الخروج من عنق زجاجة قانون تدابير أمن الدولة، فبعد تشكيل اللجنة التحضيرية التي انبثقت عن اجتماع بيت النعيمي بعراد في أبريل 2001، بدأت التباينات تبرز في كيفية فهم طبيعة التنظيم الذي يراد تشكيله. كانت اللجنة التحضيرية برئاسة الراحل جاسم فخرو، الشخصية الوطنية والقومية البارزة، وعضوية كوادر من تياري الشعبية والتحرير والشخصيات الوطنية والقومية، وكانت مهمة اللجنة وضع نظام داخلي وبرنامج عمل، وتم تقديم وثائق التأسيس إلى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، بحيث تُجمّد المادة (18) من قانون المنظمات الأهلية، والتي تمنع العمل السياسي على مؤسسات المجتمع المدني، وأن يجرى العمل على تشريع عصري ينظم عمل الجمعيات السياسية، وقد عقد المؤتمر التأسيسي لجمعية وعد مطلع أكتوبر 2001، وتشكلت أول قيادة لها برئاسة الراحل عبدالرحمن النعيمي.
بينما كانت التنظيمات السياسية التي كانت متواجدة فعليا على الساحة بصورة ما ترتب أوضاعها لتتشكل في صورة جمعيات، كانت اللجنة الخاصة بتعديل الدستور تعمل بصمت مطبق بعيدا عن الانظار، حتى فوجئ الجميع بالدستور المعدل وأصيبت قوى المعارضة بالذهول من حجم التعديلات التي تحولت إلى دستور جديد صدر في 14 فبراير 2002 لتبدأ مرحلة جديدة من العمل السياسي والعلاقة بين الجانب الرسمي وبين قوى المعارضة بشقيها الوطني والإسلامي.
اعتبرت المعارضة أن هذه التعديلات ليست هي التي جرى التوافق عليها في الميثاق والتوضيحات الرسمية التي أعقبته، ما قاد إلى هواجس كبيرة لدى المعارضة السياسية وتخوفات من القادم تترجم في اتخاذ أربع جمعيات سياسية معارضة (الوفاق، وعد، القومي، أمل) قرارا بتشكيل تحالف رباعي لمقاطعة الانتخابات النيابية الأولى التي انتظمت في أكتوبر 2002، ما زاد من الاحتقان السياسي وبدء تآكل إنجازات سنة الانفراج الأمني والسياسي وشهر العسل الذي عاشته البحرين في أفراح غامرة.
لابد من الإشارة هنا إلى أن بداية تأسيس "وعد" خلقت جدلا في صفوف تيار "الشعبية" حول تصريح النعيمي عن "وضع الجبهة الشعبية في الثلاجة"، ما فرض جهدا مضاعفا على الكادر لتوضيح طبيعة المرحلة ومتطلباتها، بيد أن بعض العناصر صعدّت الموقف ووجهت اتهاما للنعيمي ومن معه بأنه "فرط في التاريخ النضالي للتنظيم"، ووقف هذا البعض على يسار النعيمي في حفاظه على الجبهة وتاريخها!!. لكن الأحداث بيّنت بشكل لا لبس فيه أن إعلان النعيمي لم يكن من عندياته بقدر ما هو ترجمة للحوارات المطولة ولماهية مشروع التجمع الوطني الديمقراطي نفسه، وتجاوبا مع الوضع الجديد. مع التوضيحات انحسر الاعتراض عند نفر لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، التي انتقلت من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين وخصوصا في مفصل 2011 عندما وقفت في وجه المعارضة السياسية وتشمتت عليها وهي تتعرض لعملية الفرم.
المفصل الأكبر في العملية السياسية الذي تاثرت به "وعد" كثيرا هو الحدث الأبرز المتمثل في نتاجات الحراك الشعبي الذي انطلق في 14 فبراير 2011، الذي جاء مع تفجر الربيع العربي في تونس وانتقاله إلى مصر وانتشاره في العديد من العواصم العربية.
فمع فض تجمع دوار مجلس التعاون (دوار اللؤلؤة)، دخلت البحرين في مرحلة أمنية لم تشهدها في تاريخها الحديث، سواء من حيث حجم الحدث أو من حيث ردة الفعل الرسمية، فدخل الآلاف في السجون وتم فصل نحو خمسة آلاف من أعمالهم تزامنا مع فرض قانون السلامة الوطنية. قبيل فض اعتصام الدوار بأيام تعرض مقر وعد الرئيسي إلى عملية إحراق ليل 12 مارس كاد أن يذهب حارس المبنى ضحية له، كما تم الاعتداء وتكسير فرع التنظيم في المحرق، وكانت الرسالة واضحة بأن "وعد" مستهدفة أكثر من أي وقت مضى. وفي ليل السادس عشر من مارس تم اعتقال الأمين العام لجمعية وعد إبراهيم شريف ومجموعة من الشخصيات السياسية والدينية.
كان واضحا أن حقبة جديدة قد بدأت عنوانها التجريف والعزل السياسي تطبيق ممارسات امنية اكثر شدة كعنوان للمرحلة الجديدة. تمثل ذلك بمحاكمة بعض الرموز بنهاية عام 2014 واستمرت حتى صدور قرار بحل الوفاق في 2016، ليأتي الدور على "وعد" التي دخلت في دهاليز المحاكم، هي الأخرى، حتى صدر قرار حلها وإغلاقها ومصادرة ممتلكاتها في مايو عام 2017، لتؤيد محكمة التمييز في نهاية المطاف الحكم القاضي بحل وعد 2019، ودخلت البلاد في مرحلة من العتمة السياسية تتبين في الوقت الراهن آثارها الكارثية على مختلف المستويات والقطاعات التشريعية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمعيشية.
هذه المعطيات تفرض إعادة النظر في كل التشريعات المقيدة للحريات والعمل السياسي السلمي ومن بينها قوانين العزل السياسي، وفتح حوار وطني جامع من شأنه الوصول إلى خلاصات توافقية على حل المعضلات التي تعاني منها بلادنا بدءا من حجم الدين العام المتضخم ونسبة البطالة المتزايدة والفقر الذي يطرق أبواب فئات جديدة وتدني مستوى الحياة المعيشية وإرهاق المواطن بالمزيد من الأعباء التي لا قدرة له على إيفائها، وصولا إلى قضية التجنيس التي فتحت الحكومة نافذة لمعالجتها. وحيث أن مسألة تحويل التحديات إلى فرص يمكن استثمارها في الصالح العام، فإن قرار العفو الملكي الأخير بالإفراج عن مجموعة من السجناء السياسيين ينبغي تحويله إلى فرصة لإعادة ترتيب البيت الداخلي لبلادنا التي تستحق منا كل الجهد لوضعها في مصاف البلدان التي تسير على طريق الديمقراطية وطي صفحة الماضي بعزم على البناء الحقيقي للدولة الحديثة ومتطلباتها.