بقلم : عبد النبي الشعلة
بعد أيام قليلة، وبالتحديد في تاريخ 26 من هذا الشهر، ستمر 62 سنة على الانقلاب الذي قام به المشير عبدالله السلال وأدى إلى الإطاحة بالنظام الملكي في اليمن، وإعلان قيام النظام الجمهوري وهروب الملك الشرعي لليمن الإمام محمد البدر حميد الدين إلى المملكة العربية السعودية، بعد الهجوم المسلح على قصره في صنعاء.
ومن دون أن ننكر أن نظام المملكة المتوكلية في اليمن كان غارقًا في بحور الظلام، وكان من أكثر الأنظمة تخلفًا، وكان الشعب اليمني يرزح تحت أسوأ ظروف التسلط والفقر والجهل، إلا أن ما حصل في ذلك التاريخ “زاد الطين بلة”؛ وانزلق “اليمن السعيد” منذ ذلك اليوم إلى المزيد من الفقر، وإلى هاوية العنف والفوضى والتمزق وعدم الاستقرار حتى يومنا هذا؛ كما هو الحال الذي تشهده ليبيا والعراق اليوم، ففي العراق أيضًا، وقبل أربع سنوات من انقلاب اليمن، وقع انقلاب عسكري آخر في العام 1958 عرف بأنه أكثر الانقلابات دموية وقسوة ووحشية.
لقد قام الضباط الانقلابيون المتآمرون العراقيون بقيادة عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف في صباح يوم الرابع عشر من يوليو / تموز بارتكاب مجزرة في قصر الرحاب، عندما هاجموا الملك الشاب في قصره وأعطوه الأمان وأفراد أسرته الصغيرة وحاشيته، واستدرجوهم مستسلمين من داخل القصر إلى الحديقة، ثم غدروا بهم، وأمطروهم بوابل من الرصاص من كل جانب فسفكوا دماءهم وأزهقوا أرواحهم، وأبادوا الأسرة المالكة عن بكرة أبيها. كما قاموا بتصفية رموز وأقطاب نظام الحكم، والتمثيل بجثثهم وسحلها في الشوارع وإعدام من تبقى منهم لاحقًا في محاكمات صورية، وتم بذلك إسقاط النظام الملكي واقامة نظام جمهوري؛ ومنذ ذلك اليوم لم يعرف العراق الطمأنينة والأمن والاستقرار.
إلا أن ما قام به عبدالله السلال في 26 من هذا الشهر قبل 62 عامًا يأتي على أعلى قمم خيانة الأمانة والغدر ونكران الجميل، فقد جاء هذا الحدث الخطير في اليمن ضمن سلسلة من الانقلابات، وليس الثورات، التي وقعت في مصر والعراق وليبيا، نفذها في فترات متقاربة ضباط مقربون ومؤتمنون ويتمتعون بثقة ملوك تلك الدول، كانوا قد أقسموا بأغلظ الأيمان على حماية الوطن والنظام، كما أن تلك الانقلابات أعادت إلى الأذهان مشاهد ووقائع أعمال الخيانة والغدر التي تعرض لها ملوك وأمراء ورؤساء على يد معاونين مقربين مؤتمنين ضد من وثق بهم.
كان عبدالله بن يحيى السَلَّال قد تخرج من مدرسة الأيتام بصنعاء في العام 1929م، وبعد إتمامه للمرحلة الثانوية أُرسله حاكم اليمن وقتها يحيى حميد الدين إلى العراق في العام 1936م في بعثة عسكرية، حيث دخل الكلية العسكرية العراقية وتخرج منها برتبة ملازم ثان عام 1939م. وبعد انضمامه للجيش اليمني شارك في “ثورة الدستور” في العام 1948 التي قادها الإمام عبدالله الوزير. في هذه الثورة قُتل الإمام يحيى وتولى الحكم من بعده ابنه الإمام أحمد الذي قام بإعدام وسجن الكثير ممن شاركوا في الثورة، وكان من بين المسجونين عبدالله السلال.
أصبح محمد البدر حميد الدين وليًا للعهد، وأول ما قام به هو إقناع والده بإطلاق سراح عبدالله السلال، ثم عينه رئيسًا لحرسه وقربه منه وأعطاه كل ثقته، بعدها، وهو لا يزال في منصب رئيس حرس ولي العهد، انضم السلال إلى تنظيم “الضباط الأحرار”.
توفى الإمام أحمد في 19 سبتمبر 1962، وتسلم ابنه الإمام محمد البدر زمام الحكم، وكان قرار ترقية عبدالله السلال إلى قائد للحرس الملكي من أول القرارات التي اتخذها البدر.
بعدها بيومين وبالتحديد في 20 سبتمبر ألقى محمد البدر خطاب العرش، وأعلن أنه سوف يحافظ على سيادة القانون، وسيساعد المضطهدين، ويضع أساس العدالة، وسيصدر القوانين التي تكفل أن يكون المواطنون متساوين في الحقوق والواجبات.
وفي السياسة الخارجية أعلن أنه سينتهج سياسة الحياد الإيجابي، وسيبقى وفياً لمبادئ الأمم المتحدة وميثاق جامعة الدول العربية ومبادئ باندونج، وسيسعى من أجل الوحدة العربية.
وفي اليوم التالي وقع البدر على مجموعة من المراسيم، منها مرسوم يقضي باحتفاظ الوزراء والنواب وكبار قادة الجيش بمناصبهم، وآخر يعلن العفو العام عن كل من شارك في الأحداث السياسية السابقة التي أودت بمرتكبيها إلى السجن أو الفرار خارج البلاد.
كان الكل، وفي مقدمتهم عبدالله السلال مقتنعا بصدق نوايا البدر والتزامه بالوعود التي أطلقها، ويدركون أنه يتمتع بخصائص تنويرية، شفافًا في تعامله مع الآخرين، محسن الظن دائمًا؛ وتلك كانت إحدى ملامح إخفاقاته السياسية، وخلال فترة ولايته للعهد اختلف عن والده واختلف معه حول جملة من القضايا، منها تقربه ومناصرته للرئيس جمال عبدالناصر، وإيمانه بنظرياته التحديثية ورؤاه السياسية؛ حيث اعتبر البدر ناصريًا في أفكاره وتوجهاته، ميالًا للنظام الاقتصادي الاشتراكي وللمعسكر الشرقي في مقابل المعسكر الغربي الداعم للكيان الإسرائيلي؛ ولذلك حمل البدر لقب “الأمير الأحمر” وبخاصة بعد زيارته لجمهورية الصين الشعبية، وتأييده لإرسال بعثات طلابية إلى هناك.
كل ذلك لم يغفر للبدر، بل تم استغلال انفتاحه وشفافيته وحسن ظنه للإسراع في تحريك عملية الانقلاب والإطاحة به التي كان يخطط لها في غرفتي عمليات موزعة بين صنعاء والقاهرة، وفي الموعد المحدد وبعد أسبوع واحد فقط من توليه السلطة تمت مهاجمته ومحاصرته في قصره بصنعاء، إلا أنه تمكن من الهرب والتوجه إلى مناطق القبائل اليمنية المناصرة له لحشد القوات اللازمة لاستعادة سلطته بدعم من المملكة العربية السعودية، وقد دامت محاولاته لأكثر من سبع سنوات دون جدوى.
لقد انتهى الأمر بالبدر في لندن يعيش في عزلة وكآبة وإحباط بين جدران منزله، بعيدًا عن الأضواء يجتر ذكرياته المريرة التي حفلت بالعديد من الإخفاقات والانكسارات الناتجة عن خيانة المقربين له ومن وثق بهم، ابتداء من الرئيس جمال عبدالناصر الذي سارع بتأييد الانقلابيين، ثم عبدالله السلال قائد حرسه الخاص، ويقال إنه وضع صورة مبروزة للسلال إلى جانب سريره يخاطبها دائمًا بعبارة “حتى أنت يا سلال” مقتبسًا مقولة مشهورة جاءت في المسرحية التراجيدية “يوليوس قيصر” للكاتب الإنجليزي العظيم وليم شكسبير التي تروي الهجوم المسلح الذي تعرض له الإمبراطور يوليوس قيصر من قبل مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الروماني من بينهم أخلص قادته وأعز أصدقائه بروتس الذين تناوبوا على طعنه بالخناجر، وعندما جاء دور بروتس ورآه يوليوس قال له مستغربًا: “حتى أنت يا بروتس” قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، لقد كانت طعنة بروتوس هي الطعنة القاتلة، إذ لم تخترق الجسد فقط، لكنها وصلت إلى صميم وجدانه وقيمه وطموحاته.
توفى الإمام البدر في لندن في العام 1996 ودفن في المدينة المنورة، تاركًا وراءه للساسة والقادة عبرا ودروسا في حسن أو سوء القيادة والسياسة والثقة بالآخرين.