بقلم : محمد محفوظ - القطيف
في ظل التطورات والتحديات الراهنة والمطروحة بإلحاح على العالمين العربي والإسلامي، يبدو الحديث حول الوحدة الداخلية للعرب والمسلمين في المستويات والمجالات المختلفة من موجبات المرحلة وضرورات الراهن. وذلك لكي تساهم حقائق الوحدة ومضامينها المعرفية والحضارية في توجيه حركة الراهن وصولاً إلى المشاركة في صياغة مستقبل الأمة والوطن.
والحديث عن الوحدة في مستوياتها المتعددة، لا يعني الحديث عن كليات أو قوالب فكرية جاهزة، وإنما هو حديث عن مسار اجتماعي وسياسي وحضاري، يتجه بقوة ويندفع بحماس إلى التشكل وفق السياقات الإسلامية الحضارية.
ولعل من أوليات مهامنا تجاه العلماء والمفكرين، هو أن ندرس مشروعاتهم الفكرية والثقافية، ونقرأ بعمق تجاربهم الإصلاحية، حتى يتسنى لنا جميعاً استيعاب الدروس والعبر، وهضم المحاور الكبرى لتلك التجارب والمشروعات.
معنى الوحدة
الانحراف في العقيدة يفضي إلى الانحراف في إدراك مفهوم الأمة. فالوحدة كمفهوم مجتمعي وسياسي بحاجة دائماً إلى عقيدة سليمة وحية في حالة الوعي والسلوك. لذلك نجد أن هناك علاقة وطيدة بين مفهوم الوسطية ومفهوم الوحدة. إذ أن التطرف بكل صوره وأشكاله لا يصنع وحدة، وإنما يؤسس لكل عوامل التمزق والتفتت والتجزئة.
الوحدة والتنوع
والسؤال الذي يبرز في هذا الصدد هو: من أين تبدأ الوحدة سواء بين الشعب الواحد أو الشعوب المختلفة?
فهل تبدأ الوحدة بإقصاء كل حالات التنوع والتعدد الطبيعية والتاريخية المتوفرة في الساحة لصالح صيغة وحدوية قائمة على نمط رتيب من التوحيد السياسي والثقافي والاجتماعي، لا ترى من الضروري أو من مقتضيات الوحدة العناية بتلك التنوعات وأشكال التعدد الطبيعية. فهل طريق الوحدة المطلوبة يمر عبر القفز على تلك الحالات والحقائق، وتجاهلها في إستراتيجية العمل الوحدوي، واعتبار أن تلك الحالات والحقائق هي وليدة عصور التخلف والانحطاط ومرحلة ما قبل الدولة الحديثة.
إن التاريخ العربي الإسلامي الحديث، يؤكد لنا أن العديد من المدارس الفكرية والسياسية التي جعلت من الوحدة العربية محور عملها ونشاطها، نظرت إلى تلك الحقائق وفق منظور أن الوحدة تعني التوحد القسري القائم على نفي كل أشكال التعدد الطبيعية والتاريخية المتوفرة في المجتمعات العربية. لذلك فقد استخدمت هذه المدارس كل ترسانتها وإمكاناتها النظرية والعملية في سبيل محاربة تلك الحقائق وإقصائها من الفضاء الاجتماعي والسياسي العربي.
ولكن وبعد تطورات عديدة شهدها العالم، والعالم العربي بالخصوص، نجد أن كل الوسائل والأساليب المستخدمة من قبل تلك المدارس لتذويب هذه الحقائق ونفيها من الخريطة العربية باءت بالفشل والإخفاق، ولم تستطع هذه المدارس أن تحقق مفهومها للوحدة القائم على القسر والنفي، بل أوجدت أثراً عكسياً في الواقع العربي، حيث ازدادت الكيانات الصغيرة التي تعمل على الحفاظ على هويتها الخاصة وعوامل تميزها أو اختلافها التاريخي أو الطبيعي.
وبهذا نستطيع أن نقول، بأن الوحدة العربية والإسلامية لا تبدأ من إقصاء الحقائق الطبيعية والتاريخية، واستخدام القوة في مشروعات وحدوية قسرية. فمن أين تبدأ الوحدة بين الشعوب العربية والإسلامية?
في تقديرنا أن الوحدة بين الشعوب العربية والإسلامية، هي الخيار الحضاري لنا نحن العرب والمسلمين. ولكن هذه الوحدة لا تنجز عبر التوحد القسري والقفز على حقائق العصر والراهن، وإقصاء وقائعهما. فالوحدة بين الشعوب العربية والإسلامية، لا تعني التطابق التام في وجهات النظر ومشروعات العمل أو أولوياته أو في طرق التفكير والتخطيط. وإنما تعني ابتداء احترام الحقائق والوقائع التاريخية والطبيعية، والعمل بشكل وحدوي على ضوء تلك الحقائق والوقائع. فالوحدة وفق هذا المنظور لا تساوي الانصهار ولا تعني الذوبان، وإنما العمل على إيجاد الوسائل التي تتيح اندماج الشعوب الإسلامية ببعضها، وتعيد الحيوية إلى مقولة الأمة في العقول والقلوب.
ويدعو الإمام شمس الدين الفقهاء والعلماء لدراسة شكل الدولة الوحدوية. إذ يقول: <<لا نطرح هذه الفكرة، وإن كنا نرجح أن يدرس الفقهاء والمفكرون شكلاً تنظيمياً لهذه المسألة. قد يكون بتطوير منظمة الدول الإسلامية لتتخذ شكل كومنولث إسلامي، أو حكومة لا مركزية أو غير ذلك من الأشكال التنظيمية.
فالوحدة التي يتطلع إليها الإمام شمس الدين، هي الوحدة على أساس الالتزام السياسي دون نفي الخصوصيات وإقصاء حالات التنوع على الصعد التاريخية والثقافية والسياسية.
فالالتزام السياسي بمفهوم الوحدة، لا يقضي بأن يكون الجميع محل اتفاق حول كل المسائل. لهذا فإن الإصرار على صهر المذاهب الإسلامية في مذهب واحد، وعلى اعتماد الأساس الفقهي أو الكلامي لتحقيق الوحدة، هو بحد ذاته إصرار على تفريق المسلمين، لأن في هذا الإصرار دعوة إلى عدم التعاون، ومحاولة لوضع المسائل الثانوية (الفرعية) مكان المسائل الجوهرية المتفق عليها بين جميع المسلمين.
وتاريخياً لم تكن الوحدة التي صنعها العرب والمسلمون، تعني التوحيد القسري أو التطابق التام في كل شيء، وإنما العرب والمسلمون صنعوا وحدة قائمة على احترام حقائق التاريخ والمجتمع، لأنها حقائق طبيعية ومثرية لمشروع الوحدة، ومتناغمة مع نواميس الوجود الإنساني. فالوحدة بين الشعوب العربية والإسلامية، تبدأ باحترام حقائق التنوع والتعدد، لأنها ليست حالات أو وقائع مضادة للمنظور الوحدوي. بل هي عناصر تثري مفهوم الوحدة العربية، وتزيد مضمونه حيوية وفاعلية.
وفي المقابل ومن خلال تجارب العديد من النخب السياسية العربية والإسلامية، فإن إقصاء هذه الحقائق لا يوصلنا إلى الوحدة العربية، بل بالعكس يفرغها من مضمونها الاستراتيجي والحضاري، ويجعلها وبالاً حقيقياً على العالم العربي والإسلامي بأسره.
من هنا لابد من القول: أن النواة الأولى لتحقيق مشروع الوحدة العربية والإسلامية، هي تعميق جميع القيم والمبادئ الإنسانية والحضارية، وفسح المجال لجميع المؤسسات والأطر، التي تأخذ على عاتقها نشر قيم احترام التعدد والتنوع، ونسبية الحقيقة والتسامح. لأنه في مثل هذه الأجواء، تتبلور قيم الوحدة الحقيقية وسبلها الحضارية. وبدون هذا العمل سيبقى شعار الوحدة العربية شعاراً أجوفَ، يثير خوف الآخرين، ويزيد من هواجسهم الأمنية والسياسية، ولكن بدون أن يتحول هذا الشعار إلى حقائق ووقائع تملأ كل أوطان العرب وبلدانهم.
الوحدة العربية والإسلامية تتطلب من كل مواطن عربي ومسلم، أن يبدأ من واقعه ومحيطه في غرس حقائق ووقائع الاتحاد، حتى تنمو هذه الحقائق، وتزداد هذه الوقائع، حتى نصل إلى مستوى أن تكون الوحدة حقيقة فعلية قائمة، وليست شعاراً يتغنى به الإنسان ويحلم به، دون أن يكون له نصيب من وقائع العرب وحقائق عصرهم الراهن. والوحدة في المنظور الإسلامي هي جزء من العقيدة والمنظومة القيمية، لذلك لا فصل بين هذا المفهوم وبقية المفاهيم والقيم الإسلامية. <<فالإسلام هو نظرية الحياة، والحياة هي تطبيق النظرية، والأمة هي مجال التطبيق وأداته. وإذا تعمقنا أكثر في الفكر الإسلامي فسنجد أن وحدة الأمة هي أحد مظاهر الوحدة العام في الكون التي تستبطن وحدة الحياة والطبيعة، وهي تستبطن وحدة الجنس البشري. فالوحدة على مستوى الأمة ليست هدفاً عاطفياً أو مصلحياً سياسياً ، وإنما هي أساس في تكوين الإسلام عقيدة وفكراً ومجتمعاً وحضارة، وحينما ينحسر الوعي بالتوحيد، أو تنقطع العلاقة بين عقيدة التوحيد، وبين وعي الإنسان بذاته ومجتمعه.. تقع التجزئة>> .
إن الوحدة العربية والإسلامية من المشروعات التي تتطلب بنية تحتية قوية، وينبغي أن يشارك كل مواطن عربي ومسلم بجهد في سبيل توفير البنية التحتية لمشروع الوحدة العربية والإسلامية.
فالوحدة تبدأ من كل إنسان عربي ومسلم، يعمل على طرد كل العوامل المضادة لهذا المشروع من واقعه ومحيطه، ولكن دون الاكتفاء بالصراخ والعويل، وإنما يعمل ويسعى إلى خلق حقائق الوحدة في محيطه الاجتماعي. فحقائق الوحدة الصغيرة والبسيطة، هي طريقنا إلى انجاز الوحدة الكبرى.
الوحدة والسلم المجتمعي
من الطبيعي القول، أنه لا يمكن إنجاز أي مستوى من مستويات الوحدة في المجتمعات الإنسانية، بدون قاعدة أخلاقية وشبكة من المفاهيم والقيم والمثل التي تعمق هذا الخيار لدى جميع الأطراف والقوى. والوحدة العربية والإسلامية ليست نشازاً عن هذا القانون، وإنما هي أيضاً بحاجة إلى القاعدة الأخلاقية والمثل والقيم الإنسانية، التي تساهم في توطيد أركان الوحدة مهما كان مستواها وحجمها. وفي تقديرنا أن السلم الأهلي هو البوابة الأخلاقية والسلوكية لمشروع الوحدة العربية والإسلامية. والعالم العربي والإسلامي اليوم بحاجة أن ينجز مشروع السلم المجتمعي كضرورة ملحة لإنجاز مشروع الوحدة في مستوياتها العليا.
ومن القيم والقضايا الأساسية التي تؤكد على مفهوم السلم الأهلي، وتكرس خيار التعايش الاجتماعي في المجتمع الإنساني الأمور التالية:
1/ مساواة الآخر بالذات: إن البداية الفعلية للتغلب على الكثير من النوازع والغرائز، التي تفصل بين الإنسان، وتزرع الشقاق، وتؤكد الخصام، هو طغيان حب الذات وتضخيمها، بحيث لا يرى الإنسان إلا ذاته ومصالحه.
2/ اللاعنف: وهذا العنصر ليس وليد الضعف في الذات، أو القوة الضخمة لدى الآخر، وإنما هو جزء من بنية المنظومة العقدية والفكرية الإسلامية التي ترى في اللاعنف الطريق السليم في التعامل مع المغير الثقافي أو السياسي.
3/ والمناقبيات الأخلاقية: إن السياج القوي، الذي يحافظ على السلم الأهلي ويعمق مفاهيمه، ويجعله ثابتاً من ثوابت الواقع المعاش، هو وجود منظومة أخلاقية، ترعى هذه المسيرة، وتلجم كل النوازع الشريرة، التي تهدد السلم، وتجعله على شفا جرف هار
وتنبع أهمية تأكيد البعد الأخلاقي في مسيرة السلم الأهلي في النقاط التالية:
1) دفع الجماعة الوطنية إلى الالتزام بالقيم الأخلاقية النبيلة المتعلقة بنوعية الحياة والعلاقة بين مجموع الأطراف، وتعزيز مشروع المسؤولية المتبادلة في الوسط الاجتماعي.
2) البحث عن أطر وصيغ مجتمعية مناسبة للحظة التاريخية التي نعيشها، للتعبير عن تلك الفضائل الأخلاقية، وبهذا تتحول هذه القيم الأخلاقية من قيم فردية إلى قيم ذات طابع مجتمعي ـ مؤسسي.
3) حضور هذه الفضائل الأخلاقية في مسيرة بناء السلم الأهلي، حتى تمارس دورها الإيجابي، في تجميد بؤر التوتر، وتوفير الظروف الذاتية والموضوعية في حركة المجتمع بما يناسب تصورات واستراتيجيات مشروع السلم الأهلي، وتنبع أهمية حضور القيم الأخلاقية في ذلك المجتمع المتعدد الثقافات والمرجعيات، وذلك حتى تساعد وتنظم هذه القيم تعاقد مساواة بين جميع أطراف المجتمع، وبهذه العملية يستطيع المجتمع أن يحقق توليفة عملا نية بين ضرورة الوحدة والعيش المستقل أيضاً .
وأن الاحترام المتبادل، يشكل حجر الزاوية في مشروع السلم الأهلي، لانه يعمق الاستقرار، ويحترم التنوع الذي يغني مشروع السلم الأهلي. وأن تعميق القيم المشتركة الذي توفره الفضائل الأخلاقية، سيساعد الجميع على تجاوز الصدمات والتوترات المرتبطة بشكل مباشر بمصالحهم، والتصرف على ضوء وهدى مصالح متبادلة وعامة. لذلك فإن السلم الأهلي قوامه، تسالم الإرادات الوطنية، وانصهار مصالحها في الكيان الاجتماعي الوطني.
وفي الأخير إننا نرى، أن حماية الاجتماع الوطني من المخاطر والتحديات، وتحصين الأوضاع العربية الداخلية بالمزيد من التسامح والعدالة وبناء المجال السياسي الوطني على قاعدة من التراضي والتسالم والفعل المؤسسي. كل هذه العناصر تفضي إلى بناء وحدة اجتماعية ووطنية متينة، وهي لبنة من لبنات بناء الوحدة العربية على أسس أكثر عقلانية وديمقراطية.
وإنه آن الأوان أن نحرر كل استراتيجيات ومشروعات الوحدة، من تلك الأفكار والقناعات والنظريات التي تبرر استخدام القوة والعنف في سبيل انجازها. وذلك لأن العنف لا يفضي إلى وحدة، بل إلى تشظيات وانقسامات واستئصالات تزيد من الفرقة وتعمق التجزئة وتحول دون الانطلاق الفعلي في مشروع الوحدة.
الوحدة ومشروع العمل
ولأن مفهوم الوحدة الإسلامية مشروع طويل الأمد، ويتطلب تراكم الجهود والأعمال المتجهة إلى تكريس هذا المفهوم في الواقع المجتمعي للمسلمين، لذلك يطرح الإمام شمس الدين خطة عمل رئيسية تتشكل من العناصر التالية:
1) الانطلاق من الحالة الشعبية، من واقع الأمة ومن قاعدتها. إذ يقول <<الأمة الإسلامية من خلال مساجدها، من خلال فقهائها وتحديداً وقبل المساجد والفقهاء، من خلال التنظيمات الحزبية، يعني الحركات والأحزاب والتنظيمات الإسلامية هي الركيزة الأساسية التي في نظري يجب أن تقوم عليها جهود العمل نحو الوحدة الإسلامية.. (ويضيف الإمام شمس الدين) إن المسألة الشعبية في كل بلد إسلامي، هي تضغط على نظامها الخاص ليكون أقرب إلى مواقع الوحدة منه إلى مواقع التجزئة>> .
2) تطوير نظام العلاقات بين الحركات والوجودات والمؤسسات الإسلامية والعربية في كل البلاد الإسلامية، وتنمية مستوى الصلات الفكرية والثقافية والعملية.
3) تكثيف الجهود صوب العدو الحضاري للأمة، وهو الذي يناقض الإسلام كأيديولوجية وحضارة ومشروع سياسي، ويناقض الإسلام كمشروع مصالح للمسلمين.
ويكثف الإمام شمس الدين رؤيته لمفهوم الوحدة بقوله <<الوحدة يجب أن تكون منسجمة مع حاجات المسلمين، مع واقع النظام العالمي، وتحديات المسلمين المعاصرة. المسلمون في الماضي كانوا يواجهون حاجات وتحديات مختلفة عما عليه الأمر الآن، ولذلك صياغة عملية الوحدة، الوحدة في هذا الزمان ليست صياغة لها نموذج، هي يجب أن تخلق نموذجها الخاص، ليس لها نموذج تاريخي ونحن نطبقه، وإنما يجب أن نبتدع ونخترع النموذج الوحدوي الذي ينسجم مع حاجات المسلمين وتحديات المسلمين، والدور المرتقب للأمة الإسلامية في العالم، الدور ثابت، الأمة الشاهدة، والأمة الوسط>> .