DELMON POST LOGO

بائع الشاي أصبح رئيسا للوزراء.. وسائق “الركشو” صار رئيس وزراء أيضا!

بقلم : عبد النبي الشعلة

زيارتي هذه المرة لمدينة مومباي بالهند، تضمنت زيارة جامعتها وعدد من المعاهد التعليمية ومراكز البحوث والكليات المرموقة، وعلى رأسها كلية القديس زيفير التي احتفلت في العام 2019م بمرور 150 عامًا على تأسيسها، والتي تخرجْتُ منها في العام 1973، وهذه الكلية تابعة لجامعة بومباي، أو جامعة مومباي كما تسمى الآن، والتي تأسست بدورها في العام 1857، وتتمتع هذه الجامعة بأكبر منظومة جامعية في العالم، حيث تحتضن أكثر من 549 ألف طالب يدرسون في حرمها وفي الكليات التابعة لها والبالغ عددها 711 كلية.

ولا أود أن تفوتني الإشارة والإشادة في هذا الصدد بـ “جامعة عليكر الإسلامية” التي تعد أول مركز تعليمي إسلامي من نوعه في الهند، أو ربما في العالم بأسره. وأصبحت اليوم تحتل موقعًا فريدًا بين الجامعات ومعاهد التعليم العالي في الهند الحديث، وقد أسسها في العام 1875 السير/‏‏‏‏ سيد أحمد خان أحد أكبر المصلحين الاجتماعيين ورجالات الدولة المسلمين في عصره، وكان هدفه إنشاء جامعة تجمع بين الفكرة الإسلامية والروح العلمية العلمانية في بيئة هندية، وعلى غرار جامعتي أوكسفورد وكمبردج.

تبعد جامعة عليكر 130 كيلومترا عن العاصمة نيودلهي، وقد زرتها في العام 1971، وأقمت لمدة 3 أيام في سكن الطلاب فيها، وقد شدني وأبهرني، كما شد وأبهر كل زائر لها، مبناها الآسر العريق الذي يتسم بطراز معماري مميز يجمع بين الطراز المغولي الإسلامي والهندوسي والحديث، مع لمسات من مباني حقبة الاستعمار البريطاني، وأقواس واسعة ومنارات وأبراج مستوحاة من العمارة الإسلامية، وتضم الجامعة أكثر من 30 ألف طالب ونحو 2000 مدرس و95 قسما للدارسة.

إلا أن أهم ما يميز هذه الجامعة، مكتبتها المركزية التي تحتوي على نحو 9 ملايين كتاب، وتعد واحدة من أعرق وأبرز مكتبات العالم، وتعود أقدم المخطوطات التي تمتلكها المكتبة إلى أكثر من 1400 عام، بما في ذلك جزء من القرآن الكريم يعود تاريخ نسخه إلى زمن الإمام علي، ومنسوخ بالخط الكوفي. ويتكون مبنى المكتبة من 7 طوابق، وتحتوي أيضًا على مجموعة كبيرة من الكتب التي طبعت في بداية عصر الطباعة بلغات متعددة. ولعل أبرزها الترجمة اللاتينية لكتاب ابن الهيثم عن البصريات، الذي نشر في العام 1572، ولذلك يحق للهنود أن يفخروا بهذا الصرح الحضاري الذي يشكل تجسيدًا حيًا على التنوع الثقافي لبلادهم، وقلعة حصينة لمبادئها العلمانية.

ومنذ أن حصلت الهند على استقلالها في العام 1947، ركزت الحكومة المركزية بقيادة الزعيم الراحل جواهرلال نهرو، جُلَّ جهودها واهتمامها على توسيع وتطوير قطاع التعليم ومرافقه على كل المستويات، إلى أن أصبحت الهند اليوم تتمتع بمنظومة متنوعة للتعليم، وتمتلك واحدة من أكبر شبكات التعليم العالي في العالم، تضم أكثر من 55000 مؤسسة بما في ذلك 1043 جامعة، وهو أكبر عدد من الجامعات في أي دولة من دول العالم، ويلتحق بالجامعات الهندية كل عام 38.5 مليون طالب وطالبة.

إن العديد من الجامعات والمعاهد الهندية قد صُنفت ضمن أفضل مؤسسات التعليم العالي العالمية، وتعد “جامعة أنديرا غاندي الوطنية المفتوحة” أكبر جامعة في العالم إذ تضم 3.5 مليون طالب مسجل، ويعد المعهد الهندي للعلوم “IISC”، والمعهد الهندي للتكنولوجيا في مومباي “IITB”، والمعهد الهندي للتكنولوجيا في دلهي “IITD” من أبرز الجامعات الهندية.

لقد أدرك القادة الهنود أن التعليم هو الرافعة الحقيقية والفعالة لنمو المجتمعات وتطورها وتقدمها، وكانت التركة التي خلفها البريطانيون بعد رحيلهم ثقيلة وجسيمة؛ فمعظم قطاعات المجتمع كانت تعاني من الأمية والفقر والجهل والتخلف، وكانت الفوارق الاجتماعية والاقتصادية واسعة، وثمة قاعدة راسخة غير قابلة للجدل أو النقاش تقول: إن هناك علاقة مباشرة بين مستوى التعليم العالي في أي بلد ونموه الاقتصادي؛ وإذ إن الهند تشهد بدون أدنى شك أو ريب في العقود القليلة الماضية نموًا اقتصاديًا مبهرًا ومطردًا تراوحت معدلاته السنوية بين 6 و8 % وأصبحت الهند أكثر البلدان نموًا، تزخر وتزهو بأكبر عدد من المليونيرين في العالم، وصارت من الدول الأولى عالميًّا من حيث عدد المليارديرين فيها، وهي إنجازات لا يمكن تحقيقها، إلا بعد أن تمكنت من تحقيق مستوى عال لجودة التعليم فيها.

إن المؤسسات التعليمية في الهند نجحت في إدماج مخرجاتها في سوق العمل، بحيث بلغ حجم العمالة النشطة في الاقتصاد الهندي اليوم أكثر من 500 مليون عامل قادر على مواجهة تحديات نمو سوق العمل وتقلباته، وصارت هذه القوة العاملة موزعة على جميع محاور ومرافق ومواقع الإنتاج، فارتفع نتيجة لذلك حجم الطبقة المتوسطة التي أصبحت تقدر بـ 350 مليون شخص، وبنسبة قدَّرها البنك الدولي بين 25 و30 % من عدد السكان البالغ حوالي 1.4 مليار نسمة.

إن ارتفاع مستوى جودة التعليم في الهند يتضح أيضًا وبشكل جلي وواضح من استقطاب أسواق العمل في أوروبا والولايات المتحدة وغيرها من الدول للملايين من مخرجاته، التي أخذت تلعب دورًا بارزًا ومحسوسًا في ساحاتها الاقتصادية والسياسية، وتمكنت من الوصول إلى القمة الإدارية لأكبر الشركات والمؤسسات العملاقة، وإلى مراكز متقدمة في صفوف القيادات السياسية في تلك الدول.

وبالنسبة لنا في دول مجلس التعاون فقد استقطبنا واستعنا، خصوصًا منذ بداية السبعينات من القرن الماضي، بالملايين من الأيدي العاملة الهندية من مخرجات منظوماتها التعليمية، من خبراء ومهنيين وفنيين وإداريين وحرفيين، ومديرين ومدرسين ومهندسين ومحاسبين ومحامين وأطباء وغيرهم، إلى جانب ملايين آخرين من العمال المهرة وغير المهرة، الذين أثبتوا كفاءة فائقة، ومكنتنا جهودهم ومساهماتهم من تحقيق أحلامنا وطموحاتنا وإنجاز مشاريعنا التنموية والإسهام في دعم الاقتصاد الوطني لدولنا، إذ يبلغ عددهم اليوم أكثر من 9 ملايين شخص يشكلون أكبر جالية هندية تعيش خارج الهند موزعين بين دول المجلس الست، منهم 4 ملايين في المملكة العربية السعودية و3.5 مليون في دولة الإمارات، والباقون متفرقون بين باقي دول المجلس، وفي مقابل عطائهم وتعبهم وجهدهم فإنهم يحولون إلى خزانة الدولة الهندية عن طريق القنوات الرسمية أكثر من 89 مليار دولار سنويًا، إلى جانب ما يحول عن طريق القنوات غير الرسمية.

إضافةً إلى كل ذلك، فإن أكبر دليل على تأكيد جودة التعليم في الهند، تمكنه أيضًا من إحداث نقلات وقفزات وتحولات اجتماعية واسعة، في مجتمع كان يرزح تحت وطأة نظام اجتماعي طبقي يفرق بين فئات وشرائح المجتمع؛ فالموروث الهندي أو الهندوسي، وعلى مدى التاريخ، كان يفرض على المجتمع الالتزام بنظام طبقي يصنف أفراده ويوزعهم على فئات عدة أو طبقات تتدرج من “طبقة البراهمة”، وهي الطبقة العليا التي تتربع على قمة الهرم الاجتماعي والاقتصادي، ومنها يولد الحكام والحكماء والصفوة، إلى “طبقة المنبوذين”، وهي الشريحة الكبرى التي تقبع تحت قاع الهرم وترزح تحت وطأة الفقر والذل والحرمان، إلا أن توافر التعليم وانتشاره في الهند وارتفاع جودته أحدث قفزات وتحولات اجتماعية هائلة في المجتمع أزالت هذا التقسيم وعززت قيم المساواة وتكافؤ الفرص وخلقت بيئة جعلت من السيد/‏‏‏‏ ناريندرا مودي، بائع الشاي المتجول في محطات القطار، أن يصبح رئيسًا للوزراء في الحكومة المركزية وإعادة انتخابه لدورات متتالية منذ العام 2014، ورفعت السيد/‏‏‏‏ إيكناث شيندي من سائق “ريكشو”، وهي عربة نقل ركاب بخارية صغيرة ذات 3 عجلات، إلى رئيس وزراء مقاطعة مهاراشترا، وهي أغنى مقاطعات الهند ومن بين أكبرها.