DELMON POST LOGO

العرب بين المثال والممكن

بقلم : محمد محفوظ - القطيف

أن من الظواهر الثابتة واللازمة لكل وجود ( على المستوى الفردي والجمعي ) ، هو ظاهرة وجود التطلعات والأمنيات والآمال ، حيث يتفق البشر جميعا على هذه المسألة . أو يحدث نفسه بأمنية ما فلا يوجد كائن إنساني ، لا يحمل تطلعا ما ، إلا أن البشر يختلفون في طريقة تحقيق الأمنيات و إنجاز التطلعات . فلا يكفي أن يحمل المجتمع أو الفرد تطلعا ، لأن هذا قاسم مشترك بين البشر الأسوياء جميعا .

ودائما هناك مسافة بين الأهداف والتطلعات المنشودة والواقع المعاش ، والمجتمع الحي الفاعل ، هو الذي يعرف بدقة كيف يقطع هذه المسافة بنجاح وتفوق ..

ومعرفة الواقع ، وإدراك خصائص اللحظة الراهنة ، هو الأرضية الصلبة ، التي يتكأ عليها المجتمع الحي لقطع المسافة ، وإيجاد تطابق نسبي بين التطلعات والواقع ..

والمجتمع الذي لا يدرك الراهن ، يفقد مبررات وجوده الحقيقية ، ويتحول مع الزمن إلى سديم بشري ، لا تربطه مع بعضه أية رابطة حضارية أو إنسانية رفيعة .

لذلك فإن المعرفة التامة بالراهن ، هو من أوليات الانطلاق لأي مجتمع ينشد الارتقاء والتقدم . لأن أي مجتمع إنساني ينتخب أدوات عمله ، وأساليب نشاطاته المتعددة ، اعتمادا على نظرته للواقع ، وما تتطلب هذه النظرة من أساليب ووسائل.

فالراهن بجميع أبعاده وعناصره ، يفرض بشكل أو بآخر مجموعة من الأساليب والتكتيكات التي تتناسب والراهن، فلا يمكن القيام بمشروع اقتصادي ناجح دون إدراك طبيعة السوق ومتطلباته المختلفة ..

وكثير من التجار وأرباب العمل ، لم يستطيعوا أن يحققوا أي إنجاز أو مكسب نوعي ،ليس لضعف  الرأسمال المبذول في هذا المشروع الاقتصادي ، وإنما لأنهم لم يحددوا بشكل تام نظرتهم إلى السوق وحاجات المستهلك الحقيقية .

فالبداية السليمة لأي مشروع اقتصادي أو تجاري أو حضاري ، هو التعرف التام على الراهن واللحظة التاريخية وجوانبها المختلفة ، لأنه باختلاف الواقع ، يختلف الأسلوب ، وتتغير الوسيلة ، فواقع الثمانينات الاقتصادي مثلا ، يتطلب مشاريع وأفكار اقتصادية ، تختلف بشكل أو بآخر عن مشاريع ومتطلبات عقد التسعينات ، كما أن العقد الأول من الألفية الجديدة تتطلب مشروعات وأفكار اقتصادية متميزة .

والمشروع الاقتصادي أو التجاري أو الحضاري ، الذي يجهل الواقع ومتطلباته ، لن يتمكن من تحديد سلم الأولويات في مشروعه ..

وكثيرة هي الأعمال والأنشطة في المشهد العربي ، التي ضيعت سلم الأولويات لا لسبب ذاتي ، وإنما لجهلها التام أو النسبي للواقع الذي تعيشه ومتطلباته المختلفة ..

ولكن ثمة خلل عميق قد يصيب المجتمع في هذه المسألة ، إذ كثير من المجتمعات ، تختلط لديها الأماني والتطلعات بالإمكانات والقدرات المتوفرة ، لأن العمل والسعي الحثيث ، هو القنطرة الوحيدة لنقل التطلع من عالم التجريد إلى عالم التشخيص ، من المثال إلى الممكن . ويجانب الصواب من يرى أن أحقية تطلعه ، وأهمية أمنيته وعدالة قضيته ، كل هذه الأمور كافية لاجتياز طريق تحقيقها وإنجازها في الواقع الخارجي ، لأن هذه القضية قضية موضوعية ، خاضعة إلى النواميس والسنن ، ومقدار القدرة الفعلية المتوفرة في سبيل الإنجاز .

من هنا تنتج ضرورة الموازنة بين التطلع والإمكانات ، بين الواجب والواقع ، بين المثال والممكن ، بين ما ينبغي أن يكون وبين ما هو كائن ، لأن هذه الموازنة ، هي التي توظف الإمكانات القليلة في سبيل تحقيق التطلع الأهم وذات الجدوى ..

ولعلنا لا تبالغ حينما تقول، أن دراسة تجربة العرب المعاصرة سواء على الصعيد السياسي ، أو على صعيد مشاريع التنمية والتطوير الاقتصادي ، تكشف لنا أن أحد الأخطاء التاريخية التي منيت بها تجربة العرب المعاصرة على هذه الصعد ، هو حالة الخلل الموجودة بين الممكن والواجب، بين التطلع والإمكانات ، إذا اختلطت هذه الأمور في التجربة ، فجعلت البعض يقوم بأعمال وأنشطة ومشاريع لا تنسجم وظروفه الواقعية .

ونحن هنا بطبيعة الحال ، لا ندعو إلى أن يتخلى العرب عن تطلعاتهم وأمانيهم لأنها ضرورة من ضرورات الوجود الإنساني ..

ولكننا ندعو إلى أن المجتمعات العربية على المستوى العملي والفعلي ، ينبغي أن يعملوا في كل الاتجاهات على قاعدة الإمكانات والقدرات ، لأن الإنسان مهما أوتي من قوية ، فإنه لن يستطيع أن يحقق تطلعاته دفعة واحدة ، وإنما عليه أن يعمل ويسمى - التحقيق خطوات وإنجازات ومكاسب ، تقربه من تطلعه البعيد. وعلى هدى هذه الحقيقة التي ترقى إلى مستوى القانون، تتأكد مسألة الموازنة بين المال والممكن ، وانتنا ترى أن أحمد الشروط الأساسية للنجاح المجتمع العربي في تنميته وتطوره، هو الموازنة الواعية بين الممكن والواجب .

لهذا فإن القرآن الحكيم نزل منجما ( بالتدريج ) والدين الإسلامي في كل توجيهاته الفكرية ، وتعليماته الأخلاقية ، وتشريعاته القانونية ، يأخذ بعين الاعتبار واقع الحياة والانسان .

وهذا لا يعني التخلي عن المقال أو التطلع ، وإنما يمني العمل على رفع سيدات الواقع وإحلال حسنات المثال والمقيم بشكل تدريجي لا يفاجئ القداس ، ولا يعطل مسيرة المجتمع .

فلا يكفي حماس المجتمع حتى يتحقق تطلعه وطموحه ، وإنما لا بد من توفر جملة من العوامل الذاتية والموضوعية ، لإنجاز التطلع والطموح .

وإن الخطر الحقيقي الذي يواجه الواقع العربي اليوم ، ليس في الهزيمة المادية الخارجية ، بل في الهزيمة النفسية ، التي تسقط كل خطوط الدفاع الداخلية ، وتمنع من وجود القدرة الطبيعية لإدارة الذات فضلا عن تطويرها وتذليل العقبات التي تمنع ذلك .

ولعل المفكر الجزائري ( مالك بن نبي ) من أوائل الذي أدركوا أن المشكلة التي تواجه العالم العربي والإسلامي ، مشكلة حضارية ، وأن الخطأ الذي أرتكبه رجال النهضة حينما جزءوا المشكلة ..

ويتناول ( بن نبي ) هذه المسائل في الكتاب ، الذي أصدره في نهاية الأربعينات بالفرنسية ، تحت عنوان ( شروط النهضة ) ، وفيه يحدد مشكلة - العالم العربي والإسلامي - إذ يقول : فرأي رجل سياسي كجمال الدين الأفغاني ، أن المشكلة سياسية ، تحل بوسائل سياسية .. بينما رأي رجل دين كالشيخ محمد عبده ، أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ .

ويضيف : فالعالم الإسلامي ، يتعاطى هنا حبة ضد الجهل ، ويأخذ هناك قرصا ضد الاستعمار ، وفي مكان قصي يتناول عقارا كي يشفى من الفقر ، ولكننا حين نبحث حالته عن كثب ، لن نلمح شبح البرء ، أي إننا لن نجد حضارة ...

فمعرفة الواقع ، وإدراك عناصره المختلفة ، هي الأرضية المناسبة التي تجعلنا نحدد جوهر المشكلة التي تواجه العالم العربي والإسلامي .

كما أن معرفة الواقع ، تؤهلنا لامتلاك وعي مطابق للحظتنا التاريخية .

ولعل من أخطر المشكلات التي تعترضنا في علاقتنا بالواقع هي ما يصطلح عليها ( سعد الله ونوس ) بآلية التذهين التي تغيب الواقع وتخفيه ، وتبتعد عن مشكلات الواقع الحية وتحشر الراهن في إشكاليات غير مطابقة لأزماته ومعضلاته ، وإن أي تجاوز للواقع ، يتوه السجال في التجريد ويسقط الواقع في الغياب .

لهذا فإن الخطوة الأولى ، التي تعيد للواقع العربي عافيته ، وتجعله يوازن بشكل فعال ، بين إمكاناته وتطلعاته ، هو الحركة الذاتية ، بمعنى أن حركة المجتمع العربي ، تجاه البناء والتطوير ، ينبغي أن تكون حركة دينامية - ذاتية ، لا تنتظر المحفزات من الخارج ، بل هي مجتمعات مولدة للتطوير وصانعة له .

وأن الحركة الذاتية ، هي التي تفتح أبوابا جديدة لرؤية المستقبل وبلورة آفاقه . فإن الإمكانات والقدرات التي يختزنها المجتمع ، لا يمكن توظيفها في عملية إنجاز التطلع والطموح، إذ لم تكن هناك حركة ذاتية في المجتمع ، يتحرك بحوافزها ، ويسعى نحو الاستفادة القصوى من كل الإمكانات المتوفرة في المجتمع والطبيعة ..

وهذا ما يفسر لنا فشل بعض بلدان العالم العربي والإسلامي ، مع ما تمتلك من إمكانات وثروات وقدرات ، إلا أنها لم توظفها التوظيف ( الأمثل ) في مشاريع التنمية والبناء ..

لأنها لم تعتمد في مشاريعها التنموية والتطويرية على مجتمعها وحركته الذاتية ، بل حاولت هذه البلدان استعارة الحوافز ومظاهر النمو ، دون أن تأسس في البناء الاجتماعي ، الأسباب الذاتية ، لصناعة الكفاءة القادرة على توظيف الإمكانات واستثمارها بما يخدم تطلعاتها ومشاريعها وطموحاتها .

أن المجتمع ( أي مجتمع ) ، لا يمكن أن يتقدم ويصل إلى مرحلة إنجاز التطلع وتحقيق الطموح ، إذا لم يؤسس في كيانه العوامل الذاتية التي تجعله يباشر عملية الإنجاز بنفسه ..

ففقه الواقع ، هو الوجه الثاني لحيوية الأفكار وفاعليتها في المحيط الاجتماعي ، فحيوية الأفكار لا تقاس بعيدا عن الواقع وملابساته ، وإنما تقاس بالإمكانية الفعلية لتفاعل هذه الأفكار مع الواقع .

والتفاعل هنا لا يعني إخضاع الأفكار للواقع ، أو تسويغ الواقع ، وإنما يعني بعد هذه الأفكار عن الأفق التجريدي ، الذي يفصل الفكرة عن محيطها ، ويجعلها وكأنها فكرة لا صلة لها بأي شكل من الأشكال مع الواقع والظرف العام .

والصلة التي نراها ضرورية بين الأفكار والواقع ، هي الصلة التي تجعل الأفكار بمثابة الجسر ، الذي ينقل الواقع من حالة إلى أخرى أفضل .

والصلة هنا تباشر دورا مزدوجا أو ثنائيا ، فالواقع يثري الأفكار بخبرات الإنسان توجه الواقع ، وتسعى نحو تقويمه بما يتناغم والمثل العليا وتراكم تجربته ، كما أن الأفكار لهذه الأفكار .

فالصلة بين الواقع والأفكار ، صلة تفاعلية ، بحيث ينفتح الفكر على متطلبات الواقع ، دون انزواء أو استعلاء ، كما أن الواقع بثرائه وتنوعه الهائل يستنير بأطروحات الفكر وآفاقه الإنسانية ..

ولكي نحقق هذه الصلة والعلاقة الخلاقة ، من الضروري التأكيد على النقاط التالية :

1- أن الثقافة الخلاقة ، لا تنمو في الأبراج العاجية ، والاستعلاء على هموم المحيط وتحديات الواقع ، وإنما تنمو في إطار التفاعل مع الهموم الحضارية والاستجابة الواعية على التحديات الكبرى .

لذلك فإن فقه الواقع ، وإدراك عناصره وقضاياه ، يعد وسيلة أساسية لنمو الثقافة الخلاقة ، في حياة الإنسان الفرد والمجتمع ..

والجهد الذي يبذل في هذا السبيل ، لا يعد مضيعة للوقت أو اهتمام في غير محله ، وإنما هو من صميم العمل ، ويقف على رأس أولويات الإنسان الذي يتطلع إلى صنع مستقبله بيديه

2-أن معرفة الواقع ، ليس قرارا يتخذ أو كلمة تقال ، وإنما هي متابعة واعية الخريطة الواقع وقراءة مستديمة لأحداثه .

لأن الواقع في صيرورة دائمة ، والتوقف عن فهمه ومعرفته ، بدعوى المعرفة السابقة ، لا يؤدي إلى فقه الواقع ، وإنما يؤدي إلى إسقاط فهم مسبق على الواقع ..

لذا فإن فقه الواقع ، يتطلب دائما اليقظة الدائمة ، لإدراك حركة الواقع ، واكتشاف نحو سيره .

وإن الموازنة بين المثال والممكن ، لا يعني غياب المبادرات المجتمعية وعدم اغتنام الفرص التي تقرب المجتمع من طموحه وتطلعه ، وإنما ، تتجسد في إرادة هي قدرة نفسية وتصميم وتخطيط يتجه إلى تحقيق الانسجام المطلوب بين الواقع والمفروض ، وهذه صفة يتمكن المجتمع من خلالها ، من تجاوز عثرات الطريق وسيئات الراهن ، حضارية ، إذ ويستطيع من خلالها أن يهضم إيجابيات الجديد .

فمن الأهمية بمكان ، أن يتوجه العرب اليوم ، إلى فض الاشتباك بين الممكن والواجب ، والعمل على تحقيق الممكن من الأمور .

والاعتقاد بأن إنجاز الممكن ، ليس نهاية الطريق ، وإنما هو خطوة تقربنا زمانا ومكانا من الوصول إلى التطلع البعيد .

ومن هنا قيل أن قطع الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة ، كما أن البحر عبارة عن قطرات تتجمع مع غيرها من القطرات فتحقق بحرا عظيما . فالمجتمع لا يمكن أن يحقق أهدافه وتطلعاته ، بالقيم والمبادئ بوحدها ، وإنما من الضروري إبداع الخطط المرحلية من تلك المبادئ ، وبما ينسجم وظروف ( الواقع واللحظة الراهنة ) .

وإن المجتمع الذي يعجز عن توليد البرامج والخطط المرحلية واستنباتها في السياق الاجتماعي الطبيعي ، لن يتمكن من تحقيق تطلعه والوصول إلى مطامحه ..