DELMON POST LOGO

مع سيمفونية حرية الصحافة ومصداقيتها

بقلم : عبد النبي الشعلة

بعد التخطيط والإعداد والاستعداد لأكثر من عام صدر في مثل هذا اليوم قبل 16 عامًا العدد الأول من جريدة “البلاد” اليومية والتي شرفني وكلفني مؤسسوها بالإشراف على عملية إصدارها ورئاسة مجلس إدارتها منذ ذلك اليوم وحتى الآن.

وفي هذا اليوم أيضًا أستطيع أن أزعم بأنني أكملت 54 عامًا وأنا أتجول بين أروقة ودهاليز  صاحبة الجلالة وبين مختلف ميادين الإعلام والكتابة والنشر والإعلان؛ وهي رحلة جميلة طويلة ممتعة تعلمت فيها الكثير وأخذت منها الكثير وأعطيتها القليل في المقابل، وكانت البداية مفعمة بالحيوية والحماس التي غذتها شعارات “حرية الصحافة” بآفاقها الصافية الواسعة؛ حرية الكلمة المسؤولة وحرية التعبير عن الرأي، وكنت وقتها أتصور المحررين وكتّاب الرأي كائنات سعيدة محظوظة تحلق بأقلامها وأجنحتها كالملائكة في فضاءاتها الواسعة.

وفي البداية أيضًا رسمت في مخيلتي صورة الصحافة، صاحبة الجلالة، كإلهة إغريقية، طاهرة شامخة، مرصعة بجواهر المبادئ والقيم المهنية والأخلاقية، وتجللها هالات الأمانة والمصداقية، وتنساب من تحت عرشها أنهار العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية.

ومع مرور الوقت، وتعاقب الأيام والسنين، وتراكم البياض فوق ما بقي من شعر الرأس، اكتشفت أن كل ذلك كان أضغاث أحلام، مجرد أوهام تلمع من بعيد كالسراب، فلم يكن لحرية الصحافة أي وجود أصلاً، وإن كان لها وجود في يوم من الأيام فقد كان على شكل نظريات في بطون الكتب، وكنا وقتها قد ابتلعنا الأكذوبة الكبرى وصدقنا أن عالم الغرب المتحضر المتقدم بشكل خاص يمثل الحصن الحصين لهذه الحرية، وأن مراكز إشعاع حضارته في لندن وباريس وواشنطن وغيرها هي القلاع المنيعة التي تحمي هذه الحرية وتصونها من أيدي العابثين، إلى أن صَدَمنا الواقع عندما اكتشفنا أن حرية الصحافة في الغرب أصبحت، أو بالأحرى ولدت مدجنة ومسخرة لخدمة مصالحهم وأهدافهم وأطماعهم، وهي بعيدة كل البعد عن المبادئ والقيم التي يتغنون ويتشدقون بها.

حرية الصحافة عندهم تمتاز بالانتقائية والازدواجية في أحسن الأحوال، وتسيطر عليها وتتحكم فيها وتسير دفتها قوى وأذرع “الدولة العميقة” أو الخفية، إلى جانب رؤوس الأموال وجماعات الضغط وجهات المصالح الكبرى وما شابه، ولعل الحال في دول العالم الثالث الذي ننتمي إليه أهون وأوفر حظًا، فنحن بهذا الشأن أكثر شفافية وصراحة ووضوحًا؛ فالجلاد هنا معروف، والتحكم في حرية الصحافة يتم عن طريق الأجهزة الرسمية المختصة وعادة ما تسمى وزارات الإعلام، ومن المفارقات اللافتة أن مثل هذه الأجهزة أو التسميات لا وجود لها في قواميس دول العالم الغربي.

وأمام هذا المشهد المحزن لحرية الصحافة في الغرب لم يعد ثمة مكان أو حاجة لما يسمى بالمبادئ والقيم الأخلاقية والمهنية أو الأمانة والمصداقية للصحافة، وقد تجلت هذه الحقيقة مجددًا وبشكل مقزز ومخيف ومحزن ومحبط طيلة العام الماضي من خلال الأسلوب غير الإنساني وغير المهني وغير الأخلاقي الذي تعاملت به الصحافة في الغرب مع الغطرسة الإسرائيلية المنافية لأبسط القوانين الدولية والشرائع الإنسانية، وما ارتكبته وترتكبه من جرائم همجية بحق الشعب الفلسطيني، وما اقترفته أيديها في قطاع غزة من مجازر وتصفيات بشرية وتطهير عرقي وهدم للبيوت على رؤوس ساكنيها وتدمير للمستشفيات والمدارس ودور العبادة وكافة مرافق البنية التحتية.

و فيما عدا القليل من الحالات الشاذة النادرة، فإن الصحافة في الغرب وقفت وما تزال واقفة وعيونها مغمضة وأبواب ضمائرها موصدة حيال ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من آلام وويلات، وفي أغلب الأحيان فإنها للأسف الشديد تبرر التجاوزات وقتل الأطفال والأبرياء بذريعة الدفاع عن النفس؛ وهي كلمة باطل يراد بها باطل أفظع منه.

واليوم وبعد مرور 16 عامًا على اصدار أول عدد من جريدة “البلاد” فإننا نقف مع قيادتنا الحكيمة مهتدين برؤى وتوجيهات العاهل المفدى حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك البلاد المعظم، حفظه الله ورعاه، وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس الوزراء، حفظه الله، واهتمامهما ودعمهما للصحافة البحرينية وحرصهما على إفساح المجال لها للتمتع بأجواء الحرية المسؤولة، فإننا نجدد العهد بالالتزام بهوية جريدة “البلاد” ورسالتها الهادفة إلى تأكيد الولاء للوطن وللنظام الملكي تحت راية آل خليفة الكرام، وتأكيد انتماء البحرين العربي والإسلامي، والعمل على تعزيز الوحدة الوطنية مع احترام مبادئ الديمقراطية والتعددية السياسية والدينية والثقافية، والعمل كذلك على صون المنجزات والمكتسبات الوطنية، ودعم جهود البناء والتطوير وترسيخ قيم الحرية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان، والمشاركة في تحقيق إرادة الشعب بالتأكيد على مبادئ ميثاق العمل الوطني والدستور، والعمل سوياً على حماية المؤسسات الدستورية للدولة، وسنحرص على إبقاء جريدة البلاد منبراً للكلمة الحرة وفضاء لوجهات النظر المختلفة، وساحة للنقد الهادف البناء، وناقلاً أميناً لتطلعات المجتمع بفئاته ومكوناته المختلفة ومرآة عاكسة لمكانة البحرين الحضارية وموقعها الاقتصادي المتميز على الصعيدين الإقليمي والعالمي.

إننا على قناعة تامة بأن مساحة حرية التعبير المتوفرة لنا تعتبر وافية كافية، وأن سقف حرية الصحافة مرضٍ أو حتى مرتفع بما فيه الكفاية، مقارنة بغيرنا، وفي ظل التهديدات والظروف الأمنية السائدة الناتجة عن التحديات والأخطار التي نواجهها، والتي تهدد سيادة الدولة وأمنها واستقرارها ووحدتها الوطنية، وبالأخص في هذه الفترة الحرجة التي تشهد اليوم تداعيات التطورات الخطيرة والمواجهات العسكرية المتصاعدة بين إسرائيل وحركة حماس، التي امتدت إلى الحدود اللبنانية وطالت دولا أخرى في المنطقة، وفي الوقت نفسه فإن هذه الظروف وتداعياتها الخطيرة تتطلب وتقتضي من الصحافة الاضطلاع بدورها بقدر أكبر وتكثيف عطائها ومساهماتها لدعم جهود الدولة في الحفاظ على أمن الوطن وسلامته، ولعل ذلك يتطلب توسيع رقعة مساحة الحرية المتاحة لها لتكون العين الساهرة والأداة التّي ترصد للقيادة والأمة وتكشف لهم مواطن الضعف والخلل وأوجه القصور والأخطاء والتجاوزات إن وجدت، مع التأكيد مرة أخرى بأن حرية التعبير وحرية الصحافة ليست مطلقة، وستبقى دائمًا محكومة ومقيدة عندنا بقيم الأمانة والمصداقية والمسؤولية الوطنية ومراعاة مصالح الدولة وسلامة المجتمع، ولا يمكن لهذه الحرية بأي حال من الأحوال تخطي أو اختراق أو تجاوز أي من هذه الحدود والاعتبارات والمعايير والمحاذير حتى في أعرق الدول والمجتمعات الديمقراطية في العالم كما ذكرنا آنفًا.

حفظ الله البحرين الحبيبة الغالية وشعبها الوفي تحت القيادة الحكيمة لصاحب الجلالة الملك المعظم حمد بن عيسى آل خليفة، حفظه الله ورعاه، وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس الوزراء، حفظه الله، وسدد على دروب الخير خطاهما.