DELMON POST LOGO

دلالة الأوصاف في النعيم الأُخروي  ..الخمر كنموذج

بقلم : الشيخ حميد المبارك

تكرّر في القرآن الكريم الوعدُ بالخمر في الجنة الأُخروية: "مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ .." (محمد ١٥). وقد توجد صعوبة في التوفيق بين هذا الوعد وبين وصف الخمر بالرِّجس: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ .." (المائدة ٩٠). ولا يوجد تصور واضح لهذه القضية التي هي نظير سائر موارد الغيبيات. فلا يمكن التكهّن بنوع الخمر الموعودة في الآخرة. فقد يُحتمل أن تكون من سنخ الخمر المعهودة في هذه الحياة كما هو ظاهر اللفظ. وقد يُحتمل أن تشير إلى مصداق مجهول لدينا، وذلك بالتوضيح التالي:

(١) لا يُعد من قبيل التّنكّر لمدلول اللفظ الذي لا يتم بدونه التخاطب، أن نحتمل انطباق عنوان الخمر الأُخروي على مصداق غير معهود في هذه الحياة، فإنه يوجد أنواع من الخطاب:

ا) الخطاب القانوني: ويتعين في الأساليب القانونية والتشريعية الأخذ بمدلول اللفظ بلحاظ مصداقه الخارجي المعهود. وذلك لأن إرادة غير المصداق الخارجي المعهود فيها موجب لغموض القانون، وبالتالي تفويت الغرض منه. ففي مثل قوله: "الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ .." (النور ٢). لا يصح احتمال أنه يريد مطلق التعنيف دون الصورة الحسية المعهودة للجَلْد، فإن هذا لا يناسب لغة التقنين المبتنية على الدقة والتحديد للمطلوب. ولو أراد التخيير في المصداق فإنه يأتي حينئذٍ بلفظ عام، نظير: "وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا .." (النساء ١٦).

ب) الخطاب الوصفي الذي يتعلق غرضه ببيان حدود الموصوف الخارجية، نظير وصف الطريق للمسافر. فحكمه كالخطاب القانوني في الالتزام بالصورة الحسّية المعهودة.

ج) الخطاب الوصفي الإشاري: وذلك حين لا تكون غاية الخطاب مُنصَبَّة على المصداق الحسّي المعهود، بل على مفاد تجريدي أوسع منه، نظير:  "الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى" (طه ٥)، فإن فائدة هذا الخطاب لا تنحصر عرفاً في مصداقه الحسّي المعهود، بل الغاية البارزة فيه هي بيان القدرة والسلطان والإحاطة، ولذلك قال بعده: "لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى. وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى" (طه ٦-٧).

(٢) وهذا المعنى كالقرينة العامة في الخطابات الوصفية الإشارية، خصوصاً المتصل منها بالأمور الغيبية، نظير الأوصاف الواردة للجنة والنار. فإنه لا يتعين في فائدتها الوقوف عند الصورة الحسّية المعهودة، إذ هي ناظرة إلى التأكيد على معنى تجريدي عام، وهو راحة النعيم وشدة العذاب. فمثلاً: لا تتوقف الغاية من خمر الجنة على خاصية السُّكر والترنح المعهودين في خمر الدنيا، والذين بسببهما يُوصَف الخمر بأنه رجس، بل المنصرف من سياقات الخمر الأُخروي هو إرادة التأكيد على خاصيّة اللذة: ".. وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ .." (محمد ١٥). وعلى هذا المنوال يمكن النظر إلى سائر الأمثلة:

ا) الإشارة إلى الرفاهية والبهجة: "مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ" (الرحمن ٧٦).

ب) الإشارة إلى الراحة التامة وعدم الحاجة الى بذل عناء:  "وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلا" (الانسان ١٤).

ج) الإشارة إلى الإدهاش من حيث اتحاد الشكل واختلاف الطعم: ".. كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُواْ هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا .." (البقرة ٢٥). فإن اختلاف مذاق المتشابهات هو سبب الدهشة التي استدعت الامتنان وبيان فائق النعمة.

د) الإشارة إلى نفي التزاحم والتنافس بين أهل النعيم، حتى فيما يتصل بأقوى اللذات تأثيراً في الرغبة: "فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ" (الرحمن ٥٦).

ه) الإشارة إلى القُرب والسّلام التام بين أهل النعيم: "وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ" (الحِجْر ٤٧). إلى غير ذلك من أمثلة الصُّوَر التجريدية التي تشكل الغاية النهائية من الصُّوَر الحسّية المذكورة في لفظ الخطاب.

الخلاصة: يجب التفريق في الأخذ بحرفية الكلام وعدمه بحسب الغاية من الخطاب. فإن كانت الغاية هي التوصل إلى معنى عام من خلال الصورة الحسّية، فذلك المعنى العام إذن هو قوام الخطاب وليس الصورة الحسّية. وأما إذا كانت الغاية بيان أمر وصفي لما هو في الخارج أو تشريعي قانوني يُراد تطبيقه خارجاً، فذلك يناسب الإرجاع إلى الصورة المعهودة تجنباً لغموض الوصف أو التقنين، إلا أن تكون الغاية الأوسع من الصورة الحسّية واضحة جداً لدى المتلقي العرفي بحيث لا تحتاج إلى قرينة إضافية، نظير غاية العدل في قوله تعالى: ".. وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ .." (الأنعام ١٥٢). فإن العُرف يتلقى الكيل والميزان في هذا الخطاب كأداة إشارة إلى المعنى العام، والذي هو: وجوب أن تكون كل معاملة وفق ضوابط العدل والإنصاف.