DELMON POST LOGO

جدليات الواقع العربي

بقلم : محمد  محفوظ - القطيف

إلى أي مدى استوعب العقل والوعي العربي جدليات واقعه ، بحيث يتجاوز في نظراته إلى هذا الواقع ، كل عمليات التسطيح والتزييف والبساطة التي تصل إلى حد السذاجة في التقويم ، ويصل إلى مستوى متقدم من العقل النقدي والعملي. وأن تاريخ الأفكار الكبرى في التجربة العربية ، يدلنا على أنها جاءت من رحم المعاناة ، والسعي الجاد لتقديم إجابات شافية على أسئلة العصر ، وأن التجريد في الأفكار ، وغياب الاتصال بين ما يفكر فيه والمعيوش ، لم يكن له نصيباً وحظاً وافراً في التجربة الحضارية للعرب . وأن الطلاق بين النظرية والتطبيق والقول والعمل ، لم تعرفه التجربة الحضارية للعرب والمسلمين ، بل هناك نص قرآني يوبخ أولئك النفر ، الذين يحدثون فصلا بين أقوالهم وأفعالهم [ كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون ] .

وأن هذا الفصل والطلاق ، عرفه الغرب في عصوره الوسطى ، ويصف " جاك لوكوف" هذه الحالة فيقول : في بعض الميادين كان لذلك الطلاق مضاعفات كثيرة ، إذ أصبح الفيزيائيون يفضلون أرسطو على التجارب والأطباء ، جالينوس على التشريحات . وقد برزت هذه الظاهرة في الواقع العربي والإسلامي ، حينما ساد التخلف وتراجع الركب عن تجسيد قيم الإسلام الكبرى في واقعهم الاجتماعي .

ولقد حاول بعض المفكرين العرب وبالذات في مشروع " مستقبل الأمة العربية التحديات والخيارات صياغة الجدليات الحاكمة في التاريخ العربي على قاعدة " أن أي طرح لشكل من أشكال المستقبل يهمل الجدليات الحاكمة في منطق التاريخ ، لهو طرح يجانبه الصواب ويجافي منطق التاريخ والاجتماع البشري " وهذه الجدليات ( في منظور المفكرين العرب ) تشكل نسقا يعبر عن المكان والزمان . ولقد صاغ المفكرون العرب هذه الجدليات كالآتي :

التوحد والتفتت

إذ أن التاريخ العربي " في هذا المنظور" لم يكن به ما يسمى " حالة وحدة" أو " حالة تجزئة" كلتا الحالتين ما هما إلا لحظتان تاريخيتان مؤقتتان وأن كلا منهما حملت في أحشائها البذور الجنينية للحالة الأخرى .

وقد امتلأت القرون الأربعة عشر التالية لظهور الإسلام ، بظهور كيانات صغيرة ، سرعان ما كانت تتعرض لعملية ضم واندماج سياسيين في كيانات أكبر ، لا تشمل بالضرورة كل أرجاء الوطن العربي ، ولكنها بالقطع أكبر من الوحدات السياسية القطرية المعاصرة . وبعد فترة تطول أو تقصر ، كانت عوامل التفتت تدهم هذه الكيانات الكبرى تم تبدأ عملية التوحد مرة أخرى ... وهكذا . ويضيف القائمون على مشروع " استشراف الوطن العربي أن التوحد - كعملية مجتمعية سياسية - كان يمثل اتجاها تاريخيا مستمرا وكان التفتت أيضاً ـ كعملية مجتمعية سياسية - يمثل اتجاهاً تاريخياً مضاداً والعمليتــان سـادتا التاريخ العربي من خلال جدلية مستمرة. وأهم من ذلك بالنسبة إلى المستقبل هو التأكيد على أن عوامل التوحد موجودة بالقوة نفسها التي توجد بها عوامل التفتت في التجزئة الظاهرة في الوقت الحاضر .

الداخل والخارج

والجدلية التاريخية كانت تجد لها تعبيرا أيضا في التفاعل والصراع بين قوى الداخل الأصيلة في تركيبه ، وبين قوى الخارج التي حاولت قهره والهيمنة عليه . كانت القرون الأربعة الأولى من التاريخ العربي والإسلامي فترة نهوض داخلي وعسكري وحضاري مع كل تداعياته ومصاحباته. وكانت القرون الثلاثة التالية فترة انحسار ، دهمت فيها قوى الخارج أطراف الوطن العربي وتقدمت نحو قلبه على ثلاث محاور : المغول من الشرق والصليبيون من الشمال والأسبان - البرتغاليون من الغرب .

ثم كانت القرون الخمسة التالية قرون جذب وشد بين قوى الداخل وقوى الخارج ، مع غلبة نسبية لقوى الداخل ، إذا اعتبرنا الدولة العثمانية ممثلة لها .

ثم كان القرنان الأخيرين فترة انحسار قوى الداخل وفترة مد واختراق وهيمنة لقوى الخارج . والذي فعله الاستعمار الغربي في غزواته الأخيرة هو أنه حول التفتت الذي كان بمثابة الحالة الزئبقية في التاريخ العربي إلى القرن الثامن عشر الميلادي إلى تجزئة ، وأضفى عليها مظاهر الثبات والتكلس ، بما خلقه من أطر قانونية ومؤسسية قطرية لهذه الأجزاء .

العقائد الكبرى والعقائد الصغرى

ومنذ اكتسب الوطن العربي سماته الدينية والثقافية بعد استقرار عملية الفتح العربي والإسلامي، وهو يخضع لتضاد ثنائية ثالثة في جدلية ما بين الموحدات الحضارية الكبرى في مواجهة المفرقات الثقافية الصغرى .

وقد جعل وجود الموحدات الحضارية الكبرى ، ولا يزال يجعل الوطن العربي مهيأ دائما للاستجابة لمركز سياسي واحد والمركز حضاري واحد ، وكانت مقومات هذه الاستجابة متوافرة وحينما وجدت دعوة أو رسالة أو زعيم أمكن استنفار هذه الموحدات الحضارية وكانت بالتالي عوامل التوحد السياسي تتعاظم وفي حالات كثيرة تمت ترجمتها إلى واقع عملي ، وظهرت كيانات أكبر في التاريخ العربي ولكن بالقدر نفسه والقوة نفسها كان وجود المفرقات الثقافية الصغرى في كنف أو إلى جانب الموحدات الكبرى ، يجعل المنطقة مهيأة لعوامل التفتت . فالعصبيات المحلية لم تختف من التاريخ والواقع العربي المعاصر . ويمكن استثارة هذه العصبيات خصوصا في أوقات الانحلال والانحطاط .

الروحانيات والماديات

وتجاذب التاريخ العربي والإسلامي تعبيرات أخرى عن الجدليات الحاكمة ، تمثلت في التفاعل أو الصراع بين الظروف والنصوص ، بين المدنس والمقدس ، بين الواقع المعاش والرؤى المثالية .

وقد أضفت هذه المسألة الكثير من الحيوية السياسية والروحية على التاريخ الاجتماعي العربي ، وهذه الجدليات ليست منفصلة عن بعضها البعض ، بل مترابطة أشد الارتباط ، فلا يمكن الفصل بين جدلية التوحد والتفتت و جدلية الداخل والخارج ، إذ كلما صعدت قوى الداخل ، تراجع خيار التفتت والخارج والعكس ..

وان هذه الجدليات التي صاغها المفكرون العرب ، حين دراستهم لواقع العرب الشامل لا تشكل حتمية من حتميات التاريخ الاجتماعي العربي ، وإنما هي اجتهاد فكري - اجتماعي بحاجة إلى المزيد من التأمل والدراسة ، لسبر أغوار الواقع العربي ومعرفة مكوناته الحقيقية ومحركاته الفعلية .