بقلم : عبد النبي الشعلة
بنهاية الخمسينات من القرن الماضي، وإلى جانب الالتزام بدراستي المدرسية النظامية أتممت قراءة القرآن الكريم وحفظ أجزاء كثيرة منه، بالإضافة إلى قراءة عدد من الدواوين والمراجع والكتب الدينية الأساسية على يد والدتي (رحمها الله)، التي كانت تهيئني وتعدّني للدراسات الحوزوية لأكون رجل دين، ومع أنني لم أحقق أمنيتها، فقد تكونت في داخلي منذ ذلك الوقت ونمت معي حاسة التذوق والانجذاب لمختلف المكونات والتجليات الشعرية والأدبية للثقافة والتراث الديني.
ومن هذه القاعدة ما زالت تقبع في قاع ذاكرتي صورة ذلك الشيخ المسن الوقور، بجبته الرثة البالية، وعمامته الكبيرة الملونة التي لم تصلها محاولات الغسيل والتنظيف، وبلحيته الكثيفة البيضاء المرسلة على صدره، وجسمه المترهل البدين، والذي كان يتجول بتثاقل متكئًا على عصاه بين أزقة وطرقات حيّنا أو “فريجنا”، فريج المخارقة، فيتوقف ويجثم عند أبواب البيوت ليتسول أو ليترزق، أو بالأحرى ليروج ويسوق بعض الرسائل والبضائع الإيمانية عبر ترتيل بعض الآيات من القرآن الكريم بصوت جهوري عميق، أو قراءة أدعية ومواعظ أو إنشاد أشعار دينية، وكان واضحًا من هيئته ولهجته أنه عماني الأصل، ورغم تردده المنتظم على أبواب بيوت الفريج، لم يكن أحد يعرف اسمه أو يسأل عن انتمائه المذهبي، ففي تلك الأيام الجميلة لم يكن الانتماء المذهبي ذا أهمية تذكر، أو يقف في وجه نمو المشاعر والعلاقات الإنسانية، ولم نكن نسأل أو نعرف الفرق بين السني والشيعي ولم نسمع عن المذهب الإباضي، وإذا عرفنا عن أي من ذلك فلم نكن نشعر بأن الانتماءات المذهبية تكسب الفرد هوية غير هويته الإسلامية أو تطغى على هويته الوطنية، أو تكون سببا للكراهية والنفور أو الفصل والفرز والتفرقة بين بني البشر.
وعلى العتبات الخارجية لكل بيت من البيوت يجثم الشيخ المسن ويضع أمامه وعاء معدنيا صغيرا توضع فيه الصدقات أو العطايا النقدية، ويطرق الباب بعصاه، ومن دون انتظار أي جواب يبدأ بإنشاد أبيات من قصيدة “لُذ بالإله”، وهي قصيدة جميلة كانت قد انطبعت في ذاكرتي لفترة طويلة قبل أن تبدأ معاول السنين في تفتيتها ليعوضنا الله عنها بذاكرة الإنترنت، وكان يكرر الأبيات نفسها لثلات مرات أمام باب كل بيت، فإذا لم يجبه أحد أو يرد عليه نهض بصعوبة وتثاقل وتوجه نحو باب البيت الآخر.
عندما يصل إلى بيتنا ويقرع الباب بعصاه تترك والدتي كل شيء كان بيدها وتهرع نحو الباب وتجرني معها لنبدأ الاستماع بكل خشوع لإنشاده العذب الجذاب، هو خلف الباب في الخارج ينشد ونحن خلف الباب في الداخل نستمع، ولا تتوقف والدتي عن البكاء والنحيب طيلة فترة إنشاده، وقصيدة “لُذ بالإله” طويلة ومن بين أبياتها:
لذْ باﻹلهِ وﻻ تلذْ بسواهُ
مَنْ ﻻذ بالمولى الكريمِ كفاهُ
هذا الكريمُ هو الذي ملكَ الورى
والعبدُ ليس له سوى موﻻهُ
فإذا تكدَّرتِ الحياةُ فعجْ إلى
أبوابهِ واعكفْ على نجواهُ
فاللهُ أكرمُ أنْ يردَّ عبيده
لاسيما متعبِّدٌ أوَّاهُ
وإذا أردتَ من الكريمِ كرامةً
فالجأ إليهِ وناجِ: يا ربَّاهُ
رباه فاكشفْ عن عُبيدِكَ ضرَّهُ
أنتَ اللطيفُ البَرُّ يا اللهُ
فرِّجْ همومًا يا مُجيبُ تلاحقتْ
إنَّ الكريمَ يُجيبُ مَنْ ناداهُ
واغفرْ ذنوبًا قد تثاقلَ وزرُها
مَنْ لاذ بالربِّ الرحيمِ حماهُ
وعندما ينتهي الشيخ من الإنشاد تضع والدتي عملة نقدية بقيمة 10 بيسات فقط في وعائه المعدني (10 بيسات هي عُشر الروبية المكونة من 100 بيسة، وهي العملة السائدة والمتداولة في البحرين وقتها)، والمتعارف عليه في هذا السيناريو هو أن المتصدق بأي مبلغ لهذا الشيخ المسن يحق له الاستماع إلى مزيد من الأناشيد أو الأشعار الدينية، والشيخ يعرف أنه على عتبة هذا البيت عليه أن ينشد واحدة من قصيدتين، الأولى في مدح بنت رسول الله فاطمة الزهراء (عليها السلام)، والتي عَرَفتُ لاحقا أنها من شعر محمد إقبال الشاعر السني والفيلسوف الهندي المعروف، ومن أبيات هذه القصيدة:
المجـد يشــرق من ثــلاث مطالــع
فــــي مهــد فاطمـة فمــــا أعلاهــــــا
هي بنت من هي زوج من هي أم من
من ذا يدانــــي فـــي الفخــار أباهــــــا
هي ومضة مـن نور عين المصطفى
هــادي الشــعوب إذا تـروم هداهــــا
فـــي روض فاطمة نما غصنان لـــم
ينجبهمـــا فــــــي النيرات سواهــــــا
حســن الـــذي صان الجماعة بعدمــا
أمســـى تفرقهــــا يحــــل عراهـــــا
وحســين في الأبرار والأحرار مـا
أزكـــى شمائلـــه ومـــــا أنداهـــــــا
هــــي أســوة للأمهــــات وقـــــدوةٌ
يترســم القمـــر المنيـــر خطــاهــــــا
نـــور تهاب النــــار قدس جلالــــه
ومنــى الكواكـــب أن تنــال ضياهــا
بلــّت وســـادتها لآلـــئ دمعهـــــــا
مــن طـول خشـــيتها ومـن تقواهـــا
لـولا وقوفـي عند أمر المصطفــى
وحــدود شـــرعته ونحــن فداهــــا
لمضيت للتطواف حول ضريحها
وغمـرت بالقبـلات طيــــب ثراهـــــا
والقصيدة الثانية جميلة أيضًا، لكنها كانت تائهة بين شذرات ذاكرتي المتهالكة، وقد تعبت إلى أن تمكنت من الإمساك بخيوطها والوصول إلى مصدرها، واكتشفت أنها قصيدة طويلة للشاعر المصري إبراهيم بديوي مكونة من أكثر من 90 بيتًا مطلعها: بك أستجير ومن يجير سواكا.. فأجر ضعيفًا يحتمي بحماكا، ومنها هذه الأبيات:
يا رب عـدت إلى رحابك تائبـًا
مستسلمًا مستمسكـًا بعُـراكـا
مـالي ومـا للأغنيـاء وأنـت يـا
ربـي الغنيُّ ولا يُحـدُّ غنـاكـا
مالي ومـا للأقويـاء وأنـت يـا
ربي عظيـم الشـأن مـا أقواكـا
إني أويتُ لكل مأوى في الحيـاة
فمـا رأيت أعـزَّ مِـن مأواكـا
وتلمستْ نفسي السبيلَ إلى النجاة
فلم تجد منجـى سـوى منجاكـا
وبحثت عن سر السعـادة جاهـدًا
فوجدت هذا السرَّ فـي تقواكـا
فليرضَ عني الناسُ أو فليسخطـوا
أنا لم أعُد أسعـى لغيـر رضاكـا
أدعـوك ياربـي لتغفـر حوبتـي
وتعينـني وتمـدّنـي بهـداكـا
فاقبلْ دعائـي واستجبْ لرجاوتـي
ما خاب يومًا من دعـا ورَجاكـا
ولا أتذكر كيف اختفى ذلك الشيخ الوقور عن المشهد، لكنه لم يختف من صورة مجتمع الأيام الجميلة، الأيام التي يجب علينا جميعًا أن نسعى إلى الاحتفاظ بروحها، روح المودة والتعايش والإخاء.