DELMON POST LOGO

ازدراء الأديان 1-2

الحديث عن حرية الرأي والتعبير المطلقة التي تؤدي إلى ازدراء الأديان هو مغالاة في تفسير الحقوق دون قيود أو ضوابط؛ مما يؤدي إلى انتهاك حق الآخرين

د. شرف محمد علي المزعل

المحور الأول: الجانب المجتمعي

أولا - ازدراء الأديان كظاهرة تاريخية:

يقصد بازدراء الأديان: عدم احترام الأديان ومهاجمتها والإساءة إليها والتحقير من شأنها ومن شأن الرموز الدينية ذات الصلة سواء بالقول أو بالفعل، أو بنشر ما يقلل من شأن هذه الأديان أو تلك الرموز الدينية. ومن الناحية التاريخية، تجدر الإشارة إلى أن هذه الظاهرة لم تقتصر على دين بذاته بل شملت الديانتين المسيحية والإسلام. وقد أسفرت هذه الظاهرة عن العديد من الأزمات السياسية والدبلوماسية بين الحكومات الأوروبية ونظيراتها في بعض الدول العربية والإسلامية.

وترتبط ظاهرة الإساءة إلى الأديان إلى حد كبير بنشوء النظام الدولي بعد نهاية الحروب الدينية المتوّجة بعقد معاهدة ويست فاليا عام 1648 وبنشوء الدولة الأمة في أوروبا منذ ذلك التاريخ.

فإذا كانت تلك المعاهدة قد وضعت حدا للحروب الدينية وأرست أسس النظام الدولي المبني على ضرورة احترام الاختلاف الديني، فإن بعض مظاهر عدم التسامح الديني ظلت قائمة بسبب عدم احترام ديانات الأقليات داخل الدول، والتي تدين بدين غير دين أغلبية السكان فيها؛ الأمر الذي نتج عنه تدخل الدول الكاثوليكية في الدول البروتستانتية لحماية الأقليات الكاثوليكية فيها أو العكس.

وقد تعرضت الديانة المسيحية للنقد والهجوم وقد طالت هذه الانتقادات الكنيسة وتعاليم ونصوص الكتاب المقدس وحتى تعاليم السيد المسيح (عليه السلام) ذاته، ويرجع الإساءة إلى الديانة المسيحية إلى عام 1559 والتي امتدت حتى عام 1966 حيث تم نشر العديد من الكتب المسيئة إلى المسيحية وإلى شخص السيد المسيح (عليه السلام)، الأمر الذي دفع الكنيسة الكاثوليكية في روما إلى إصدار قائمة تتضمن الكتب المحظورة والمسيئة إلى المسيحية، وذلك بهدف حماية القيم والتعاليم المسيحية الكاثوليكية. وخلال الفترة الأخيرة تم أيضا إنتاج العديد من الأفلام السينمائية المسيئة لشخص السيد المسيح (عليه السلام) مثل فيلم “الإغواء الأخير للمسيح” خلال عام 1988 وفيلم “ كود دافنشي” في عام 2006.

وجدير بالذكر هنا أن ظاهرة الإساءة والتحامل على الإسلام والمسلمين والتي اخترقت

وسائل الإعلام الغربية ليست وليدة اليوم، بل إنها متجذرة في علاقة الإسلام والمسلمين بالغرب. فمنذ القرون الوسطى والتحامل على الإسلام والمسلمين قائم، إلا أن هذا التحامل تزايد بعد تدهور الحضارة العربية الإسلامية وتنامي الحضارة الغربية، وبالخصوص منذ عصر النهضة في أوروبا، حيث كانت هذه الفترة بارزة في تعميق هذه الإساءة ووضع أسسها. ومن جانبهم سعى المستشرقون أيضا إلى رسم صورة سلبية للإسلام والمسلمين والتي ما زالت راسخة في الذهن الشعبي الغربي حتى الآن، حيث صوّروا الإسلام كمنافس للمسيحية، وادّعوا تميز الحضارة الغربية على نظيرتها الإسلامية.

وفي أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 التي وقعت في نيويورك وواشنطن، تصاعد الهجوم على الإسلام والمسلمين على نحو مقلق حيث ربط الغرب الإسلام بالإرهاب والعنف والعدوان وعدم الاعتراف بالآخر، كما تصاعدت أيضا مواقف الازدراء والتحامل على الحضارة العربية الإسلامية، وازداد عدد الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للإسلام والمسلمين.

ثانيا - هل ازدراء الأديان من قبيل حرية التعبير؟

تشهد المجتمعات في الوقت الحاضر انقساما واضحا في الرأي بين قائل إن ازدراء الأديان جريمة تستوجب وضع قانون يعاقِب عليها، حتى تتم حماية المقدسات الدينية من مظاهر الكراهية التي تهدد التعايش بين الأمم والديانات، وقائل إن الأمر يتعلق بحرية التعبير، وكل تجريم هو بمثابة تضييق على حرية الرأي والتعبير، وتقييد للحرية الفردية التي كفلتها الدساتير والقوانين الوضعية.

إن الحديث عن حرية الرأي والتعبير المطلقة التي تؤدي إلى ازدراء الأديان هو مغالاة في تفسير الحقوق دون قيود أو ضوابط؛ مما يؤدي إلى انتهاك حق الآخرين استناداً لقاعدة أن حريتك تقف حيثما تبدأ حرية الآخرين. ومع تطور وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، وُضعت العديد من القيود والضوابط التي تنظم الإطار القانوني لهذا الحق حتى لا يُساء استخدامه بشكل مطلق للاعتداء على حقوق الآخرين ومعتقداتهم، ولكيلا يؤدي إلى الإضرار بالنظام العام والسلم الأهلي في البلاد.

إن الحق في حرية الرأي والتعبير من فضاءات الحرية التي تعتبر من الحقوق الأساسية للإنسان وركيزة من ركائز المجتمع الديمقراطي المتحضر، فقد كفلته مجمل المواثيق والاتفاقيات الدولية، كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي جاءت المادة (19) منه لتضمن لكل شخص حرية الرأي والتعبير واعتناق الآراء دون مضايقة بأي وسيلة ودونما اعتبار للحدود، وكذلك في الاتفاقية

الأوروبية لحقوق الإنسان، والاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان، والميثاق العربي لحقوق الإنسان.

ومع ذلك فلم تترك التشريعات الدولية الصلاحيات واسعة لممارسة حرية الرأي والتعبير لخطورة هذا الأمر على المجتمعات، بل وضعت العديد من الضوابط في إطار ممارسة هذا الحق والتي من أهمها ضابط احترام حقوق الآخرين وحرياتهم، فقد أكدت الفقرة (3) من المادة (19) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية جواز فرض بعض القيود على الحق في حرية التعبير احتراما لحقوق الآخرين أو سمعتهم ولحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة. ومن بين الضوابط أيضا التي تجيز تقييد حرية الرأي والتعبير ضابط احترام المشاعر الدينية، فقد حظر العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية عبر المادة (20/‏2) دعوات الكراهية الدينية التي تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف، وجرمت الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان عبر المادة (13/‏5) منها كل ما من شأنه الدعوة إلى الكراهية القومية أو الدينية ضد شخص أو مجموعة أشخاص بناء على أسباب عدة من بينها دياناتهم.

إن هذه النصوص والأحكام توضح عددا من الضوابط المهمة التي تُقيد حرية الرأي والتعبير دون أن تقمعها أو تحرمها، وهو ما يتطلب ممارسة الحق في إيصال الرأي والتعبير عنه بصورة متوازنة دون الانفلات الذي يؤدي إلى التشجيع على الكراهية بين البشر أو العنف أو التعدّي على الآخرين، فالحقوق والحريات إنما كُفلت وأُقرت من أجل تحقيق أهداف سامية، وليس لتشجيع العنف.

ثالثا - هل ازدراء الأديان من قبيل الاعتداء على الدين؟

إن حرية الرأي والتعبير، كما قلنا، يجب أن تتم ضمن ضوابط وحدود يحددها القانون، ويتوافق عليها المجتمع بجميع فئاته وطوائفه وأفراده. ويرى الدكتور ابراهيم الخولي، الأستاذ بجامعة الأزهر، أن حرية التعبير يجب أن تكون لها حدود، ويضيف أنه " لا يزدري الاديان إلا جاهل او مأجور، فالأديان مجسدة في اتباعها من البشر الذين يقدر عددهم بالملايين، وأحيانا بالمليارات، ومن يزدري الاديان يعتدي على اتباعها أولا قبل ان يعتدي على تلك الأديان ".

إن التعدي على الدين يمثل إساءة لمشاعر المؤمنين بهذا الدين، ويقدم الأساس الفكري لاستهدافه؛ بما لهذا الفعل من تداعيات اجتماعية سلبية على المجتمع ككل، وعلى السلم الأهلي والاجتماعي في البلاد. وقد تنامت في السنوات الأخيرة ظاهرة التهجم على الإسلام، والإساءة إلى رموز المسلمين ومقدساتهم، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، مما يحض على الكراهية والعنف؛ خاصة أن التهجم يقوم على مجرد الازدراء والتسفيه والتجريح بالمقدسات والرموز، دون أي رؤية نقدية أو فكرية، ودون مراعاة لأي اعتبار، ودون أي شعور بالمسؤولية، فمعالجة الخطاب الديني بصورة موضوعية ونقديه أمر مقبول ومطلوب، لكن التعدي على الدين، والإساءة إلى رموزه، أمر مُخزي، ويتنافى مع الأسلوب العلمي الحضاري في تناول مشاكل المجتمع بالرصد والتحليل.  

كما أن ازدراء الدين والتعدّي عليه هو أيضا خطاب كراهية، باعتباره يعمق مشاعر الكراهية بين البشر، ويهدد فرص التعايش بينهم؛ لذلك لا بد من تجريمه للوقاية من التطرف والعنف، وخلق بيئة للعلاقات الإيجابية بين الناس. غير أن المسئولية هنا تقع أيضا على نمط التدين الشائع في منطقتنا العربية، والخطاب الديني المتعالي على المُختلفين، وشيوع عدم التسامح بين أفراد المجتمع؛ وممارسات بعض الفئات والأشخاص الذين يعتقدون بقدرتهم على الإفلات من المساءلة القانونية.

… يتبع