DELMON POST LOGO

أمريكا وأوهامنا السياسية

بقلم : محمد محفوظ

العوامل ذاتية وموضوعية عديدة أضحت الولايات المتحدة الأمريكية كتجربة سياسية وحضارية بالنسبة إلى الكثير من شعوب العالم المشكلة والحل في آن واحد. فحينما ينسجم أي شعب من الشعوب مع هذه التجربة المتميزة على صعيد بناء الدولة وتأسيس المجتمع الجديد، فإنه يتناغم معها حد التقمص والاستنساخ الحرفي للتجربة بكل أطوارها وأبعادها. وحينما يعاديها أو يتخذ موقفا موضوعيا من حركتها السياسية ومراحل تطور علائقها الدولية، فإنه يجد نفسه ليس بعيدا عن نطاقها الحضاري والسياسي..

لذلك ومن مختلف المواقع الأيدلوجية والسياسية، نجد أن الولايات المتحدة الأمريكية بما تشكل من تجربة سياسية واقتصادية وبما تختزنه من قيم ومبادئ رأسمالية وليبرالية، هي من الإشكاليات الكبرى التي تعمق حالة الالتباس وتزيد من مستوى الضبابية في طبيعة الرؤية أو الموقف الذي ينبغي أن يتشكل تجاهها كنمط حضاري وخيارات سياسية واقتصادية.

فحينما تفكر أو تقرر أي دولة من الدول المجال الإسلامي من تطوير أوضاعها العلمية والتكنولوجية، فإنها تجد في الولايات المتحدة الأمريكية، أحد النماذج الأساسية لذلك فتندفع هذه الدولة في هذا السياق، وتسعى إلى تطوير علاقتها العلمية والتعليمية والتكنولوجية معها، وتبدأ بإرسال بعثات دراسية إلى معاهد وجامعات أمريكا. واستقبال خبراء ومستشارين أمريكيين في هذه الدولة.. وفي المقابل حينما تفكر بعمق في طبيعة المشكلات الأساسية التي تواجه دولنا العربية والإسلامية على الصعيدين السياسي والاقتصادي. تجد أن للولايات المتحدة الأمريكية كواقع دولي استراتيجي وخيارات سياسية وتوجهات اقتصادية ضاغطة على دول العالم لها اليد الطولي في تعويق وإفشال الكثير من لحظات التقدم والتطور سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي ..

ففي بلادنا العربية والإسلامية، دعمت أمريكا سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا الكثير من النظم الشمولية الاستبدادية التي تمارس كل أنواع الحيف والقتل بحق شعبها. كما أنها ساهمت في تسويق منهجيات اقتصادية، أفضت على المستوى الفعلي إلى تدمير البنى الاقتصادية التقليدية للاقتصاديات الوطنية، دون أن تساهم بجدية في بناء البنى الحديثة لهذه الاقتصاديات ونموذج الحكم الحالي في العراق ليس بعيدا عن ما نقول، بل هو أحد النماذج الصريحة لطبيعة الدور والوظيفة التي مارستها أمريكا في فضائنا ومجالنا. ومما يزيد الأمر لبسا وغرابة، هو طبيعة المنظور والموقف الاستراتيجي الذي تتعامل به الولايات المتحدة الأمريكية مع الكيان الصهيوني الغاصب لأرضنا ومقدساتنا. حيث أن الأمريكا الدور المركزي في التفوق النوعي الصهيوني وفي حمايته وضمان أمنه على المستويات كافة.

لذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة إلى مجالنا الإسلامي، هي وعاء التناقضات والمفارقات فهي خطر وضرورة ديمقراطية واستعمار وإمبريالية، اقتصاد مفتوح ودعم متواصل للديكتاتوريات وأنظمة الاستبداد حريات دينية وسياسية في الداخل الأمريكي وهيمنة وغطرسة وسيطرة في الخارج.

فالولايات المتحدة الأمريكية اليوم تتعاطى مع العالم كله بقضاياه المتعددة بعقلية الإمبراطورية الجديدة التي تتجاوز كل الشرعيات والمواثيق والقوانين من أجل تنفيذ أجندتها في العالم.

والاختلاف الأوربي - الأمريكي حول العراق، هو في جوهره يرجع إلى التباين بين الإمبريالية التاريخية التي وصلت بعد مرحلة تاريخية طويلة إلى قناعة جماعية مفادها أن الرجوع إلى القوانين والمواثيق الدولية، هو أفضل الخيارات الراهنة للحفاظ على مصالحها الحيوية والاستراتيجية بينما الولايات المتحدة الأمريكية تتجه بقوة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر نحو تجاوز كل الأعراف والمواثيق لضمان أمنها ومصالحها.

فالسياسة الأمريكية ووقائعها الاقتصادية والتنموية والسياسية في المنطقة، تعيش مفارقات عديدة تزيد من الالتباس، وتعمق هذه المفارقة التي تحتضن في صورة واحدة مشهدين متناقضين، ولكل مشهد متطلبات وحاجات خاصة...

وحتى نقترب من الشأن السياسي اليومي، لتوضيح هذه الحقيقة، نقترب من مواقف الحكومات والشعوب العربية والإسلامية من الحرب العدوانية التي تشنها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ضد العراق. فهناك بعض الأطراف (وهم قلة) لظروف موضوعية وملابسات سياسية، ترى في هذا العدوان تحرير للشعب العراقي وإن هذه الحرب جاءت من أجل تخليص الشعب العراقي من براثن نظامه المستبد. لذلك فهي مع هذا العدوان، وتبحث له عن مبررات ومسوغات مختلفة.

وفي المقابل نجد أن السواد الأعظم من الحكومات والشعوب العربية والإسلامية، تنظر إلى هذه الحرب باعتبارها حربا ظالمة وعدوانية وتستهدف احتلال العراق والسيطرة على مقدراته وثرواته .

فالمشهد العام في العالمين العربي والإسلامي، يحتضن مواقف متفارقة من الولايات المتحدة الأمريكية وسياساتها العامة وخياراتها الاستراتيجية.. فهي قوة احتلال وتحرير، هيمنة وسيطرة وغطرسة وحرية معتقد وفكر وتعبير قوة عسكرية غاشمة ومؤسسات الحقوق الإنسان بكل أشكالها ومستوياتها. ولعلنا لا نجانب الحقيقة حين القول: أن السبب في ذلك يرجع إلى الولايات المتحدة الأمريكية اليوم. فهي اليوم قوة حضارية هائلة، تمتلك كل مقومات المنجز الحضاري العالمي، كما أنها إمبراطورية سياسية واقتصادية وعسكرية لها مصالحها وعلاقاتها ومخاوفها وأصدقائها وأعداءها. وإن الوجه الأسود ينتمي إلى عالم الإمبراطورية بكل مقتضياته ومتطلباته ومتناقضاته. أما الوجه الإنساني والحقوقي والعلمي

والتقني، فهو ينتمي إلى البعد الحضاري لهذا العالم.

والتكوين البشري لهذا العالم، يتأرجح بين مبادئه ومثله العليا، وبين واقعه السياسي والاقتصادي ومصالح هذا الواقع العديدة، والتي تتجاوز الحدود الجغرافية للولايات المتحدة الأمريكية.

وهذا هو الذي يفسر لنا باستمرار، بروز أصوات داخل الولايات المتحدة الأمريكية، تدعو إلى تغيير الاستراتيجيات والسياسات بما ينسجم ومبادئ التأسيس وقيم الدولة الجديدة.. ووجود مؤسسات حقوقية وإنسانية أمريكية ذات طابع إنساني، لا يخرج عن هذا السياق، بل هي محاولة للوفاء للمبادئ والأسس الأولى. وأمام هذا الواقع الملتبس والمتناقض الذي يتحكم في طبيعة تشكيل الرؤية والموقف من الولايات المتحدة الأمريكية، مما يؤدي إلى مواقف وخيارات سياسية واقتصادية وثقافية مترددة، وتنطوي على مسائل وقضايا لا تنسجم بالضرورة مع أسس الرؤية وقواعد الموقف المطلوب.

وإننا في هذا السياق نؤكد على الأمور التالية :

1-إن الولايات المتحدة الأمريكية كأي دولة أخرى لها مصالحها التي تسعى بكل إمكاناتها إلى الحفاظ عليها. فأمريكا ليست قلعة للقيم والمبادئ وليست رسولا للديمقراطية. وإنما هي دولة كبرى لها شبكة ضخمة من المصالح المعقدة والمتداخلة .. بحيث أن أجهزة هذه الدولة، تسعى عبر مؤسساتها المختلفة إلى حماية هذه المصالح بمختلف الطرق والأساليب.

وعلى ضوء هذه الحقيقة، لعل من الأخطاء القاتلة التي قد ترتكبها بعض المجتمعات والشعوب بحق نفسها، هو حينما تنظر إلى أمريكا بعيدا عن شبكة مصالحها أو باعتبارها قوة تحرير وتخليص من مشاكلنا وأزماتنا.

إن أمريكا لن تضحي بحياة جنودها من أجل سواد عيوننا، وإنما من أجل مصالحها الحيوية وأهدافها الاستراتيجية. لذلك فإننا نرفض بقوة منطق التعويل على الولايات المتحدة الأمريكية في أي شيء.

إن التغيير الذي تنشده الشعوب لا يأتي عبر الولايات المتحدة وأجندتها السياسية، وإنما عبر إرادتنا الذاتية، وسعينا المتواصل لإنضاج الظروف الذاتية حتى تتحقق كل موجبات الإصلاح والتغيير في الواقع الخارجي.

لذلك فإننا كعرب ومسلمين، قد نرتكب خطيئة كبرى بحق تاريخنا وحاضرنا ومستقبلنا، حينما نراهن على أمريكا على تغيير أوضاعنا وأحوالنا.

إن أمريكا تقوم بكل ما تقوم به من أجل مصالحها وأهدافها فحسب، والساسة وصناع القرار في أمريكا على استعداد تام للقيام بأي شيء من أجل ضمان مصالحهم الحيوية استراتيجية. وإن السلوك والممارسة الأمريكية في دول العالم المختلفة، لا تنسجم والمبادئ والقيم التي يحملها الشعب الأمريكي ويبشر بها.

وإن ما يجري اليوم في غزة ولبنان ، ينبغي أن يخرجنا جميعا كشعوب عربية وإسلامية من وهم أن الولايات المتحدة الأمريكية تتطلع إلى سيادة الديمقراطية في مجالنا الإسلامي.

2-إن عالم اليوم بكل حقائقه ووقائعه، لا يستند إلا إلى منطق القوة. فالضعفاء لا مكان لهم في عالم اليوم. وإن اتكائنا نحن العرب والمسلمين إلى منطق الحق دون أن نسنده بمنطق العزة والقوة لا يغير من المعادلات القائمة، وإنما يزيدها تجذرا وتمكنا في الواقع الخارجي. لذلك فإننا مطالبون أن نبني قوتنا ونطور من إمكاناتنا الذاتية ونكافح من أجل تثبيت حقائق خارجية تعزز من منطقنا وتدافع عن حقوقنا ومقدساتنا. ففلسطين لن ترجع إلى أهلها بمنطق الحق بوحده، وإنما بالقوة الشاملة المستندة إلى منطق الحق والشرعية والتاريخ.

وإن التعويل على مشروعات أجنبية للحل، لا يفضي إلى شيء حقيقي على صعيد الواقع، وإنما يزيدنا ضياعا واختلافا وبعدا عن الهدف.

وهذا بطبيعة الحال، لا يعني أن نفتح لأنفسنا معارك وجبهات مختلفة، وإنما يعني إننا بحاجة إلى استراتيجية واضحة وتستند في عناصرها الرئيسية على قوتنا الذاتية، دون أن تغفل واقع العلاقات الدولية وضرورة تطوير شبكة علاقاتنا مع كل الأطراف والقوى...

وحدها قوتنا الذاتية، التي ينبغي أن نستند عليها في تصوراتنا ومشروعاتنا لحل ومعالجة مشاكلنا وأزماتنا.

وهذا يحملنا جميعا مسؤولية أن نبلور كمجال عربي وإسلامي استراتيجية بناء الذات وتطويرها في مختلف الجوانب، وتنمية عناصر القوة حتى نتمكن على الصعيد الواقعي من تحقيق تطلعاتنا وإعادة حقوقنا المغتصبة.

وإن الدرس البليغ الذي ينبغي أن نستفيده ، من راهن العراق وأحواله الصعبة، هو أن الآخر لا يحمل أجندة أخلاقية تجاهك، وإنما له مصالح ويحاول أن يستفيد من ثغراتك ونقاط ضعفك لضمان هذه المصالح وتنميتها في واقعنا.

لذلك من الضروري أن نعتني بأحوالنا ونسعى جميعا كل من موقعه إلى ضرورة الإسراع في سد ثغرات واقعنا وتطوير أحوالنا على مختلف الصعد، حتى يتسنى لنا جميعا من الحفاظ على مصالحنا وضمان أمن راهننا ومستقبلنا.

بقلم : محمد  محفوظ - القطيف

إلى أي مدى استوعب العقل والوعي العربي جدليات واقعه ، بحيث يتجاوز في نظراته إلى هذا الواقع ، كل عمليات التسطيح والتزييف والبساطة التي تصل إلى حد السذاجة في التقويم ، ويصل إلى مستوى متقدم من العقل النقدي والعملي. وأن تاريخ الأفكار الكبرى في التجربة العربية ، يدلنا على أنها جاءت من رحم المعاناة ، والسعي الجاد لتقديم إجابات شافية على أسئلة العصر ، وأن التجريد في الأفكار ، وغياب الاتصال بين ما يفكر فيه والمعيوش ، لم يكن له نصيباً وحظاً وافراً في التجربة الحضارية للعرب . وأن الطلاق بين النظرية والتطبيق والقول والعمل ، لم تعرفه التجربة الحضارية للعرب والمسلمين ، بل هناك نص قرآني يوبخ أولئك النفر ، الذين يحدثون فصلا بين أقوالهم وأفعالهم [ كبر مقتا عند الله أن تقولوا مالا تفعلون ] .

وأن هذا الفصل والطلاق ، عرفه الغرب في عصوره الوسطى ، ويصف " جاك لوكوف" هذه الحالة فيقول : في بعض الميادين كان لذلك الطلاق مضاعفات كثيرة ، إذ أصبح الفيزيائيون يفضلون أرسطو على التجارب والأطباء ، جالينوس على التشريحات . وقد برزت هذه الظاهرة في الواقع العربي والإسلامي ، حينما ساد التخلف وتراجع الركب عن تجسيد قيم الإسلام الكبرى في واقعهم الاجتماعي .

ولقد حاول بعض المفكرين العرب وبالذات في مشروع " مستقبل الأمة العربية التحديات والخيارات صياغة الجدليات الحاكمة في التاريخ العربي على قاعدة " أن أي طرح لشكل من أشكال المستقبل يهمل الجدليات الحاكمة في منطق التاريخ ، لهو طرح يجانبه الصواب ويجافي منطق التاريخ والاجتماع البشري " وهذه الجدليات ( في منظور المفكرين العرب ) تشكل نسقا يعبر عن المكان والزمان . ولقد صاغ المفكرون العرب هذه الجدليات كالآتي :

التوحد والتفتت

إذ أن التاريخ العربي " في هذا المنظور" لم يكن به ما يسمى " حالة وحدة" أو " حالة تجزئة" كلتا الحالتين ما هما إلا لحظتان تاريخيتان مؤقتتان وأن كلا منهما حملت في أحشائها البذور الجنينية للحالة الأخرى .

وقد امتلأت القرون الأربعة عشر التالية لظهور الإسلام ، بظهور كيانات صغيرة ، سرعان ما كانت تتعرض لعملية ضم واندماج سياسيين في كيانات أكبر ، لا تشمل بالضرورة كل أرجاء الوطن العربي ، ولكنها بالقطع أكبر من الوحدات السياسية القطرية المعاصرة . وبعد فترة تطول أو تقصر ، كانت عوامل التفتت تدهم هذه الكيانات الكبرى تم تبدأ عملية التوحد مرة أخرى ... وهكذا . ويضيف القائمون على مشروع " استشراف الوطن العربي أن التوحد - كعملية مجتمعية سياسية - كان يمثل اتجاها تاريخيا مستمرا وكان التفتت أيضاً ـ كعملية مجتمعية سياسية - يمثل اتجاهاً تاريخياً مضاداً والعمليتــان سـادتا التاريخ العربي من خلال جدلية مستمرة. وأهم من ذلك بالنسبة إلى المستقبل هو التأكيد على أن عوامل التوحد موجودة بالقوة نفسها التي توجد بها عوامل التفتت في التجزئة الظاهرة في الوقت الحاضر .

الداخل والخارج

والجدلية التاريخية كانت تجد لها تعبيرا أيضا في التفاعل والصراع بين قوى الداخل الأصيلة في تركيبه ، وبين قوى الخارج التي حاولت قهره والهيمنة عليه . كانت القرون الأربعة الأولى من التاريخ العربي والإسلامي فترة نهوض داخلي وعسكري وحضاري مع كل تداعياته ومصاحباته. وكانت القرون الثلاثة التالية فترة انحسار ، دهمت فيها قوى الخارج أطراف الوطن العربي وتقدمت نحو قلبه على ثلاث محاور : المغول من الشرق والصليبيون من الشمال والأسبان - البرتغاليون من الغرب .

ثم كانت القرون الخمسة التالية قرون جذب وشد بين قوى الداخل وقوى الخارج ، مع غلبة نسبية لقوى الداخل ، إذا اعتبرنا الدولة العثمانية ممثلة لها .

ثم كان القرنان الأخيرين فترة انحسار قوى الداخل وفترة مد واختراق وهيمنة لقوى الخارج . والذي فعله الاستعمار الغربي في غزواته الأخيرة هو أنه حول التفتت الذي كان بمثابة الحالة الزئبقية في التاريخ العربي إلى القرن الثامن عشر الميلادي إلى تجزئة ، وأضفى عليها مظاهر الثبات والتكلس ، بما خلقه من أطر قانونية ومؤسسية قطرية لهذه الأجزاء .

العقائد الكبرى والعقائد الصغرى

ومنذ اكتسب الوطن العربي سماته الدينية والثقافية بعد استقرار عملية الفتح العربي والإسلامي، وهو يخضع لتضاد ثنائية ثالثة في جدلية ما بين الموحدات الحضارية الكبرى في مواجهة المفرقات الثقافية الصغرى .

وقد جعل وجود الموحدات الحضارية الكبرى ، ولا يزال يجعل الوطن العربي مهيأ دائما للاستجابة لمركز سياسي واحد والمركز حضاري واحد ، وكانت مقومات هذه الاستجابة متوافرة وحينما وجدت دعوة أو رسالة أو زعيم أمكن استنفار هذه الموحدات الحضارية وكانت بالتالي عوامل التوحد السياسي تتعاظم وفي حالات كثيرة تمت ترجمتها إلى واقع عملي ، وظهرت كيانات أكبر في التاريخ العربي ولكن بالقدر نفسه والقوة نفسها كان وجود المفرقات الثقافية الصغرى في كنف أو إلى جانب الموحدات الكبرى ، يجعل المنطقة مهيأة لعوامل التفتت . فالعصبيات المحلية لم تختف من التاريخ والواقع العربي المعاصر . ويمكن استثارة هذه العصبيات خصوصا في أوقات الانحلال والانحطاط .

الروحانيات والماديات

وتجاذب التاريخ العربي والإسلامي تعبيرات أخرى عن الجدليات الحاكمة ، تمثلت في التفاعل أو الصراع بين الظروف والنصوص ، بين المدنس والمقدس ، بين الواقع المعاش والرؤى المثالية .

وقد أضفت هذه المسألة الكثير من الحيوية السياسية والروحية على التاريخ الاجتماعي العربي ، وهذه الجدليات ليست منفصلة عن بعضها البعض ، بل مترابطة أشد الارتباط ، فلا يمكن الفصل بين جدلية التوحد والتفتت و جدلية الداخل والخارج ، إذ كلما صعدت قوى الداخل ، تراجع خيار التفتت والخارج والعكس ..

وان هذه الجدليات التي صاغها المفكرون العرب ، حين دراستهم لواقع العرب الشامل لا تشكل حتمية من حتميات التاريخ الاجتماعي العربي ، وإنما هي اجتهاد فكري - اجتماعي بحاجة إلى المزيد من التأمل والدراسة ، لسبر أغوار الواقع العربي ومعرفة مكوناته الحقيقية ومحركاته الفعلية .